السّرديات المتعالية على الميدياالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-09-30 14:04:18

أ.د. سيدي محمَّد بن مالك

المركز الجامعي مغنيَّة - الجزائر

ترجمة: أ.د. سيدي محمَّد بن مالك

تأليف: رافاييل باروني وأناييس غودمون

تقديم:

يتناوَل رافاييل باروني (Raphaël Baroni) وأناييس غودمون (Anaïs Goudmand)، في هذا المقال(1)، مصطلح «السّرديات المتعالية على الميديا» الذي يشير إلى العلم الذي يدرس العلاقة بين المحكيّ الأدبي ووسائط التّواصُل أو الميديا(2)، وتجليات السّردية في تلك الوسائط التي تُعيد إنتاج المحكيّ، وما يصاحب ذلك من تعديلٍ في حبكة النّص السّردي ومضمونه الحكائي. إنّ موضوع هذا العلم، الذي بدأ يتشكّل في الأعوام الأخيرة، هو المحكيّ المتعالي على الميديا(3)؛ أيْ المحكيّ الذي يتجاوز قواعد الكتابة الأدبية وتقاليدها إلى قواعد وتقاليد أخرى تحتكم إلى صناعة الميديا، وهو ما يقتضيه تحويل المحكيّ الرّوائي، مثلًا، إلى محكيّ سينمائي أو محكيّ تلفزيوني أو محكيّ مرسوم. غير أنّ ما يحول بين السّرديات المتعالية على الميديا، بوصفها علمًا، والمحكيّ المتعالي على الميديا، باعتباره موضوعًا لذلك العلم، هو ارتهان المقارَبة المتعالية على الميديا ببعض مقولات السّرديات البنيوية، نظيرَ البنية السّردية وتصوُّر الرّاوي القائم في المحكيّات الشّفوية. في حين، تستدعي معالجة المحكيّ المتعالي على الميديا، في منظور هذا الضّرب المستحدَث من السّرديات، الالتفات، كذلك، إلى مظاهره التّداوُلية والتّكنولوجية والثّقافية.

نصّ المقال:

نشهَد، منذ بضعة أعوام، تعدُّدًا في الأعمال المبرمَجة والمخصَّصة لمفهوم السّرديات المتعالية على الميديا. ومع ذلك، ومثلما يشير إليه يان – نويل طون (Jan – Noël Thon)، فإنّ استعمال صفة التّعالي الميديائي يختلف باختلاف الباحثين. تعني السّرديات المتعالية على الميديا، بالمعنى الواسِع، والأكثر استعمالًا ولكنْ الأكثر غموضًا أيضًا، دراسة "الممارَسات السّردية في مختلف وسائط التّواصُل". لقد أخذ فرنسيس برطيلو (Francis Berthelot) وجون بيير (John Pier) بهذا التّعريف، حيث تهتمّ السّرديات المتعالية على الميديا، بالنّسبة لهما، "بالحضور النّسبي للمحكيّ [...] في وسائط التّواصُل غير اللّسانية"، كما أخذ به، أيضًا، فرنار وولف (Werner Wolf) الذي نظر إلى التّعالي الميديائي بوصفه مجموعَ السّمات المشترَكة بين مختلف وسائط التّواصُل: 

"يُعنى التّعالي الميديائي بالظواهر التي لا تخصّ وسيطًا تواصُليًا مُفْرَدًا و/أو التي تُفحَص في إطار تحليل مقارن لوسائط التّواصُل لا يُركِّز على وسيط تواصُليّ مرجعيّ بعيْنه. طالما أنّها لا تخصّ وسيطًا تواصُليًا، فإنّ هذه الظّواهر تبرز في الكثير من وسائط التّواصُل". 

ومن ثمّ، يتميّز التّعالي الميديائي عن البيْنية الميديائية(4) التي تعني التّأليف أو المزْج بين العديد من وسائط التّواصُل داخل العمل نفسه. من جهة أخرى، لا يحيل التّعالي الميديائي، في معناه الضّيق، إلى دراسة السّردية في تجسيداتها الميديائية المتنوّعة، بل "إلى إستراتيجيات التّمثيل السّردي المتعالية على الميديا (وإلى ظواهرَ أخرى متعاليةٍ على الميديا) التي تظهر عبْر مجموعة من وسائط التّواصُل السّردية". في هذا التّعريف المستمدّ من أعمال جنكينز (Jenkins)، يُحيل التّعالي الميديائي، أساسًا، إلى دراسة المجموعات الكبرى من المتعاليات على الميديا، كما أنْشأتها امتيازات التّرفيه خصوصًا. 

