نظرية البناء في العهود القديمةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2015-08-23 18:39:45

أ. د. مسعد بن عيد العطوي

أستاذ الأدب والنقد في جامعة تبوك

المتأمل في التكوين البشري يدرك أن آدم عليه السلام يمثل البذرة الأولى للحياة البشرية, وأن له وظائف أعده الله لها, فخلق الأرض قبله, وخلق الشجر والماء والمطر فكانت بيئة صالحة للحياة البشرية, وخلق الله آدم وجعله يستوطن الجنة ونعيمها, ثم تحول إلى نموذج أدنى بكثير, ولكن الله أعدّ آدم بمكونات عقلية وعملية وقدرات وقوى قادرة على التعامل مع البيئة المعدة قبله، والسؤال الذي طرحه كثير من المفكرين: هل تعامل آدم وأبناؤه مع البيئة الجديدة تعاملاً بدائيًا يتدرج مع ضرورياته، فلم يعرف كيف يأكل ولم يعرف كيف يصنع الأكل، ولم يعرف كيف يزرع، وكيف يبني ذلك؟ رأي كثير من المفكرين في الغرب.

 

أمّا الكتب السماوية والمؤرخون المسلمون, فيرون غير ذلك فالله رعاه في الأرض وعلمه الضروريات وحف الإنسان الأول بما يجعله يبني الحياة وتنقسم النظريات إلى:

أولاً: الإلهام:

 والمتأملُ في التكوين البشري الذي رعاه الله وكون له البيئة الصالحة يدرك أن الله لم يترك آدم هملاً ضائعًا، بل حفه بالرعاية، منها الإلهام والاستلهام، فالإلهام: هو ما يوحي به الله لآدم أو يهديه الله له بفطرته، ومما يؤيد هذا أن الله علم آدم الأسماء كلها، والمفكر يدرك أن الأسماء وراءها دلائل، وتحمل مكونات عملية، وهي شاملة للحياة، ففي كل اسم دلالة قبل المطر والشجر والغذاء والسكن، فهذه أوحت لآدم بالعمل الحياتي، فهو رأى آلة الزراعة, وأخذ يزرع, وكذلك أدوات البناء، وألهمه البناء واستنبط معالم من أسماء البناء؛ يؤخذ شاهد لذلك, نقل عن الضحاك عن ابن عباس: علمه الأسماء كلّها التي يتعارف بها النّاس: (إنسان ودابّة وأرض وسهل وجبل وفرس وحمار وأشباه ذلك)1 وآدم يدرك دلالتها والعمل بها ونطقها.

ومن الدلائل الكبرى على التوجيه الرباني لآدم مع إتاحة العمل للعقل والتفكير: مما روى: (إن أول ما خلق الله القلم, وقال له: اكتب .. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن)2 هذا الحديث دلنا على علم الله بما هو كائن، كل كائن، وهو متعلق بكل كائن يعمل، كما هيئ الله له بالإلهام والتفكير وبالوحي للمصطفين الأخيار، والله بث علمه للملائكة وللجن وللبشر، كل في ما هو بدء بمهمته التي خلقها الله لها، وما هو ضروري له وتحت قدراته، وأفسح المجال للتأمل والتدبر فيما هو تحت قدرات العقل أو ما تعمله الغرائز، مثل الهضم, وحب الأمومة, وحب الإنجاب، وأما العقل فمجاله أوسع فهو يولد اكتشافه من خلال الإلهام والتقليد والحاجة الضرورية لكل موقف وكل هذه وسائل التطور البشري, وبدأت الحكاية بلباس الستر لعورتيهما بعد التعرية في الجنة  وإنزالهما أمّا في الأرض فلما التقي آدم وحواء وكل منهما عاريا؛ (فلما رأى الله تعالى عري آدم وحوّاء أمره أن يذبح كبشًا من الضأن ومن الثمانية الأزواج التي أنزل الله من الجنّة, فأخذ كبشاً فذبحه وأخذ صوفه, فغزلته حوّاء ونسجه، آدم فعمل لنفسه جبّة، ولحواء درعًا وخماراً، فلبسا ذلك)3 وقيل أرسل إليهما ملَكًا يعلمهما ما يلبسانه من جلود الضأن والأنعام, وقيل: كان ذلك لباس أولاده, وأمّا هو وحوّاء فكان لباسهما ما كان خصفًا من ورق الجنة، ثم تطور الغزل والنسيج بمعرفة البشر وعقلانيته إلى ما نحن فيه.

