ملامح الانفصال والاتصال في ديوان (كزهر اللوز أو أبعد) لمحمود درويش الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2015-11-05 14:55:11

د. دليلة مكسح

أستاذة جامعية - جامعة الحاج لخضر- باتنة- الجزائر

اللغة الشعرية لغة الحياة، ولغة التجربة الوجودية في فضاء الواقع النفسي والاجتماعي والفكري، وهي إذ تتشكل من ذات الشاعر إنما لتحيل إليه في آخر المطاف، لامتلاكها قوة التوغل في الداخل  النفسي للشاعر، وفي الخارج حيث العوالم المجهولة، التي لا تنكشف إلا بلغة مجهولة مثلها، لكنها تمتلك مفاتيح تأويلها، هذا ما يمكن أن يكون مثالا على ديوان (كزهر اللوز أو أبعد) للشاعر الراحل محمود درويش، الذي أبانت لغته الشعرية عن ملامحه النفسية العميقة، التي شَكَّلَتْهَا تجربته في الحياة، وأي حياة؟ إنها تجربة المنفى والاغتراب الأبدي.

ولأن لكل نص شعري مفاتيحه، فقد آثرنا أن نستند إلى إحدى المفاتيح التي رأينا إمكانية الدخول عبرها إلى عوالم محمود درويش، وهي مجموعة الضمائر التي تنوعت في الديوان، وكان لها أثر مهم في تشكيل بعض الدلالات التي عبر عنها الشاعر، وأحال بها إلى ذاته ولو عن طريق غير واع، لأن الشعر هو فعالية لغوية، والشاعر لا يعي العالم جمالياً إلا بفضل اللغة1 ، سواء أكان العالم داخلياً أم خارجياً، ولذلك فكل ظاهرة لغوية في النص تشير حتما إلى ظاهرة تتجاوز الفعل الإبداعي، إلى الكشف عن تشكلات رؤيوية ونفسية خاصة.

 لقد تأسس ديوان (كزهر اللوز أو أبعد) على أقسام ثمانية، اُتُّـخِذَ لأربعة منها عناوينَ خاصة عبارة عن ضمائر، وكانت على الترتيب الآتي: أنت، هو، أنا، هي، أما الأقسام المتبقية فاتخذت عنواناً موحداً، وهو منفى مع اختلاف رتبة المنفى الذي صاحبته أرقام 4،3،2،1، وهذا التقديم ليس الهدف منه تتبع عتبات النص الخارجية، وإنما هو إشارة إلى الظاهرة اللغوية المميزة في الديوان، ذلك أن الشعر في بنيته قائم على موضوع أو فكرة أو قضية تؤرق الشاعر، وتحيط عالمه بالتساؤل والقلق والشك، وتكون التجربة الشعرية بتنوع أساليبها واختلاف جمالياتها، مؤسسة على قلق رئيس يظل يحفر في ذات الشاعر حتى يتحقق له الانكشاف، ولو أنه في الشعر انكشاف غير كامل، لأن الحقائق تتعدد والحالات تتغير، وهذا القلق الذي يَسِمُ شعر درويش في ديوانه (كزهر اللوز أو أبعد)  يشكل ملمحاً رئيسياً من ملامح رؤى الشاعر الإبداعية، الناتجة عن قلق وجودي يتعلق بالذات الفلسطينية المشرَّدة، وما يُلحظ في الديوان هو تأسيسه على مجموعة معينة من الضمائر، التي اتخذتْ نَفَسًا دلالياً جديداً إضافة إلى وظيفتها النحوية، وإذا كانت الضمائر في اللغة العربية عبارة عن أسماء مبهمة تقوم مقام الأسماء الظاهرة، فتدل على متكلم أو مخاطب أو غائب2، فإنها في الشعر تخرج من بوتقة المعاني المعجمية الضيقة إلى نطاق الدلالات المتعددة، بفضل أساليب فاعلة من أهمها الانزياح، الذي يتيح للألفاظ عامة حركة دلالية غير عادية، ذلك أن الشعر يجعل اللغة متحركة بانزياحها، ومتشبعة بمدلولات غير مألوفة؛ لأنه ذو خاصية تركيبية تظل معلقة بكَمٍّ معتبر من الطاقات المشحونة، التي يفجرها الشاعر مع أول لحظة ولادة للعمل3 وإذا كانت الضمائر في حالاتها العادية تشير إلى مؤشرات محددَّة مذكرة أو مؤنثة، فردية أو جماعية، فإنها تكون لصيقة بصفات خاصة وحالات معينة، وذلك ما كانت عليه الضمائر في ديوان (كزهر اللوز أو أبعد) الذي اُتخذت فيه عناوين لبعض أقسامه وهي: أنتَ، هو، أنا، هي، والتي تعلقت بالمخاطب المذكر المفرد  (أنت)، وبالغائب المذكر والمؤنث المفردان (هو، هي)، وبالمتكلم (أنا).