نأخذ، هنا، بالمعنى الواسع للسّرديات المتعالية على الميديا لنحيل إلى الاستعمال العقلانيّ للتّصوّرات التي لا تقتصِر على دعامة واحدة، مادام أنّ المحكيّ المتعالي على الميديا يعني شكلًا سرديًا مُتاحًا في شتّى وسائط التّواصُل المتناسقة. نستطيع أن نُقيمَ صلات بين السّرديات المتعالية على الميديا والمحكيّ المتعالي على الميديا، لأنّ الأولى يُمكِن أن تتّخذ الثّاني موضوعًا، ولأنّ التّرابط القويّ، أكثر فأكثر، بين وسائط التّواصُل المعاصرة يحثّ، دون شكّ، على توسيع نظرية المحكيّ التي ينبغي لها أن تتواءَم مع هذه المواضيع الجديدة. ذلك ما يؤكّده يان – نويل طون:  

"إذا سلّمنا بأنّ جزءًا مُهمًّا من الثّقافة الميديائية المعاصِرة قد تمّ تعريفه من خلال التّمثيلات السّردية، وإذا قبلنا بأنّ فحْص تماثلاتها و، كذلك، اختلافاتها يمكن أن يُسْعِف في تفسير [...] المواءَمات البيْنية الميديائية وامتيازات التّرفيه [...]، مع الإسهام في فهمٍ شاملٍ أفضل لأشكال الأعمال السّردية ووظائفها عبر وسائط التّواصل، فلا شكّ أنّ الدّراسات الميديائية ستكون بحاجة إلى سرديّاتٍ متعاليةٍ على الميديا حقيقيةٍ".  

لا بدّ من الإشارة إلى أنّ عبارة سرديّات متعالية على الميديا يمكن أن تُعَدَّ حَشْوًا، بما أنّ نظرية المحكيّ، في سنوات 1960 و1970، قد استحدثت اللّفظة الجديدة سرديّات لغرض واضح هو التّحرّر من قيود النّظرية الأدبية. ومن ثمّ، فإنّ البعد المتعالي على الميديا لهذا التّخصص النّظري قد تبنَّته الكثير من الأعمال التّأسيسية. إنّ السّرديات، بخلاف الشّعرية أو النّظرية الأدبية، لا تحيل، إذًا، إلى وسيط تواصُليّ بعينه، نظيرَ الأشكال الشّفوية أو المكتوبة؛ إذ، مثلما يؤكّد بارت (Barthes): كلّ «مادة» تبدو «مناسبةً للإنسان ليعهد إليها بمحكيّاتِه». ومع ذلك، تؤكّد رايان (Ryan) على أنّ توسيع السّرديات إلى وسائط التّواصُل «المحاكاتية» طالما أعاقه التّصوّر المستمدّ، جزئيًا، من أعمال جينيت (Genette)، بحيث يقتصر مجالُ السّرديِّ، بموجبه، على المحكيّات المتلفَّظة شفويًا من قِبَلِ الرّاوي.

إذا كانت السّرديات، التي يُعرِّفها جينيت بأنّها «موضوعاتيةٌ»، تبدو أكثر انفتاحًا على المقارَبات المتعالية على الميديا، فإنّ بها علّةَ التّركيز، حصرًا، على بُنى الحكاية المروية، التي ينظر إليها بريمون (Bremond) بوصفها «طبقةَ دلالةٍ مُستقِلّةً». إنّ هذا الحصرَ قد أفضى إلى تجاهُل نسبيّ، في هذه الأعمال، للتّرابط الحتميّ بين الشّكل والمضمون. بيْد أنّ دراسة عمليّات المواءَمات تُظهِر أنّ المرور من وسيط تواصُليّ إلى آخر – وهو ما يسمّيه جينيت «التّعالي الصّيغي»(5) – يفضي، بالضّرورة، إلى تغييرات في الطّريقة التي تنبني بها الحكاية ويُحدِث تحويراتٍ مُهِمَّةً في التّجربة الجماليّة.

