الإبحار في عمق كتاب «الكتب التي التهمت والدي» لكروشالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-01-30 22:49:32

غمكين مراد

سوريا

الكتاب: "الكتب التي التهمت والدي"

المؤلف: أفونسو كروش

المترجم: سعيد بنعبد الواحد

الناشر: مسكلياني للنشر والتوزيع

تاريخ النشر: 2018

عدد الصفحات: 112 صفحة

السفر عبر الكلمات، تقمص الكلمات وإلباسها حين القراءة لأماكن وشوارع وأشخاص، لتعبر عن حياة خلفتها أعيننا بمجرد مرورها عليها، هي حياة في رحلة حيوات، بعودة إلى الماضي وقفز إلى المستقبل عبر آلة زمن الحرف في الكلمات بعيدًا عن سرعة الضوء في خلاء نظريات آينشتاين.

أفونسو كروش في روايته "الكتب التي التهمت والدي" يعيد الاعتبار إلى القارئ بل يؤسطره كإله خالق بعد أن يفني الكاتب ذاته ومعه كتابه، ويعيد خلق كتاب جديد بتحوير ما كتبه الكاتب إلى غير ما كتبه وخلق نهايات وأحداث وأفكار تترك الكتاب والكاتب تاريخًا دون آثر: "يجب أن أقول لك إن رواية دوستويفوسكي أصبحت مهجورة وخائبة" ص79 ترد على لسان صديقة راسكولينكوف بطل دوستويفوسكي في "الجريمة والعقاب".

صبي صغير يبدأ رحلته في البحث عن فيفالدو والده المبتلع من قبل كتاب مورو لويلز، آخر كتاب كان يقرأه أو المنغمس هو فيه بحثا عن فكرة خلقها الكتاب له وفيه، يبدأ الصبي من علية والده لكن ليس بما انتهى إليه والده في كتاب مورو، لأنه قبل المواجهة يريد أن يسلك طرقًا تؤدي إلى ما آل إليه والده، والطرق ليست إلا مسالك روحية معبدة بالأحرف ومردفة بأرصفة أسطر كلمات الكتاب:"إن الكتب التي تستند ظهورها إلى كتب أخرى فوق الرفوف هي عبارة عن عوالم متوازية" ص82.

حين يبدأ البحث عن استكشاف جينات الأحرف بمجهر روحه منبعثة الواحدة من الأخرى ومن ثم يطعم أو يلقح تلك الجينات بين الكتب التي تعبد له الطريق اللامرئية لروحه لتسلك مسالك الكشف عن تورية اختفاء والده الرمزي بدءًا من "الدكتور جيكل والمستر هايد" لستسفنسون ومرورًا براسكولينكوف في "الجريمة والعقاب" لدزستويفوسكي ومن ثم "فهرنهايت 451" لراي برادبوري وصولاً إلى بريتيك في "كتاب مورو" لويلز، محولاً كل الأحرف والكلمات والوجوه إلى دلائل وشواهد وأفكار في سبيل الوصول إلى نهاية لغز أبيه، هكذا يمعن في كل كتاب: "إن ذلك مثل قراءة الكلمات نرى حروفًا، فنحولها بالقراءة إلى حوار وأفكار والشيء نفسه ينطبق على الوجوه، إن للوجوه لغة ولابد من معرفة قراءتها." ص75

يرافق ابن فيفالدو في رحلته في البحث عن فيفالدو بريتيك ككلب من رواية ويلز، الكلب يستشعر طرقًا سلكها وأغوت فيفالدو، متتبعا إرهاصات النفس الباحثة عن كيفية انقلابها كانقلاب الدكتور جيكل إلى هايد مصاص الدماء وانقلاب راسكولينكوف إلى مجرم، يقودهم في ذلك ما يجول في أذهانهم لأنه في الذهن وحده يكون المرء حرًا أو مقيدًا وهذا ما يؤكده على لسان صديقة راسكولينكوف الذي بعد أن خرج من سجنه لم يشبع ندمه إلا بالتمادي في الجريمة وذلك في انقلاب كامل على دوستويفوسكي وروايته: "لقد عاش جحيمًا لأن ضميره ظل يؤرقه. لم يكن سجنه في سيبيريا وسط الأعمال الشاقة، كان سجنه الحقيقي في ذهنه، ففي الذهن يكون الناس أحرارًا أو سجناء. "ص77. وبما أن الحياة في أكثر الأحيان لا تولي اعتبارًا لما نحبه: "فنحن نرغب في المعاناة حين ندرك أننا ارتكبنا شيئًا فظيعًا، وكأننا نود أن ندفع ثمن فعلنا. ومرد ذلك إلى أن الإنسان كائن معقد تحكمه أشياء في غاية البساطة". ص69، في هذا الزمن الذي يسحبنا إلى الحياة لا رغبة منا بل انجذابًا إلى كم يسيل كشلال في الإطار المحيط بحياتنا لكثرتها: "فكل شيء يخصع للكثرة ونحن نعيش في مملكة الكم، محاطين بالأشياء كي ننسى أنفسنا وما يجري هنا بدواخلنا." ص92.

في تتبعه عملية البحث عن والده يستكشف من وراء قراءة الكتب حياة أخرى لا تحكمها قوانين الطبيعة والقوانين الوضعية، هي فقط حياة جامحة ترنو الخيال، تنحو نحو الخلق، تحفر نحو استكشاف الذات ووضعها في قالبها التي تليق بها: "إن الكائن البشري يشعر بالحاجة إلى وضع تفرده، أي اختلافه وطابعه الفريد في ما يقوم به." ص102.

أفونسو كروش في روايته هذه لا يتكلم عن رحلة حقيقية بحثًا عن والد التهمته الكتب، إنه يحفر عميقًا في الكلمات ويحفر عميقًا جدًّا في منجم الداخل من الذات باحثًا عن فحم أسود مزروع ليحوله إلى ألماس لماع نادر، وذلك حين يختار سيناريو آخر للكتب التي قرأها، ما كتب هو أدب وما يخرجه هو هي الحياة الواقع، دليل أن المتلقي لا يرضى بما حدث بالقراءة وإنما يفتح أبواب احتمالات أخرى ويقترحها بين نفسه، وهذا إنما يدل على تأثير الكتب والكاتب ورسوخ الكتابة فيه وعمق حفره لكلماتها.


عدد القراء: 2549

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-