ثم جاءت مرحلة البناء والدور وأولها بناء الحرم، فكان بإيحاء وإلهام من الله, (فأوحى الله إلى آدم: إن لي حَرَمًا حيال عرشي، فانطلق وابن لي بيتًا فيه، ثمّ طف به كما رأيت ملائكتي يحفون بعرشي, فهنالك أستجيب لك ولولدك من كان منهم في طاعتي, فقال آدم: ياربّ وكيف لي بذلك! لستُ أقوى عليه ولا أهتدي إليه, فقيض الله ملكًا فانطلق به نحو مكّة, وكان آدم إذا مرّ بروضة قال للملك: انزل بنا هاهنا, فيقول الملك: مكانَك, حتى قدم مكّة, فكان كلّ مكان نزله آدم عمرانًا وما عداه مفاوز, فبني البيت من خمسة أجبل: من طور سينا, وطور زيتون, ولبنان, والجُودي, وبني قواعده من حِراء؛ فلمّا فرغ من بنائه خرج به الملك إلي عرفات فأراه المناسك التي يفعلُها الناسُ اليوم, ثم قدم به مكّة فطاف بالبيت أسبوعًا, ثمّ رجع إلى الهند فمات على نُود)4 وقال عن بيوت الله سأجعل فيها بيوتًا ترفع لذكري, وأجعل فيها بيتًا أختصه بكرامتي، وأسميّه، بيتي، وأجعله حرمًا آمنا، وأشار إلى أن آدم هو الذي عمر البداية بالحرم ونتيجة للوحي والإلهام لآدم يرى بعض العلماء أن الله علمه صنعته من كل شيء تعمره (أنت يا آدم ما كنت حيًّا, ثم تعمره الأمم والقرون والأنبياء من ولدك أمّة بعد أمّة, ثمّ أمر آدم أن يأتي البيت الحرام, وكان قد أهبط من الجنة ياقوتة واحدة, وقيل: دُرّة واحدة, وبقي كذلك حتى أغرق الله قوم نوح عليه السلام, فرفع وبقي أساسه, فبوّأ الله لإبراهيم, عليه السلام, فبناه على ما نذكره إن شاء الله تعالى)5.

الزراعة والنار: أمّا الزراعة فقد كان جبريل رسول الله إلي آدم وزوده بصرة من حبوب القمح، وأمر جبريل آدم أن ينثر تلك الحبوب في الأرض فأنتجت حب الحنطة, «وأنزل عليه جبرائيل بصرّة فيها حنطة, فقال آدم: ما هذا؟ قال: هذا الذي أخرجك من الجنة, فقال: ما أصنع به؟ فقال: انثره في الأرض, ففعل فأنبته الله من ساعته, ثّم حصده وجمعه وفركه وذرّاه وطحنه وعجنه وخبزه, كلّ ذلك بتعليم جبرائيل, وجمع له جبرائيل الحجر والحديد فقدحه فخرجت منه النار, وعلّمه جبرائيل صنعة الحديد والحراثة, وأنزل إليه ثوراً, فكان يحرث عليه» قيل: هو الشقاء الذي ذكره الله تعالى بقوله: (فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) 6. ومن الوحي والإلهام سفينة نوح عليه السلام.

ثانيًا: الاستلهام:

فالاستلهام: هو نظرة التأمل في الجنة والسير على موكبها, وعندما بنى آدم بيت الله وحرمه أضحى البناء مثالاً يحتذى فأخذ آدم وأبناؤه يبنون منازل لهم على شاكلة البناء بما يتناسب وحاجتهم الضرورية للإيواء والذرى والكن وحماية من البرد والشمس ومستقرًّا لهم ومن الاستلهام ما رآه قابيل لحفر القبور حين رأى الغراب يحفر للغراب الميت ليواريه، قال تعالي: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) 7.