فيما يتعلَّق بالسّرديات التي يسمّيها جينيت «صيغيّة»؛ أيْ المقارَبات التي تهتمّ بالطّريقة التي تتجسّد بها الحكاية في «تمثيل» أو «خطاب»، تشير رايان إلى وجود اتّجاه لتقليص حقل البحث إلى المحكيّات الشّفوية فحسب. وتضيف أنّ هذا التّقليص يرتبط بالشّطَط في توظيف صورة الرّاوي في أعمال جينيت الذي يُقابِل «المحكيّات» التي تصدُر، حسْبه، عن الصّيغة الحكائية(6) حصرًا بالحكايات الممثَّلة بصيغة مُحاكاتية، مُدْرِجًا، ليس فقط، الفنون الدرامية، بل، أيضًا، التّمثيلات الفيلمية أو المرسومة(7). 

ومع ذلك، نلاحظ، مثلما يلاحظ فرانسوا جوسط (François Jost)، ظهورًا مُبْكِرًا لنظريةِ المحكي السّينمائي المؤسَّسةِ على تصوّر وجود تلفُّظ أو «خطاب» فيلمي، حتّى في غياب راوٍ شفويٍّ صريحٍ. وتدين هذه المقارَبة، كثيرًا، لمفهوم «المصوِّر الكبير»(8) المستحدَث من قِبَلِ لافاي (Laffay) في 1947، والذي يعني مقامًا سرديًا يُنظِّم العرض السّينمائي؛ نوعًا من «عارِض الصّور»، حيث كان من شأن استعمال الصّوت العالي(9) في سينما الأربعينيات الإسْهامُ في الكشْف عنه.

لقد فتح هذا المنعطَف الثّقافي في مجال نظرية المحكيّ الطّريق أمام ما حُدِّدَ، بالتّناوب، بوصفه سرديّات «ميديائية»، و«بين ميديائية»، أو «متعالية على الميديا»، وأسْهَم، كذلك، في تطوير التّأمّل في ما أسماه ماريون (Marion) الـ«جاذبية الميديائية للمحكيّات»(10)؛ أي الملاءَمة الممكنة بين بعض المضامين (موضوعات، وأجناس، أو حوافز) ووسائط التّواصُل المفضّلة (مثل العلاقة بين الشّريط المرسوم ومحكيّات البطولة الخارقة، وبين السّينما والقصّة المثيرة(11)، وبين الرّوايات والدراما النّفسية،...).

لقد اتّسمت الأعوام الأخيرة بانتشار سريع لدراسة السّردية التي امتدّت إلى مختلف وسائط التّواصل، لاسيّما الشّريط المرسوم، والرّواية – الصّورة، والمسرح، والمسلسلات التّلفزيونية، وألعاب الفيديو، والخطاب الصّحفي، والصّور المرسومة أو الفوتوغرافية، والموسيقى الآلاتية. كما تهتمّ الأبحاث، بشكل مُتزايِد، بسردية «المحكيّات المتسلسِلة»، خاصّةً عندما تنتشر في شكل «متعالي على الميديا».

ابتغاء تجنُّب تقليص حدود السّرديات إلى الأعمال الشّفوية فحسب، تقترح رايان تحويلًا بالقياس إلى التّصوّرات المستمدّة من اللّسانيات. إنّها تقترح الاحتفاظ بتعريف «معرفيّ وليس لفظيًا» للسّردية، وهو ما يجعلها تؤكّد على أنّ «المحكيّ ليس موضوعًا لسانيًا، بل تمثيلًا ذهنيًا». يقترِن هذا المبدأ بالاهتمام بالخصائص الميديائية للأشكال السّردية، الذي يدعو إلى مراعاة مزايا سرديّات «مقارنة» أو «واعية» بالآثار التي تُحدِثها ماديةُ الدّعامات والتّاريخ الثّقافي لوسائط الإعلام في الطّريقة التي تُروى بها الحكايات. إنّ العناصرَ التي تُراعى في تحديد وسائط التّواصل متعدِّدةُ الأبعادِ، مثلما يشير إليه يان – نويل طون، الذي يأخذ بالتّقسيم الثّلاثي المقترَح من قِبَلِ رايان إلى معايير سيميائية وتكنولوجية وثقافية:

"في سياق سردانيّ على أيّ حال، يبدو أنّ إجماعًا ينبثق، ويتمثّل في فهم المصطلح بوصفه يحيل إلى تصوّرٍ متعدِّدِ الأبعادِ، يؤلّف، على الأقلّ، بين بعد سيميائي – تواصُلي، وبعد مادي/تكنولوجي، وبعد ثقافي – مُؤسَّساتي".