ولم تبرز الضمائر الأخرى المثناة أو الدالة على الجمع وهي: أنتما، وهما، وأنتم، وأنتن، وهم، وهن، ونحن، وكأن ذلك الإفراد هو دلالة على تفرد وانفصال أولي، قائم على مستوى البنية النصية بين أطراف الخطاب في الديوان، فالذوات المؤشَّر عليها بـ : أنتَ، وهو، وأنا، وهي، تمتثل في الديوان بصفتها ذوات منفصلة عن بعضها البعض لغوياً ومعنوياً، فمن حيث الجانب اللغوي تبرز الضمائر بنوعها الانفصالي بدل الاتصالي «الذي يكون متصلا باسم أو فعل» 4، ولأن اللغة حاملة للمعاني التي تكون ذات ركيزة نفسية أو اجتماعية أو ثقافية ، فإن الانفصال القائم على مستوى البنية السطحية للضمائر، صاحَبَهُ دلالياً انفصال معنوي على مستوى البنية العميقة، التي تدل على انفصال اجتماعي ونفسي قائم بين مجموعة ذوات، تعاني ظروفاً اجتماعية وثقافية وسياسية ووجودية قاهرة جداً في ظل زمن اغترابي، وإذا كانت الضمائر تجتمع تحت تسمية نحوية واحدة تؤالف بينها، فإن الذوات المنفصلة عن بعضها البعيدة عن الاجتماع والتآلف، تشترك في مقاسمة الوضع نفسه، وهو النفي والبعد عن الوطن، الذي يمنحها مدلول الاتصال على مستوى الاشتراك في المنفى، ومدلول الانفصال على مستوى انطواء كل ذات على آلامها ومأساتها، فالمنفى الذي تتقاسمه الذوات التي أشار إليها الشاعر بالضمائر المذكورة سابقا (أنت، أنا، هو، هي) بدل أن يكون حيزاً جامعاً، يتشكل بصفته فضاء قاهراً حتى على المستوى الداخلي للذوات، بامتداده إلى العمق النفسي الذي صارت من خلاله المشاعر باردة، والعلاقات واهية بين المنفيين الذين تفرقوا عن بعضهم البعض، وتقوقعت كل ذات على أحزانها وغربتها.

إن الأنا التي تمثل ذات الشاعر، والتي تحددت بالضمير (أنا) برزتْ في الديوان مقهورة ومتعبة، نتيجة ما تعانيه من وحدة وانفصال عن الآخرين، مما يحول بينها وبين ما كانت تصبو إليه من غايات، وتصير هذه الأنا بمثابة آخر مخاطَب منفصل يتمنى الموت والانفصال عن الوجود الدنيوي، وإن كانت لا تبدي تلك الرغبة مباشرة، وبدل أن تظهر الأنا بالضمير المعتاد، تظهر من خلال ضمير المخاطب (أنت) الذي يشكل بحضوره مدلولات مختلفة:

