حوار مع هيرفي شنَيْفِيس .. «عتاة المجرمين يعدِمُون إنسانية الآخر»الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-01-30 08:08:54

يحيى بوافي

المغرب

أجرى الحوار: جيرمي أندري

ترجمة: يحيى بوافي

بالنسبة لـ"هيرفي شنَيْفِيس Hervé Chneiwiss" باعتباره عالم أعصاب، كل فرد قادر على التمييز بين الخير والشر وإقامة الفرق بينهما، لكن الأدمغة تظل منصاعة وعادةً يمكن أن تتم برمجتها.

• هل العلوم العصبية قادرة على تفسير الأسباب التي لأجلها يقترف البشر الشر؟

- لا بد في البدء من القيام بتقديم تحديد أو تعريف علمي لكل من الخير والشر، والحال أن تعريفًا من هذا القبيل لا وجود له. بحيث لا نجد على مستوى الدماغ تشابكات عصبية  des synaps خاصة بالخير وأخرى خاصة بالشر. لأن هذين المفهومين مفهومان نسبيان وليسا مقولتان موضوعيتان، كما يقول أرسطو. فما يمثل شرًا بالنسبة لنا يبقى خيرًا بنظر من يلتحقون بالدولة الإسلامية في العراق والشام. وفضلاً عن ذلك يبقى من المتعذر بلورة مقاربة علمية لشيء هو على هذا القدر من العمومية. لذلك سيكون من اللازم إعادة صياغة السؤال إلى أن تصير لنا إمكانية اختبار فرضية. إذ يمكننا على سبيل المثال بالنسبة للصحيح والخاطئ، أن نقدم على شاشة حاسوب شكلاً باللون الأسود، قائلين بأنه أبيض اللون، ثم نقوم بملاحظة ما يتولد على مستوى الدماغ من تأثير لعدم الاتساق والتماسك.

• هل يمكننا تطبيق هذا المنهج على المشاكل الأخلاقية؟

- طبعًا، لقد حاول باحثان من جامعة برنستون هما جوشويا غرين Joshua Greene وجوناثان كوهين Jonathan Cohen سنة 2005 استعادة البراديغمات (الإبدلات) التي استخدمها كانط لكي يبرهن على مفهومه حول الأمر القطعي. أحدهما، هو براديغم عربة الترولي trolley، يرتبط بواجب معاملة الفرد بوصفه غاية في ذاته لا مجرد وسيلة. ويتعلق الأمر بتخيل عربة قطار غير متحكَّم فيها، إن هي لم تَزِغْ عن سكتها ستتسبب في مقتل خمسة عمال، أما إن هي انحرفت عنها باستخدام مُحوّل خاص بسكة الحديد aiguillage، فتستسبَّب في مقتل عامل واحد فقط. وقد طلب الباحثان المذكوران من رعاة بقر ما الذي سيقومون به في هذه الحالة، مع ملاحظة المناطق التي ستنشط من أدمغتهم أثناء ذلك. وقد تمثلت النتيجة في أن أغلبهم قرروا جعل عربة القطار تنحرف عن السكة الحديدية، كي تقتل شخصًا واحدًا. وهو ما نجم عنه نشاط معتدل للمناطق العصبية العاطفية، في مقابل نشاط قوي للمناطق العصبية العقلانية. ثم قاموا فيما بعد بتعديل السيناريو؛ بحيث تكون  الوسيلة الوحيدة لجعل عربة القطار تنحرف عن سكتها هي التضحية بعامل من خلال تسريع حركتها هذه المرة على السكة حديدية، فأسفر ذلك عن أنه في 90%  من الحالات لم يُجِزْ الناس التضحية بالعامل. فما الذي تمت ملاحظته على مستوى الأدمغة؟ ما حصل هو أن شعلة عاطفية هائلة عملت على كفِّ القدرات المعرفية، وجعلت القرار بطيئًا. وعليه يكون القرار الأخلاقي إذن غير مرتكز على العقل، مقارنة باستناده على العواطف وإمكانية اتخاذ مسافة تبعًا لما إذا كان الفعل يهم شيئًا أو شخصًا.