حسب رايان، فإنّ سرديّاتٍ تُعنى بآثار وسائط التّواصُل في المحكيّ ينبغي لها أن تكون واعيةً، كذلك، بحدود الحتميّة الميديائية، وأن تتجنَّب الاختزالية، باعتماد وجهة نظرٍ مقارنة، وهو ما يفضي بها إلى استخلاص أنّ الميديائية «خاصيةٌ علائقيةٌ وليست مطلَقةً». من أجل أن يكون تعريف وسائط التّواصُل عمليًا، ينبغي، إذًا، أن يكون توافُقيًا قبل كلّ شيء. وفي هذا الاتّجاه، يذهب فرنار وولف أيضًا:

"إنّ الوسيط التّواصُلي [...] وسيلةُ تواصُلٍ مُحدَّدةٌ مُواضَعةً وثقافيًا، يتميّز، ليس فقط، بدعامات (أو دعامة) تقنية أو مُؤسَّساتية معيّنة، ولكن، أساسًا، باستعمال أحد أو عدّة دعامات سيميائية في بثّ المضامين التي تشمل، من غير تقييدٍ، «رسائلَ» مرجعية. عمومًا، تُحدِث وسائط التّواصُل تبايُناتٍ حول نوعية المضمون الذي يمكن أن يُتناوَل، والطّريقة التي تُعرَض بها هذه المضامين، والطّريقة التي يُتعرَّف بها إليها".

يتمثّل دور السّرديات المتعالية على الميديا في تحديد ثوابت السّردية، مثل المبادئ التي تُوجِّه بناء العالَم السّردي، والطّريقة التي تتناغَم بها الزّمنية السّردية عبر سلسلة من العُقَد والنّهايات، والكيفية التي ينبني بها المنظور السّردي ويحدّد مختلف أنماط الوضعيات المضمَرة. يتعلّق الأمر، كذلك، بدراسة كيف تستخدم المحكيّات المصادر الخاصّة بالدّعامة التي تندرج فيها ابتغاء تحيين هذه الثّوابت في شكل فريد.     

 

الهوامش:

 

  1. Raphaël Baroni et Anaïs Goudmand, «Narratologie transmédiale / Transmedial Narratology», Glossaire du RéNaF, mis en ligne le 21 mars 2019, URL: https://wp.unil.ch/narratologie/2019/03/narratologie-transmediale-transmedial- narratology/

(2)  نفضّل استعمال عبارة «وسائط التّواصل»، بوصفها مقابلًا للمصطلح الفرنسي «Médias»، بدلًا من عبارة «وسائط الإعلام» أو حتّى «وسائل الإعلام»، لأنّ هذا المصطلح المركَّب يحيل إلى العلاقة التّواصُلية والتّداوُلية المفترَضة بين المرسِل (المؤسَّسة التي تستثمر الوسيط أو الدّعامة) والمرسَل إليه (المستقبِل عمومًا)، والتي تتمحور حول الرّسالة المبثوثة، وهي، في هذا المقام، المحكيّ المتعالي على الميديا (المحكيّ السّينمائي مثلًا)، حيث يُتعرَّف إلى مستوى تلك العلاقة من خلال سبْر الآراء الذي تضطلع به هيئات ومراكز متخصِّصة.

(3) Le récit transmédiatique.

(4) L’intermédialité.

(5) La transmodalisation.   

(6)  Diégétique.

(7) نسبةً إلى الشّريط المرسوم. (Bédéiques)

(8) Le grand imagier.

(9)  La voix over.

(10) La médiagénie des récits.

(11) Thriller.


عدد القراء: 2024

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-