رفض الهيمنة الفكرية في فكر ما بعد الحداثةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-09-30 04:58:35

د. مصطفى عطية جمعة

أستاذ الأدب العربي والنقد - الجامعة الإسلامية مينيسوتا

لقد أرسى فكر ما بعد الحداثة مفاهيم وأسسًا وهو يواجه نواتج فكر الحداثة، ولعل أبرزها هو تحجيمه للذات والعقل، فلم تعد الذات مقابلاً للموضوع، وإنما صارت جزءًا صغيرًا أمام عالم منفتح، فأدركت الذات كنهها المحدود، وسط طوفان المعلومات والثقافات والرؤى، ولم يعد العقل مركزًا، وإنما اكتشف أنه محدود مؤطر بحجم الإنسان، وبتأثيرات الأجهزة التقنية وتحكم وسائل الإعلام فيه.

أيضًا، أعيد النظر في مفهوم التخصص الدقيق، وإغراق العقل فيه، مما يعميه عن حقائق كثيرة حوله، ويجعله أكثر انغلاقًا، وأيضًا رفض الثنائيات المختلفة بين النفس والجسد، والذات والموضوع، والأنا والآخر. وصار الهدف استعادة الإنسان من تحت ركام ما تعرض له بسبب العقل الحداثي، التي أدت إلى خراب في العالم تجلى في الحربين العالميتين والنزاعات العرقية والمذهبية والاستعمار ونهب ثروات الشعوب واختراع أدوات الحرب والدمار الشامل، وهذا سبب العقلانية التطبيقية التي طورت العلوم دون النظر إلى توابعها المدمرة على الشعوب.

فقد أرادت ما بعد الحداثة القضاء على العقل الحداثي بمعناه العام، العقل الذي اتسم بالأداتية وتغطرس على الذات الإنسانية، وأصبح شغله الشاغل هو المردودية والإنتاجية والنجاعة مما أوصل الحداثة إلى أزمتها، وتمسك بأنساق ثقافية كلية، تجاهلت وظلمت الكثير من الثقافات والأفكار الأخرى.

مع الاحتفاء بالمشتركات الإنسانية، ورفض الهيمنة الفكرية والمركزيات الثقافية، التي سادت خلال الحقبة الاستعمارية، واعتبرت الغرب مركزيا في الحكم على العالم، وأن التصورات الغربية هي الأساس والنموذج.

فلا بد من تضافر الجهود بين العلماء والمفكرين المعاصرين من أجل إرساء دعائم عقلية تواصلية، انطلاقًا من فكرة النشاط التواصلي للبشر، واسترشادًا بمدونة أخلاقيات المناقشة، وطرح رؤى فلسفية للعلاقات الإنسانية في المجتمعات المعاصرة، وتحقيق تفاهم متبادل بين الأفراد والجماعات، وهذا ما أتاحته التجمعات الافتراضية على شبكة المعلومات، في المنتديات وشبكات التواصل الاجتماعي، مما أدى إلى نسج علاقات اجتماعية وفكرية وثقافية جديدة، ووجود قيم اجتماعية جديدة، مما سيؤدي إلى ثورة اجتماعية تجعل مجموعات من الناس يعيشون في أماكن مشتتة جغرافيا يتواصلون فيما بينهم، ويحدثون تأثيرات في السياسة والفكر.

أدى فكر ما بعد الحداثة إلى إعادة تعريف الفلسفة، وربطها بمشكلات الإنسان الحقيقية ورفض الخطابات الكلية (الأنساق) للحداثة، التي لا تنظر إلى هموم الفئات المهمشة والمحرومة، وأن يسعى الفيلسوف إلى مناصرة حريات الإنسان، وحماية حقوقه الآدمية، ونهاية للعقل المتحذلق الذي لا ينفك عن دأبه في الثرثرة بالطنطنات الرنانة والقواعد الجامدة سابقة الإعداد، والقوالب الجاهزة التي يحشر الواقع في أجوافها الباردة، فتحبس فيه عناصر الانعتاق والتفتح فتقتله كمدا قبل أن تظهر أنواره أو يعي حتى بوجوده.

وكذلك ساهم في إعادة الاعتبار للثقافات المختلفة، ولا فرق بين النخبوي والهامشي، ولا الشعبي والرسمي، فكلها تشكل الوعي والمجتمع، ولا استعلاء لحضارة على حضارة، ولا ثقافة على ثقافة، ولا معنى للمركزيات الثقافية.

فلابد من إيجاد أخلاقيات جديدة أساسها رفض الإكراه والضغط والمنع، ومواجهة الأخطار المهددة للإنسانية مثل الاحتباس الحراري والبطالة وأسلحة الدمار، وتنمي قدرة الفرد على مقاومة فوضى ووحشية العولمة، فالتقدم العلمي ليس كافيًا، ولابد من أخلاقيات سامية تحميه، كذلك الاحتفاء وتنمية الديمقراطية الليبرالية لأنها تحمي حقوق الإنسان، وتحتضن الأقليات، وتقدر الحياة الشخصية للناس.

مما حوّل الفرد من كونه متلقيا للمعلومات والتوجيه الإعلامي إلى مرسل ومناقش ومتفاعل، مستفيدًا من إمكانات الفضاء التقني، وما أتاحه من حرية واسعة، في تلقي العلم والفنون، ومناقشة العلماء والمبدعين، وإطلاق حرية العقل، والاحتفاء بكل الأفكار المبدعة، وكل العقليات وإن صغرت وتهمشت. 

وهذا يعني نهاية العقل القديم وتدشين عقل جديد بديل قادر على تمثل واستيعاب مستجدات الواقع وأزماته التي لا تنتهي، عقل لا يفرض أحكامه المسبقة، التي لا يمتلكها أصلاً، ولا يجول ويصول في بديهيات ومسلمات ومصادرات مرتبة على الطرز الكلاسيكية القديمة.

جعلت الذات المبدعة تتعايش وتبدع في عوالم جديدة وبأخلاق جديدة، فالفضاء التقني وما فيه من واقع افتراضي ورمزيات، يفرض على الذات المبدعة رؤى وتجربة جديدة، تجعلها تفكر وتتخيل بشكل مختلف.

أيضًا، فإن الذات المبدعة لن تكون منغلقة على ذاتها وهمومها، وإنما سترتفع إلى مشكلات الإنسان، وهمومه، بحكم الوعي العولمي الذي بات متوافرًا بشكل يومي، في مواجهة توحش الشركات والحكومات، وزيادة الأخلاقيات العالمية بين الناس، كما أن فلسفة ما بعد الحداثة سمحت للإنسان في العالم النامي والجنوبي أن يقوم بعملية نقد للحداثة الغربية، وقراءة دور الغرب الاستعماري وما فعله بالشعوب.


عدد القراء: 1772

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-