                   لآن في المنفى ..نعم في البيت،

                   في الستين من عمر سريع

                    يوقدون الشمع لكْ

                   فافرح بأقصى ما استطعتَ من الهدوء،

                   لأن موتا طائشا ضل الطريق إليكَ

                   من فرط الزحام...وأجلكْ   5       

إن الأنا التي تخاطب نفسها، وكأنها منفصلة عنها بفعلين أحدهما مضارع (يوقدون)، والآخر أمر  (افرح) تنبئ عن حالتها الشعورية المزرية، حيث يتحول عيد الميلاد- وعلى الرغم من مشاركة ذوات أخرى فيه-  إلى لحظة تأملية حالكة، تبدي فيه الأنا آثار المنفى عليها، وهي لحظة يجتمع فيها المكان بالزمان ليشكلا موقفاً درامياً قاسياً، حيث ينبني المكان ببعدين أحدهما حاضر، وهو البيت والآخر غائب ولكنه مستحضَر نفسياً، وتشير إليه كلمة المنفى التي تحيل إلى لحظة انفصالية طويلة المدى، حيث يتشكل من خلالها الزمان عبر بعدين، وهما الماضي والحاضر، وتلعب لفظة (الآن) دوراً مميزاً في الفصل بين البعدين الزمنيين، كما تجمع بينهما في لحظة استذكارية متسارعة، فتحيل من جهة إلى الماضي الذي مر سريعاً، ومن جهة إلى الحاضر الذي يمتثل أمام الأنا رهيباً وقاسياً، ولفظة الآن لها الدور نفسه الذي أدته لفظة المنفى، التي فصلت دلالياً بين وطن الشاعر البعيد عنه، وبين البلاد المنفي إليها؛ لكنها في الوقت ذاته جمعتْ بين المكانين في لحظة نفسية مؤلمة، استُحْضِر فيها الوطن البعيد في مكان يدل ظاهرياً على الاستقرار، ولكنه في حقيقته لا يمثل سوى جزء من حالة عدم الاستقرار، ويُستظهَر الزمن المستقبلي في المقطع السابق كلحظة تفاؤلية، وإن كانت غير واضحة المعالم؛ لأن تلك اللحظة هي التي ستحقق حلم الشاعر بالعودة إلى الوطن، إنها لحظة الموت حيث يتحول الغياب عن الحياة إلى حضور في المكان الذي ظلت الأنا تتوق إليه، وهو تشكيل درامي عميق تـَمَكَّنَ من خلاله الشاعر استجماع دلالات الانفصال، بدلالات الاتصال في ضمير الأنا الذي ظهر في شكل مخاطب يتوق للتغيير، وما يبرز من خلال هذه المفارقة التي عبر فيها الشاعر عن ذاته بضمير المخاطب، هو أن الأنا تغيِّب نفسها في المنفى، وتخاطب ذاتها بضمير المخاطب؛ لأن معالمها الذاتية موجودة هناك في فلسطين، وما دامت قد انفصلت عنها، فإن الانفصال ظل سمتها، بين وجودها الفلسطيني الذي صار بعيداً، ومجرد أفكار، وصور، وإرث معنوي، وبين حضورها في المكان الاغترابي بكل زخمه.

إن انفصال الأنا عن حيثيات مكانها الطبيعي، وابتعادها عن الفاعلية المباشرة فيه، يجعلها أنا تشعر بحدة الاغتراب، وعطلها وعجزها، فتختلط عليها الرؤى والمفاهيم ، وإذا كان ضمير الأنا في المقطع الآتي قد ارتبط دلالياً بالضيف والمضيف في الآن نفسه، وجمع بين ذاتين، فإنه على مستوى العلاقات مع ذوات خارجية نجد سمة الغياب هي البادية، لأن الأنا لا تبدي أي ارتباط مع الخارج، فكل تفاعلاتها لا تتجاوز أناها المغتربة :

                       كما لو فرحتُ: رجعتُ. ضغطتُ على

                       جرس الباب أكثر من مرة، وانتظرتُ...

                       لعلي تأخرتُ . لا أحد يفتح الباب ، لا

                       نأمة في الممر.