 ثم جاءت مرحلة وفاة آدم، فأتت الملائكة لتغسله، وروى أُبيُّ بنُ كعب عن النبي  صلى الله عليه وسلم: (أن آدم حين حضرته الوفاة بعث الله إليه بحَنوطه وكفنه من الجنة, فلما رأت حوّاء الملائكة ذهبت لتدخل دونهم, فقال: خليّ عني وعن رسل ربّي. فما لقيتُ ما لقيتُ إلاّ منك, ولا أصابني ما أصابني إلاّ فيك, فلما قُبض غسلوه بالسَّدْر والماء وترًا، وكفّنوه في وِتْرٍ من الثياب، ثمّ لحدوا له ودفنوه, ثمّ قالوا: هذه سُنّة ولد آدم من بعده)8.

ومما رآه آدم في الجنة وما جاء على لسان الرسل والأنبياء بالترغيب بالجنة وأوصافها؛ وقالوا إن مهلائيل وهو ابن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم: إنه أول من بنى البناء، وأستخرج المعادن، وأمر أهل زمانه باتخاذ المساجد, وبني مدينتين كانتا أول ما بُني على ظهر الأرض من المدائن, وهما مدينة بابل, وهي بالعراق, ومدينة السُّوس بخُوزِستان, وكان ملكه أربعين سنة.

مرحلة التنظيم:

وقيل هو أوّل من استنبط الحديد وعمل منه الأدوات للصناعات، وقدّر المياه في مواضع المنافع، وحضّ النّاسَ على الزراعة واعتماد الأعمال, وأمر بقتل السباع الضارية واتخاذ الملابس من جلودها والمفارش, وبذبح البقر والغنم والوحش وأكْل لحومها, وإنّه بنى مدينة الريّ, قالوا: وهي أول مدينة بنيت بعد مدينة جيوميرث التي كان يسكنها بدنباوند, وقالوا: إنه من وضع الحكام والحدود, وكان ملقبٍّا بذلك يُدعى بيشداد, ومعناه بالفارسية أول من حكم بالعدل, وذلك أنّ بيش معناه أوّل, وداد معناه عَدَل وقضى9.

وهو أوّل من قطع الشجر وجعله في البناء, وذكروا أنه نزل الهند وتنقّل في البلاد وعقد على رأسه تاجًا, وذكروا أنه قهر إبليس وجنوده ومنعهم الاختلاط بالنّاس وتوعّدهم على ذلك وقتل مرَدَتهم, فهربوا من خوفه إلى المفاوز والجبال, فلمّا مات عادوا بالجن والكهنة والسحرة, فبنوا مدائن كثيرة جميلة, وقد غمرتها الريح أو أخفاها الله، وكثير من الأبنية تحمل خاصية أمّا من الجن أو من السحرة، كما تشير المباني الفرعونية التي لها خاصيات متعددة مثل القصر الذي يحتوي على صور للحيوانات، فإذا أقبل جيش العدو فإنهم يرمون تلك الصور فينهزم الجيش الغازي إنها مدائن أسطورية لا تستبعد الحقيقة فيها.

وقبلها أشاد شداد بن عاديا مدينة في حضرموت على شاكلة الجنة، تحاذيا للأنبياء والرسل عليهم السلام حين وصفوا مباني الجنة، وذكر التاريخ أوصافها بما لا يخطر على بشر الآن, وقد حجبها الله ما عدا أحد الصحابة فذكرها لأبي بكر، وصدق ذلك بما سمعه عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

مرحلة التعليم والتصنيف للمهن:

ذكروا أن الملك جمشيد وهو الحفيد الخامس أو السادس لآدم، وهو أول من كون المهن وصنف الأعمال، وأوكل لكل صناعة معلمين ومدربين، وهو أول من ملك في بابل، وجمع شتات المعارف والمهن، وجعلها علمًا متوارثًا، فهو بدأ بصنع الحديد والسيوف والدروع وكثير من الأسلحة، وقويت دولته حتى أخذ بالتنعيم والرفاه, فصنع الحرير والألبسة وأقسام مصانع عليها مهرة متدربين وبدأ له في مرحلة تالية: بتصنيف المجتمع, فطبقة مقاتلة, وطبقة علماء, وفقهاء, وطبقة كتاب وصناع, وطبقة حراثين وسخر المجتمع لخدمة السلطة، وهذا التصنيف قبل تصنيف الفلاسفة الغريق.

