«كريسماس في مكة» رواية المعاناة الفردية والجماعيةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-09-30 22:09:24

عزيز العرباوي

كاتب وناقد - المغرب

الكتاب: كريسماس في مكة

المؤلف: أحمد خيري العمري

الناشر: دار عصير الكتب

سنة النشر: 2019

عدد الصفحات: 328 صفحة

تحكي رواية "كريسماس في مكة" للروائي العراقي أحمد خيري العمري، الصادرة عام 2019 عن دار عصير الكتب، عن محطات أساسية في حياة أفراد أسرة عراقية تفرقت في بقاع العالم جراء الحرب العسكرية والسياسية المدمرة التي عرفتها البلاد خلال حقبة من تاريخها، منذ عام 2003م، حيث تحاول الوقوف على أحاسيس هؤلاء الأشخاص أثناء التقائهم بمكة المكرمة بهدف القيام بعمرة. يقول الروائي عن روايته على الغلاف الأخير منها: "الأسماء هي هيَ الملامح تغيرت قليلاً أو كثيرًا لكنهم لم يعودوا نفس الأشخاص، أصبحوا أشخاصًا آخرين مختلفين لو أن كلاً منهم التقى بنفسه قبل الفراق لأنكرها فكيف سيكون اللقاء بالآخرين؟ هل يمكن للمِّ الشمل أن يحدث حقًا أم أنه سيكون اللقاء الأخير الذي يتأكدون فيه أن لا جدوى من لقاء قادم يتأكدون فيه من أن كل شيء انتهى ومن الأفضل ختمه بختم النسيان؟ هل ستكون تلك الرحلة مقدمة لرحلة ذهاب وإياب أم أنها ستكون رحلة باتجاه واحد لا يلتفت إلى ما مضى؟ الشيء المؤكد الوحيد هو أن تلك الإجازة في مكة ستكون استثنائية جدًا".

لقد عرفت حياة الشخصيات الساردة (مريم، ميادة، سعد، حيدر، أحمد، إسحاق) الكثير من المحطات التي خلقت نوعًا من التحول الاجتماعي لديهم والتأسيس لحياة مختلفة بعد اللقاء بمكة المكرمة ومحاولة التصالح فيما بينهم ونسيان الماضي وصراعاته وخلافاته الأسرية المليئة بالمشاكل والتي أنتجت فُرْقة وبعْدًا وغربة قاتلة. فمكة، باعتبارها الفضاء الروائي الذي التأم فيه شمل الأسرة من جديد، يعبر عن حالة وجدانية لدى الجميع من خلال شعورهم بأهميته الدينية والاجتماعية والنفسية التي تفرض عليهم نسيان كل شيء والتفكير في المستقبل، وكأننا بمكة المكرمة تعيد سيرتها الأولى ومكانتها عند المسلمين جميعهم باعتبارها موطن النبوة والتئام الشمل وجمع شمل الإخوة رغم البعد والتنافر السياسي والإيديولوجي الذي قد يكون سببًا في الفرقة والعداوة. مكة إذن، ومن خلال الرواية، أعادت الأحبة إلى حضن واحد ومكان واحد ففرضت عليهم جميعًا نسيان الماضي وما يحمله من ضغائن وأحقاد. مكة هي موطن الرابطة الدموية والأسرية وفضاء تصريف الحب والعشق الإلهي والإنساني لدى الخائبين والتائهين والغافلين.

كانت فكرة ميادة الأرملة العراقية التي فرتْ بابنتها من جحيم الصراع المذهبي الذي راح ضحيته زوجها وأبو ابنتها الوحيدة مريم التي حرمت حنان الأب وهي في سن ست سنوات، الفكرة التي دفعتها إلى نسيان الماضي والرغبة في قبول اعتذارها فيما فعلته وباحت به تجاه أسرة زوجها القتيل عمر من اتهامات وكلام جارح، أن تكون مكة المكرمة هي المكان الذي يفرض عليهم قبول اعتذارها ونسيان كل ما جرى وما قالته في حقهم جميعًا.