• كيف صارت مثل هذه الاكتشافات ممكنة؟

- لقد صارت كذلك بفضل التقنيات التي تم تطويرها خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة، خصوصًا طرق التصوير العصبي، أي التصوير عن طريق الرنين المغناطيسي L’IRM الذي يشير ويعين على سبيل المثال كثافة الماء في مختلف الأنسجة العصبية  ويمكنه أن يقيس استهلاك الأوكسجين وبالتالي نشاط هذه المنطقة العصبية أو تلك. لكن هذه التقنية تبقى تقنية طويلة وصعبة. وهناك تقنيات أخرى تظل أكثر سرعة ودقة؛ منها التقنية التي تسمى magnétoencéphalographie (التخطيط المغناطيسي للدماغ) وهي تعني نوعًا أعلى من التخطيط الكهربائي للدماغ super- électroencéphalogramme كما يمكننا أيضًا استخدام التصوير المقطعيla tomographie عن طريق إرسال البوزيترونات  لدراسة الدرات العصبية.

• كيف يفكر الدماغ في الخير والشر؟

- يقوم بإنجاز تركيب لتقويمات متعددة. بحيث نجد درات عصبية تتولى القيام بتقويم البعد عن المعيار، وهي التي تعتبر واقعة ما إما صحيحة أو خاطئة، إيجابية أو سلبية بالنسبة للتقدير الذي يكون لنا لذواتنا، وتعمل على توليد شعور باللذة أو الألم. ومثلما أن هذا الأمر يعني الترجيح فإنه يختلف حسب السياق.

• هل كل فرد قادر على التفكير في الخير والشر؟

- يشتغل الدماغ على فئات: شيء/ كائن حي/ إنساني/ غير إنساني... بعض الأشخاص لا يختبرون أي عاطفة تجاه ما يَنْفُر أو يفْزَعُ منه الآخرون. لماذا؟ لأن عتاة المجرمون يعدمون إنسانية الآخر. وقد شرعنا نعرف كيف يتم ذلك؛ إذ قام الباحثون على سبيل المثال، بإظهار شريط من الأنشطة الحركية بواسطة أشكال هندسية في حركات مجردة بشكل كلي. ومعظم الذين شاهدوا هذا المقطع قاموا بسرد قصة غنية، عملت على إضفاء الطابع أو الصبغة الإنسانية على الأحداث. ثم تمَّ فيما بعد إعادة التجربة على أشخاص يعانون من إصابة على مستوى اللوزة (الأميغدال)، جزء من الدماغ يوجد خلف الأذن، في المنطقة الحوفية région limbique باعتبارها المسؤولة عن استثمار وتوظيف عالم القيم الإنسانية. وهؤلاء المفحوصون في المرة الثانية لم يقوموا سوى بوصف ما كانوا يشاهدونه، أي الأشكال الهندسية. غير أن ذلك لا يعني بأن كل من لهم كَفُّ inhibition  على مستوى اللوزة (الأميغدال) هم إمكانات مجرمين. لأن العلوم العصبية عليها ألا تكون في خدمة كشف رهين الحظ والصدفة للسلوكيات المضادة للمجتمع.