ثم بعد ذلك حارب الشياطين، وسخر الشياطين يعملون له قطع الحجارة والصخور من الجبال، وعمل الرخام والجص وسائر مكونات البناء ومكونات العمران، ومن هنا ندرك أن بداية الكون تعتمد على الإلهام والاستلهام وتسخير الجن والشياطين, الأمر الذي يفوق قدرة الإنسان منفردة.

ثالثًا: النظرية المائية:

كانت الأرض غير الأرض الحالية, فكانت أنهارًا وبحيرات وعيونًا جارية, وأمطارًا غزيرة، ولما تتجسد كثير من الأودية بفعل السيول، ولذلك كانت قمم الجبال وما يسمى بالقنة وهى سطوح الجبال الممتدة, كانت مكان البناء وتكثر المباني على سفوح الجبال، وترى معالم البناء بالقرب من الكهوف وتكثر الأبنية فوق الجبال المطلة على الأودية ذات الحجارة الكثيفة, إن الجزيرة وجبال السروات تمثل المشهد تمامًا, فالذي يطوف فوق الجبال وعلى قمم الحرات المنبسطة والمتدبر في أحضان قمم الجبال يذهل من وجود الأبنية المندثرة, ويذهل من كثرة الأنفاق تحت هذه القمم.

إن تعدد المباني وتعدد أشكالها يخضع للمكان والزمان وتطور الأجيال وقوة الرجال وتضاعف قدراتهم.

ومن العوامل المائية الطوفان الذي غمر الأرض جميعًا فهو ظل زمنًا طويلاً حتى قل أثره مما جعل الناس يبنون في الأرض الجافة.

رابعًا: نظرية الرياح:

كانت الرياح تقوى وتخبو، وكانت تحمل البرودة الشديدة, فدعت الناس إلي البناء في أحضان الجبال وفي المنخفضات وفي التلاع وفي الحقوف (الأحقاف).

ثم جاءت الريح القوية على قوم عاد, فطمرت المباني, واقتلعت الأشجار وأهلكت البشر، فكانت عبرة للناس, ولكن بعد قرون نسي الناس أثرها, ورأى الجبابرة أن قوم عاد لم يتخذوا الحيطة والحذر, فتداعي قوم ثمود إلى الجبال ونحتوها وجعلوها مأوى للحاجة، فهم وضعوا لها أبواب حديدية شديدة يلجئون إليها إذا اشتدت الرياح, وقد أشار التاريخ إلى تلك الأبنية، وأنها مساكن وقت الحاجة، وأيدهم القرآن الكريم، ويروي التاريخ أن ملكهم جندع بن عمرو أمر بالبناء وتحت الجبال، ويبرر ذلك إنما هلكت عاد لأنها لم تشيد مبانيها في الجبال.

الهوامش:

 

1 - الكامل 1/72

2 - الكامل 1/62

3 - الكامل 1/78

4 - الكامل 1/78

5 - الكامل ا/79

6 - طه/177

7 - المائدة/31

8 -  الكامل 1/89

9 -  الكامل 1/89


عدد القراء: 4677

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

التعليقات 1

  • بواسطة حمد الجعيدي من المملكة العربية السعودية
    بتاريخ 2015-10-31 09:31:26

    مقال جيد أرى الأستاذ الدكتور جمع فيه بعض الاحتمالات لنشأة الحضارة الإنسانية، على منهج بعض السابقين الذين يجمعون الروايات من دون حكم عليها في تقميسش بدون تفتيش. لا شك أن الإنسان متميز في هذه الأرض، ومستخلف فيها، وممكن منها، وقد أمر الله الإنسان بالسير في الأرض والنظر - وهذه من مناهج البحث- ليرى كيف بدأ الخلق، فهذه مسألة متروكة للبحث العلمي، نعم ما صح فيه الخبر المعصوم نقف عنده لأنه الحقيقة وما يقابله من نظريات ظن، ولكن ما لم يأت فيه خبر يستمع فيه إلى الخبراء من غير جزم، وما ذكر من أخبار وروايات غير مثبتة يقاس بالسنن وقوانين العمران على رأي ابن خلدون.

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-