                       تذكرتُ أن مفاتيح بيتي معي، فاعتذرتُ

                       لنفسي: نسيتكَ فادخل

                       دخلنا...أنا الضيف في منزلي والمضيف6

يتشكل ضمير الأنا في هذه الأسطر على التعدد، فهو يحيل إلى الضيف والمضيف، مما يجعل الدلالة تتوسع بشأن هذه الذات التي تتعدد تشكلاتها، والتي من أسبابها شعور الأنا بالاغتراب، نتيجة انفصالها عن انتمائها الطبيعي الذي يمنحها القوة والأمل، لذا تغدو في المنفى مقهورة ومريضة، وليس لها أمل بالمستقبل، ولا رؤية واضحة تعين تطلعاتها، وإذا كانت حنان محمد موسى حمودة، ومعها يوسف بكار يريان أن تغني الإنسان بالأرض لا يمثل ارتباطاً وقتياً ومحدوداً، بقدر ما يعبر عن اتحاد باطني بين أرض خالدة ودم خالد، يحيل في النهاية إلى مدلول رمزي7، فإن الأرض لدى محمود درويش تظل فردوساً مفقوداً، يحمله الشاعر في داخله ألماً وأسى وانهزاماًً:

                      أهجس، أهمس في السر: عش

                      غدك الآن ! مهما حييت فلن تبلغ

                      الغد...لا أرض للغد، ستدرك أن

                      الفراشة لم تحترق لتضيئك /

                      لا أرض ضيقة كأصيص الورود

                      كأرضك أنت.. ولا أرض واسعة

                      كالكتاب كأرضك أنت.. ورؤياك

                      منفاك في عالم لا هوية للظل

                      فيه ، ولا جاذبية /   8

يتشكل ضمير المخاطب ليحيل مرة أخرى إلى صوت الأنا، التي تخاطب نفسها سراً أو علانية لتكشف عن حدة اغترابها، حيث يجعلها انفصالُها عن انتمائها الطبيعي، إلى (أنا) تختصر أحلامها في الحاضر فقط ولا تسعى للمستقبل، فغدها هو اللحظة الآنية التي تعيشها بكل آلام الفرقة والاغتراب، وبالرغم من أن المغترب كثيراً ما يتغنى بموطنه البعيد عنه، إلا أن الشاعر يتجاوز ذلك إلى الوقوف على تمزقاته النفسية، التي تقع بين سنديان البعد عن المكان المحبوب، ومطرقة المكان المكروه الذي وصفه الشاعر بالظل الذي لا هوية له.

تتعدد في الديوان أسباب شعور الأنا بالاغتراب، من بينها فقدانها لشريك يقاسمها همومها ومعاناتها، وحتى إن كان موجوداً، فهو بعيد كل البعد عن فهم مأساة الأنا والإحساس بها، لذلك تحاول الأنا الشاعرة في كل لحظاتِ خيبتِها، التحلي بالهدوء من أجل تجاوز المعاناة والآلام ، وتقمص أدوار الذوات الأخرى، عبر صيغ متعددة تشمل ضمائر المخاطب والغائب معاً، كما في المقاطع السابقة الذكر، ولأن الاغتراب هو شعور عميق بالوحدة نتيجة انعدام علاقات المحبة والصداقة مع الآخرين، وهو حالة ناتجة عن كون الأشخاص والمواقف تبدو غريبة9، فإن المقطع الآتي يبرز ملامح الاغتراب الذي طال الأنا حتى بوجود الشريك:

                      لم تأتِ. قلتُ : ولن..إذا

                      سأعيد ترتيب المساء بما يليق بخيبتي

                      وغيابها:

                      أطفأتُ نار شموعها،

                   أشعلتُ نور الكهرباء،

                   شربتُ كأس نبيذها وكسرته،

                   أبدلتُ موسيقى الكمنجات السريعة

                   بالأغاني الفارسية.