• إذا كان الدماغ مبرمجًا على هذه الشاكلة، فهل يكون الإنسان حرًا في فعل الخير أو الشر؟

- إن ما قامت العلوم العصبية بتحديده ليس هو غياب الحرية، بل كون معالجة المعلومة تتم بطريقة غير واعية، كما برهن على ذلك عالم النفس الأمريكي بنجامان ليبيت Benjamin Libet عبر تجربة الساعة، منذ ما يقرب من ثلاثين سنة مضت، فعندما يكون على فرد القيام بإيقاف منبه الساعة، فإن منطقة الدماغ التي تقوم بإعداد وتهيء الحركة تنشط بأربع ثوان قبل الوعي بالقرار. وقد استنتج البعض من ذلك أن الإنسان يبقى مجردًا من كل حرية اختيار. وهو ما يؤكد رؤية سبينوزا ونفاذ بصيرته، الذي يبقى بالنسبة له كل شيء محددًا مسبقًا دون أن نعلم العلل التي تحدّد أفعالنا. غير أننا نكون هنا أيضًا أمام. لأن حرية الاختيار يمكن أن توجد كذلك في الفضاء اللاواعي. كما يمكننا أن نتخذ قرارات وأن نعمد إلى تعديلها، وهو ما يشكل بعدًا آخر من أبعاد حرية الاختيار.

• ألا يكون علماء الأعصاب قد جعلوا الأخلاق مجالاً مهجورًا وعُرضة للإهمال من خلال اختزالهم إياها إلى سيرورات بيوكيميائية؟

-أبدًا. لماذا كان الخَيْر في صف المقاومة بدلاً من النازيين؟ مع أن المعسكرين معًا كانا يقتلان لأجل الانتصار. فدماغ النازي له نفس التصميم والمخطط على المستوى التشريحي مثل دماغ المقاوم. وبالتالي فالاختلاف لا يكمن في التكوين الجزيئي لدماغهما، بل في السياق الاجتماعي والتاريخي الذي يحيط بالفرد داخل الجماعة. ومرونة الدماغ هي ما يتيح جعل السلوكيات الديمقراطية ممكنة بالنسبة لجماهير قبلت فيما قبل بالأنظمة التوتاليتارية، وبالتالي فالثقافة تتمتع بالأسبقية والرجحان مقارنة بالحتمية البيولوجية.

• هل العلم يتيح المساعدة في تصحيح أخلاق الفرد؟

- أن يساعد على تصحيح سلوكه نعم، أما أن يساعد على تصحيح أخلاقه فلا. لقد كان السوفيات يعالجون المعارضين في معتقلات الغولاغ  باستخدام مضاد الذهان neuroleptiques، وفي بعض الدول نجد الجراحة النفسية psychochirurgie، وهي بتعبير آخر نوع من جراحة الفصوص المخية، قد تم استعمالها لمعالجة السلوكيات العنيفة، مثلما هو الأمر في الشريط السينمائي الذي يحمل عنوان vol- au dessus d’un nid de cou-cou  (تحليق فوق عش الوقواق). فإذا كنا نعطي للمجرمين المعروفين بارتكاب الجرائم الجنسية، هرمونات تخفف أو توقف نشاطهم الجنسي، ومضادات لإفراز التيستوستيرون مدى الحياة. فإن بعض الاضطرابات الاستحواذية القهرية، والسلوكيات التكرارية، قد تم إلغاؤها بفضل زرع إثارة عصبية عميقة. إن الإتيقا تستلزم انصاتًا إلى الآخر. وما يمكن للعلم القيام به في هذا الصدد هو الإخبار والتوضيح وليس فرض الأخلاق.

•  ألا نخاطر بأن يؤدي بنا الأمر إلى تحكم تام في الأفراد؟

- لا بد من الفصل بين البحث العلمي وبين تطبيقاته، بحيث نجد حاجة كبيرة للبحث العلمي، لكي نتوصل إلى معرفة دقيقة بالدماغ. وبعد ذلك يبقى كل شيء متوقفًا على الاستخدامات. فعلى سبيل المثال في مجال التربية يبقى الإمكان الذي تزخر به العلوم العصبية أساسيًا جدًا. لأنها تسمح بانتقاء طرق التعلم وإقصاء تلك التي لا تؤدي لا تسير على ما يرام في أداء وظيفتها. لكن كيف السبيل إلى تقويم طرائق جديدة؟ هل هو التضحية بجماعة من الأطفال لأجل اختبارها؟ كل ذلك يقتضي فتح نقاش عمومي وتعددي. إن دور الباحثين العلميين هو أن يقدِّموا المعلومة حول ما نعرفه حقيقة، وحول ما يكشف عن مجرد التعصب.

