التبوريدة.. تراث مغربي أصيلالباب: ثقافة شعوب

نشر بتاريخ: 2015-06-08 18:30:32

حسن محمد النعمي

تختزن المغرب بالعديد من الكنوز التراثية ومنها بفن التبوريدة التي حافظت على هذا التراث العريق وذلك في الحفلات والمهرجانات والمواسم حتى كاد من العلامات المتميزة التي تتمتع به بلاد المغرب.

والتّبُوريدَة وصحاب البارود اسم يطلق على عروض فروسية، تحاكي هجمات عسكرية، تمارس في بلاد المغرب العربي، في مختلف مناطقها، العربية والأمازيغية والصحراوية. 

وترجع فنون الفروسية المغربية التقليدية أو (التّبُوريدَة) إلى القرن الخامس عشر الميلادي، وتعود تسميتها إلى البارود الذي تطلقه البنادق في أثناء الاستعراض، وهي عبارة عن مجموعة من الطقوس الاحتفالية المؤسسة على أصول وقواعد عريقة جدًّا في أغلب المناطق المغربية، وخصوصًا في المناطق ذات الطابع البدوي.

وتكمن رمزيتها في تجسيدها لتعلق شعوب المغرب العربي بالأحصنة والفروسية، التي تمثل رمزًا تاريخيًّا وتراثيًّا تتوارث الأجيال العناية به. يتم في مشاهد الفانتازيا استخدام بعض ألعاب الخيل أو البارود من خلال تمثيليات لبعض الهجمات يشنها فرسان على متن خيولهم المزينة، مطلقين لعيارات من البارود. وهي ذات شعبية واسعة لدى الجمهور، وتشكل الفرجة الرئيسية للمهرجانات الثقافية والفنية (المعروفة بـ«الموسم» أو «الوعدة»)، التي تنظم في المناطق القروية المغاربية. وتتمتع بجاذبية قوية بسبب قدرتها على إبهار المشاهدين بفضل صبغة الغموض والأساطير التاريخية القديمة التي تجعلها تضفي تأثيرًا وسحرًا خاصين على محبي تلك المشاهد.

وتعد التبوريدة طقسًا احتفاليًا وفلكلوريًّا عريقًا لدى المغاربة، وهي ليست وليدة العصر، لذلك باتت مرتبطة في أذهانهم بتقاليد وعادات تجمع بين المقدس والدنيوي، حيث تصاحبها مجموعة من الأغاني والمواويل والصيحات المرافقة لعروضها والتي تحيل على مواقف بطولية، وهي تمجد البارود والبندقية التي تشكل جزء مهما من العرض الذي يقدمه الفرسان، خاصة عندما ينتهي العرض بطلقة واحدة مدوية تكون مسبوقة بحصص تدريبية يتم خلالها ترويض الخيول على طريقة دخول الميدان، وأيضًا تحديد درجة تحكم الفارس بالجواد.

وتشكل التبوريدة جزءًا لا يتجزأ من التراث المغربي الأصيل الذي يعيد الذاكرة الشعبية والمتفرجين في مناسبات عديدة إلى عهود مضت، وهنا يمكن القول إن المغاربة الذين يمتلكون الخيول المدربة على التبوريدة هم من علية القوم في القبيلة وأصحاب خبرة وشأن عظيم ونخوة وقيمة في البلاد.

والتّبُوريدَة تنشط في الاحتفالات والأعياد الكبرى، مثل حفلات الزفاف والولادات والأعياد الدينية والعقيقة والختان والمواسم الثقافية الفنية. وتمثل هذه الوصلات الفنية المغرقة في الرمزية اختزالاً للطقوس الكرنفالية والفلكلورية لدى المغاربة التي ينسجم فيها اللباس مع الغناء والرقص والفروسية والأضحية والنار.. في سياق متناغم، ثم انحسرت تدريجيًّا، في بعض المناطق المغاربية إلى الجانب السياحي الثقافي البحت. مازالت الشعوب والقبائل المغاربية تحافظ قدر المستطاع على هذه العادة رغم المؤثرات الخارجية، أهمها العولمة، وهي تعد استحضارًا لملاحمها العسكرية التاريخية، ورمزًا للقوة والشجاعة والإقدام.

والتّبُوريدَة هي بعد عسكري ورافد أساسي لرمزية الفانتازيا، التي تعد تجسيدًا للحرب، وتمتد أيضًا إلى شعائر استعراض القوة والشجاعة، بل تصل رمزيتها أيضًا إلى البعد النفسي، بوصفها استعارة رمزية للفحولة، حسب مراد يلاس شاوش، في كتابه (الثقافات والتمازج في الجزائر). وتشكل تمظهرًا فنيًا، مخففًا، للفن الحربي المرتبط بالتراث الفروسي العربي التركي الأمازيغي لأفريقيا الشمالية.