إن رواية "كريسماس في مكة" تحكي قصة عائلة عراقية تعرضت للعديد من المشاكل والمعاناة التي اكتوى بها الشعب العراقي بأكمله على مرّ العصور، الشعب الذي عاش أكبر مدة من تاريخه في الصراعات السياسية والإيديولوجية المرتبطة أساسًا بالصراع المذهبي والعرقي. لقد استطاع الكاتب أحمد خيري العمري من أن يقارب ما أمكن الكثير من المواقف السياسية والدينية التي عاشها هذا الشعب، حتى تاريخيًا، وذلك باستدعاء هجوم التتار بزعامة هولاكو على بغداد وتدميرها كليًا وقتل شعبها والخليفة العباسي، حيث استدعى هذه الحوادث التاريخية نظرًا لتشابهها بمعاناة الشعب العراقي خلال السنوات الأخيرة والتي تعرض فيها العراق لغزو التتار الجدد والمتمثل في الغزو الأمريكي الذي أنتج خرابًا ودمارًا وقتلاً وتشريدًا للشعب العراقي وتفرقة بين أفراده باسم عناوين دينية ومذهبية وعرقية وسياسية أرجعت البلاد إلى القرون الوسطى بعد أن كانت تشق طريقها نحو التقدم والتطور.

لقد ناقش الكاتب في الرواية العديد من الأفكار والمواقف المرتبطة أساسًا بالقناعات السياسية والدينية منها: الصراع بين التدين واللاتدين (مريم، سعد، حيدر)، الإيمان بمؤسسة الزواج ورفضها أو عدم الإقرار بأهميتها في العلاقات العاطفية (بين سارة وأبيها حيدر)، القتل على الهوية المذهبية والسياسية (خطف عمر أبي مريم وقتله وتشويه جثته من طرف الشيعة باعتباره سنيًا)، الميز العنصري (موقف حيدر من صديق ابنته سارة لوك باعتباره شخصًا إفريقيًا من السود وحملها منه سفاحًا)،... إن جميع الشخصيات الفاعلة في الرواية كانت تعيش نوعًا من المعاناة ومن الصراع الداخلي الذي يدفعها إلى تبني موقف مختلف عن مواقف الآخرين والإعلان عنه بكل صراحة وجرأة، خاصة تلك الشخصيات التي هاجرت إلى الغرب وعاشت مدة طويلة فيه وتشبعت بقيمه وشيدت لنفسها قيمًا مختلفة عن القيم الأصلية التي كانت مقيدة لحريتها إلى أبعد الحدود كما كانت تعتقد. فمريم مثلاً تشبعت بثقافة جديدة ترفض قيم أبويها الشرقية التي تكبل حرية المرأة وتستعبدها حسب اعتقادها وما اكتسبته في الغرب من أفكار غير صحيحة بالمطلق، في حين نجد أمها ميادة قد حافظت على قيمها الشرقية والإسلامية التي حاولت جاهدة أن تحافظ عليها حتى في تربية ابنتها رغم وجود مثبطات وأشكال للتمرد من طرفها على طريقتها في تعاملها معها، لكنها نجحت إلى أبعد الحدود في ذلك خلافًا لأخيها الذي فشل في تربية ابنته سارة نظرًا لتجاهله لمسؤوليته في تربيتها وترك ذلك لزوجته الإنكليزية إميلي التي كانت ضد توقعاته وانتظاراته. 

وما يثير في الرواية أن جميع الشخصيات التي التقت في مكة المكرمة قد التأموا فيما بينهم واسترجعوا هويتهم المفقودة جراء وعي مشروخ أو أفكار جديدة أقنعوا أنفسهم بقدرتها على إصلاح شؤونهم ومعاشهم وحياتهم الماضية والمستقبلية، بل إنهم اقتنعوا بأن كل ما كانوا يؤمنون به من قيم دخيلة لم تكن لها جدوى ما لم تكنْ منبعثة من روح إنسانية مثقفة قادرة على الاختيار ودفع الفاسد والإفادة من الإيجابي والمفيد لهم ولمجتمعهم. إن الرواية، ورغم كونها قد عالجت علاقة أسرية عراقية، فإنها لا محالة تنطبق على العديد من الشعوب العربية التي مازالت تئن تحت وطأة الفشل في الحفاظ على الهوية والانفتاح على الآخر بعقلية نقدية قادرة على الانتقاء والاختيار الأصلح لها ولمستقبلها من أجل الانطلاق نحو مستقبل زاهر.


عدد القراء: 2526

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

التعليقات 1

  • بواسطة نجمة خليل حبيب من استراليا
    بتاريخ 2022-01-08 03:32:12

    شكراً أستاذ أحمد خير العمري على هذا التقديم لرواية "كريسماس في مكة" لقد عرفتنا على عمل أدبي جميل لا يتاح لنا التعرف عليه في هذا المهجر البعيد عن العالم

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-