 

الهوامش:

1 - عالم بيولوجيا الأعصاب، ومدير مختبر للعلوم العصبية، ورئيس لجنة الإتيقا بالمؤسسة الوطنية للصحة والبحث الطبي، وهو مؤلف لكتاب "العلوم العصبية والإتيقا العصبية" (الفيك،2006)، والإنسان الذي تم إصلاحه/l’Homme réparé (Plon),2012.

2 - أستاذ مبرز في الفلسفة، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين، مكناس – المغرب-

3 - من الجدر الإغريقي"sunapsis"، الذي يعني "اتحاد". وفي علم الأعصاب تعني منطقة توجد بين خليتين عصبيتين أو عصبونين، وتؤمن نقل المعلومة من إحداهما إلى الأخرى. (المترجم).

4 - جوشويا غرين Joshua Greene أستاذ العلوم العصبية بجامعة هارفارد ومدير لمختبر المعرفية الأخلاقية الذي أسسه ويتركز عمله عند تقاطع علم النفس والعلوم العصبية والفلسفة الأخلاقية. (المترجم).

5 - جوناثان كوهين Jonathan Cohen عالم نفس معرفي وعالم أعصاب أمريكي، يعمل أستاذ لعلم النفس بجامعة برينستون، ويعتبر مؤسسا معهد برينستون لعلم الأعصاب ومتعاونًا في إدارته. (المترجم).

6 - جمع براديغم أو إبدال، وهو ما يعني في أبسط معانيه، وجهة نظر إلى العالم أو تمثل له يستند على مفهوم أو تيار فكري بعينه. (المترجم).

7 - أثر يعيد انتاج النشاط الكهربي للدماغ الذي يتم قياسه عن طريق الأقطاب الكهربائية les électrodes أثناء التخطيط لكهربائي للدماغ (électroencéphalographie (EEG (المترجم).

8 - جزيء مضاد مرتبط بالإليكترون (المترجم).

9 - الاسم الذي أٌعطي في القرن التاسع عشر من طرف بول بروكا Paul Broca  لمجموعة من البنيات الدماغية، التي تلعب دورا على مستوى السلوك والعواطف (المترجم).

10 - عالم نفس أمريكي رائد في مجال البحث في الوعي الإنساني ولد سنة 1916 وتوفي سنة 2007 اشتغل بجامعة كاليفورنيا بمدينة سان فرانسيسكو، وقد كان أول من حصل على "جائزة نوبل الافتراضية لعلم النفس" من جامعة كلاغنفورت عن النتائج التي توصل إليها في دراسته عن الوعي والمبادرة إلى الفعل وحرية الاختيار. (wikipedia.org) (المترجم).

11 - Goulag صيغة روسية مختصرة لـ (Glaonoie Oupravlenie Laguerei) التي تعني( الإدارة العامة للمعتقلات)، هي تنظيم لمعتقلات الأشغال الشاقة  بالاتحاد السوفياتي سابقًا.

12 - أدوية للأمراض العقلية (مضادات الاكتئاب، والمهدئات المنومات.....) تم استخدامها منذ سنة 1950.

13 - شريط سينمائي أمريكي (1975) لميلوس فورمان Milos Forman وهو عبارة عن إخراج سينمائي لرواية ken kesy التي تحمل عنوان (Couku)، الاسم الذي يشير إلى شخص مضطرب عقليًا، مثله مثل مرضى مستشفى الأمراض العقلية التي ولجها الشاذ Randle P. McMURPHY.


عدد القراء: 1181

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-