عرف المغرب أولى استعراضات التبوريدة في القرن الخامس عشر، وكان تستعمل خلالها الأقواس والنبال، قبل أن تعوض ببنادق البارود، في القرن السادس عشر. كانت ذات وظيفة شبيهة بالاستعراضات العسكرية التي تنظمها الجيوش النظامية في الوقت المعاصر، وذات وظيفة تحميسية، لحث القبائل على الجهاد ومقاومة المستعمر، وأيضًا لتخليد ذكرى الملاحم العسكرية المرتبطة بالذاكرة الجماعية للقبيلة؛ إن على المستوى القبلي المحلي، أو الوطني (مقاومة المستعمر)، وهو ما يفسر المسرحة المعاصرة التي تقضي بإعلان أسماء القبائل، في بداية الاستعراض، في استحضار للوفود الملحمي لسربات القبائل على معسكرات الجيوش، واستعراضها لقوتها ونظامها، قبل أن تندمج في المعسكر. يتسدل على هذه السياقات الأصلية للاستعراض بالتراث الفني الشفهي (الموسيقي والشعري) الذي يصاحب التبوريدات المعاصرة، وخصوصًا فن العيطة، والذي يسهب في وصف الأحداث التاريخية الأصلية على شاكلة ملاسنات قبيلتي دكالة وعبدة المستحضرة لصراعهما التاريخي حول موارد المياه، وبطولات الفارسة عائشة البحرية إبان مقاومتها للمستعمر.

رغم كونها فنًّا عربيًّا تركيًا أمازيغيًا يرجع تاريخه إلى القرن السادس عشر الميلادي؛ امتد الشغف بفروسية البارود، كموضوع فني، إلى أوروبا، بفضل المستكشفين والمستشرقين الأوروبيين الذين زاروا شمال أفريقيا، وخصوصًا، منذ نهاية القرن الثامن عشر. كان أول تمثيل للفانتازيا في الفن التشكيلي، في القرن القرن السادس عشر في أعمال الرسام الفلمنكي جان كورنليسث فرمين (1500-1559)، فانتازيا في تونس، ومبارزة عسكرية في تونس، التي رسمها، مواكبة لحملة الإمبراطور كارلوس الخامس على تونس في سنة1535.

التّبُوريدَة في الفن التشكيلي

يعد أوجين دولاكروا أول فنان تشكيلي اهتم فنتازيا التّبُوريدَة، التي كانت موضوعًا للعديد من لوحاته، بين سنتي 1833 و1847. استلهم دولاكروا أعماله من تدوينات رحلته المغربية لسنة 1832، وخصوصًا في سيدي قاسم والقصر الكبيرومكناس، التي شهد فيها استعراضات تبوريدة. قارب دولاكروا الفنتازيا بأسلوب الرسم التاريخي والحربي، مركزًا على الألوان القوية لإظهار جمالية حركية الأحصنة، كما في لوحة فنتازيا  (1832)، كما تثمين أبعاد التناسق والحركية والسياق الحربي، ويتجلى ذلك بالخصوص في لوحات: مناورات عسكرية مغربية المسماة أيضًا (فنتازيا مغربية)، وفانتازيا (1832).

يعتد الرسام والأديب أوجين فرومنتان، تلميذًا لدولاكروا، في تناول موضوع الفنتازيا، تشكيليًّا؛ إلا أنه بخلاف دولاكروا الذي كان يرجح بعد الحركة في أعماله، ركز فرومنتان أكثر على الاستحضار المكاني للأجواء المحيطة بالاستعراضات في كتابه (سنة في منطقة الساحل)، يدعو فرومنتان قراءة لاستحضار وتخيل الجماليات الرفيعة للفنتازيا، «بكل ما فيها من فوضى و تهور، وسرعة معجزة وألوانها الصارخة التي تؤجج أشعة الشمس لمعانها»؛ يصف فرومنتان في كتابه، تداخل الصيحات الحماسية للفرسان بزغاريد النساء ووقع حوافر الجياد المرهب، مما ينتج سياقًا صوتيًا فريدًا يضفي جمالية على الاستعراض.

في سنة 1867، رسم الفنان ماريانو فورتوني لوحة فانتازيا عربية، والتي تعد فريدة بين التمثيلات التشكيلية للفنتازيا، لابتعادها عن موضوع فروسية البارود، لفائدة لعب البارود الصرف (دون فرسان). تمثل اللوحة مسلحين مغاربة، يطلقون البارود، راجلين، نحو الأرض. تتجلى جمالية اللوحة في اشتداد الإضاءة في مجال الموضوع الرئيسي (المستعرضين)، والتي تسهب في إبراز تفاصيلهم وألوانهم، في تناقض درامي مع محيطهم، وخلفية اللوحة، المتسمين بالضبابية وخفوت الإضاءة.

أما الرسام الألماني أوتو فون فابر دو فاور، المشهور كرسام معارك، فقد رسم سنة 1885 لوحة فنتازيا عند التقاء قبيلتين، والتي استلهمها من سفر قاده سنة 1883 إلى المغرب، انجذب خلاله للإضاءة الطبيعية للشمس الأفريقية، وبعوالم الصحراء والبدو الرحل والفروسية.


عدد القراء: 11243

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-