                  قلت : أنسى ما اقتبستُ لها

                  من الغزل القديم، لأنها لا تستحق

                  قصيدة ولو مسروقة...10

إن غربة الأنا التي تتعمق حتى بوجود شريك، لا يعود إلى عدم تفهم هذا الأخير على الدوام، بل يعود في الغالب إلى الأنا في حد ذاتها، التي لا تحس بطعم العلاقة والترابط، لبعدها عن مكان انتمائها الذي يجعلها لا تحس بقيمة الأشياء والأمور من حولها، فيغدو كل شيء خارج نطاق الانتماء لا فائدة منه، لأنها التي تعاني اغترابا رهيبا، يمنعها من رؤية الأمور والآخرين كما هم:

               وأنتِ معي، لا أقول: هنا الآن

               نحن معا، بل أقول: أنا، أنت،

               والأبدية نسج في لا مكان 11

 

إن ضمير الأنا تتحدد دلالته في هذا المقطع من خلال انفصاله الكتابي والدلالي معا، حيث ينفي عن نفسه دلالة الاجتماع والترابط مع الآخر (أنت)، ويلوذ بالوحدة والبعد من خلال ذلك الفصل الكتابي بالفاصلة، والفصل الدلالي بنفي الفاعلية عن ضمير الجمع (نحن)، فيتحول الاجتماع إلى حالة عبثية ناتجة عن أثر المكان، وعن خاصية الشاعر الذي يمثل كياناً مستقلاً بذاته، لا يمكنه الذوبان كلية داخل المجتمع، فما بالك إذا كان داخل مجتمع غير مجتمعه 12.

إن هذا الإحساس بالانفصال يمتد إلى ذوات أخرى تتقاسم القضية نفسها مع الأنا الشاعرة، وإن كانت لا تجتمع معها حيث تتآلف الضمائر تحت عباءة الهموم والآلام، ففي قصيدة (هو، هي) تبدو الذاتان منفصلتان عن بعضهما البعض نفسياً، بالرغم من تحقق اتصالهما واجتماعهما في مكان واحد، إذ لا تستطيعان إيجاد جو حميمي يجمع بينهما، فيمتثل لديهما معا إحساسٌ بالتناقض في وجودهما :

              هي: هل عرفتَ الحب يوما ؟

              هو: عندما يأتي الشتاء يمسني

             شغف بشيء غائب، أضفي عليه

             الاسم، أي اسم، وأنسى...13

 

إن الضميرين: هي وهو الدالين على الغائب المبهم المنفصلين لغويا، يتقاسمان أيضاً انفصالاً دلالياً من خلال عدم تقاربهما مما يجعلهما مغتربين معاً، وإن كان لكل منهما همومه الخاصة، كما يبرز الانفصال أيضا عبر الفضاء البصري الذي برز فيه الضميران متقابلين، ولكل منهما فضاؤه الخاص الذي لا يلتقي بفضاء الآخر.

إن دلالات الانفصال والوحدة والاغتراب، التي تأسست عبر ما أحالت إليه الضمائر السابقة من معان، تتعلق بسيرورة الذوات في واقعها، تتحول عبر الديوان من معاناة الذات الشاعرة، التي تمظهرت من خلال ضمير المتكلم والمخاطب والغائب كما أسلفنا، إلى معاناة جمعية ترسم لنا جانباً من واقع المنفيين المتأزم، الملون بألوان القهر والمعاناة وافتقاد نكهة الحياة :

           فراغ فسيح، نحاس، عصافير حنطية

           اللون، صفصافة، كسل، أفق مهمل

           كالحكايا الكبيرة، أرض مجعدة الوجه

          *   *   *

           لون في مرض اللون، كل الجهات

            رمادية

           لا انتظار إذا

           للبرابرة القادمين إلينا

          غداة احتفالاتنا بالوطن14 

إن وحشة المنفى في ارتباطها بمجموعة الضمائر التي اجتمعتْ وفق رباط اتصالي، وهو ضمير النحن،  تتحول إلى الداخل، حيث تصير نفسية الشاعر أو أناه مريضة وموحشة؛ لأن الواقع المرير لا يدع لها الفرصة، كي تستعيد أنفاسها، أو تحس بانتمائها وتفردها، لذلك تعجز عن إيجاد عالمها المميز الذي تصبو إليه، ولا تجد اللغة المناسبة التي تهرب من خلالها نحو أفق مغاير، يمكِّنها من إيجاد فاعليتها في الوطن الذي نفيتْ عنه، إنه زهر اللوز الذي تبحث له عن لغة وعن معنى لا يموت، يظل خالدا حتى بعد موت الشاعر، مطلقا شذاه:

               ولوصف زهر اللوز،  لا موسوعة الأزهار

               *   *   *

               فكيف يشع زهر اللوز في لغتي أنا

               وأنا الصدى ؟

               *   *   *

               لو نجح المؤلف في كتابة مقطع

               في وصف زهر اللوز، لانحسر الغياب

                عن التلال، وقال شعب كامل:

                هذا هو /

               هذا كلام نشيدنا الوطني ! 15  

إن الشاعر يبرز قلقا إزاء وجوده الواقعي والإبداعي، وقد حمل ضمير الأنا دلالات الخوف والقلق من القادم، مستعيناً بمكون طبيعي، وهو (زهر اللوز) من أجل توليد دلالات تشير لبعض القيم، التي يراها الأنسب لاستعادة وجوده الفلسطيني على المستوى الفردي والجمعي16.إن زهر اللوز هو أيقونة تحيل إلى مسؤولية الشاعر، الذي يرى ضرورة تحمله لمهمة التعريف بالقضية الفلسطينية، وإيصال صوت الشعب الفلسطيني، وإبراز صفات تميزه عن بقية الشعوب، وهي مهمة عسيرة أبدى الشاعر أسفه إزاء عدم قدرته على تحقيقها، وعلى تخليد الصوت الفلسطيني. 

إن الشاعر باعتباره (أنا) يبحث عن إمكانية تحقيق حلمه ومسؤوليته تجاه بلده، يحاول البحث عن ذوات أخرى تقاسمه الهم نفسه، لعله يتوصل إلى رؤيا جديدة تحلق بهم جميعاً نحو عالم أكثر أماناً وسكينة؛ لكنه لا يلقى غير المعاناة والاغتراب مخيميْن على الجميع؛ لأنهم لا يملكون زماناً ولا مكاناً إلا في أذهانهم، فالزمان لديهم مرتبط فقط بما عاشوه أو ما عاشه آباؤهم في فلسطين، والمكان ( الجغرافيا الفلسطينية) بعيد عن حق الامتلاك، الذي يظل هاجساً تتقاسمه الذوات سواء أكانت أنا أو آخر، ذلك المكان الذي لم تستطع أن تطأه على الرغم من كل المحاولات، فيتحول إلى عقدة كبرى، هي عقدة التاريخ الفلسطيني المسلوب، ذلك أن الإنسان يحمل جغرافياه معه أنى حل وارتحل، وانغراسُ الجغرافيا فيه هو تحقيق لوجوده التاريخي17:

            قال لي صاحبي: لا أريد مكانا

           لأدفن فيه ...أريد مكانا لأحيا،

           وألعنه إن أردت. 18

إن الأنا تقدم نفسها بشكل اتصالي في صورة الآخر (الصاحب)، لأنها تقاسمه المعاناة حيث لا وجود ولا انتماء في الحاضر، في مقابل اعتراف بأحقيتها في العودة إلى مكانها الطبيعي بعد الموت، وهي بؤرة الأزمة التي تحياها والتي تحوِّل حياتها إلى دراما.

إذا كانت الضمائر بوصفها ذوات دلالية قد برزتْ في الغالب منفصلة عن بعضها البعض، فإنها على مستوى دلالي أعمق تتقاسم خاصية الاغتراب، وتشكل لُحمة متصلة، وقد سعى الشاعر في مواضع كثيرة من الديوان إلى إبراز ملامح ذلك الاتصال الذي يتمظهر نفسيا وواقعيا:

                .....ولكن أسلوبنا في

                عبور الشوارع من زمن نحو آخر

                كان يثير التساؤل: من هؤلاء

                الذين إذا شاهدوا نخلة وقفوا

                صامتين، وخروا على ظلها ساجدين ؟

                ومن هؤلاء الذين إذا ضحكوا أزعجوا

                الآخرين؟  19

إن الشاعر وهو يستعمل ضمير الجمع المتكلم (نحن)، حيث يتقمص أصوات الآخرين ليعبر عن هَمٍّ واحد، يصف المنفيين -وهو من بينهم- الذين طال بهم الزمن، ولم تتحقق أمانيهم في العودة إلى أوطانهم، ويحيل إلى نظرة الآخرين تجاههم، فإلى جانب المنفى هم محرومون من التعبير عن ذواتهم، وعن التصرف مثلما يتصرف الآخرون، ومحرومون من إبداء حنينهم لكيانهم الفلسطيني.

وإذا كان الشاعر وهو يعبر عن ذاته، وعن الذات الفلسطينية الجمعية المشردة في أصقاع العالم، قد استخدم الضمائر المختلفة للتعبير عن حالات الانفصال والاتصال، وللإحالة إلى غياب الفاعلية لديه ولدى تلك الذوات، لأثر المنفى العميق عليها، فإنه على مستوى الرؤية الإبداعية التي أراد من خلالها تأسيس بديل فكري، يمكِّنه ويمكِّن الذات الفلسطينية من تجاوز محنتها على الرغم من اغترابها، يتجاوز تغييب الذوات بالإشارة إليها عن طريق الضمائر إلى الاستحضار المباشر والواضح، وذلك من خلال الإشارة إلى ذات فلسطينية على الرغم من عيشها في المنفى، تمكنتْ من أن تجمع في داخلها تناقضات الحياة، وتستمر في أداء رسالتها على الرغم من كل الظروف، وكأن الشاعر باعتباره (أنا) يريد من تلك الذات التي جعلها مخالفة للذوات الأخرى، إذ لم يرمز لها بضمير بل قدمها باسمها الحقيقي، وهو (إدوارد سعيد) المفكر الفلسطيني الراحل، قلنا وكأنه يريد من خلالها أن يبرز رؤيته للحياة، ولأساليب التعامل مع حياة المنفى، تلك الرؤية التي يأمل أن تكون نبراسا لأولئك المنفيين المبهمين، كي يُبرزوا هوياتهم وصفاتهم، جاعلا من صوت إدوارد سعيد عبر حواره معه، إلى نافذة تمكن الذات الفلسطينية من قهر اغترابها:

                   منفى هو العالم الخارجي

                   ومنفى هو العالم الداخلي

                   فمن أنتَ بينهما ؟

                   لا أعرف نفسي تماما

                   لئلا أضيعها، وأنا ما أنا

                   وأنا آخري في ثنائية

                    تتناغم بين الكلام وبين الإشارة

                    *   *   *

                     أنا ما أكون وما سأكون

                    سأصنع نفسي بنفسي

                    وأختار منفاي

                    *   *   *

                   أدافع عن حاجة الشعراء

                  *   *   *

                  وأدافع عن شجر ترتديه الطيور

                  بلادا ومنفى  20

إن الفرق بين إدوارد سعيد وتلك الذوات المبهمة حسب الشاعر، يكمن في أن المفكر يعترف بواقعه وبمنفاه، ويتجاوز خيبة الماضي، ببذل كل جهده من أجل الحاضر والغد، وعودته إلى الماضي ما هي إلا محطة للنهوض، وتجاوز آلام المنفى:

                     والحنين إلى الأمس ؟

                     عاطفة لا تخص المفكر إلا

                     ليفهم توق الغريب إلى أدوات الغياب  21

إن رؤية إدوارد سعيد تصبح نموذجاً يتوق إليها الشاعر باعتباره (أنا) لا تتصالح مع العدو ، ولا تتوق إلى الماضي إلا لمعرفة الحاضر، ولا تتغنى بالمكان المفقود، بل تقدم قراءاتها للحاضر وللوجود كي تستطيع التأقلم مع أوضاعها،  وتخلِّد الذات الفلسطينية من خلال فعلها الذاتي، إنه فعل المواجهة مع العدو ومقاومته وكسر شوكته، بالفكر والإبداع والمغايرة وعدم الانبطاح:

                 هيأتُ نفسي لأن أتمدد في

                 تخت أمي، كما يفعل الطفل حين يخاف

                 أباه. وحاولتُ أن أستعيد ولادة

                 نفسي.

                *   *   *

                 لكن وحش الحقيقة

                 أبعدني عن حنين تلفَّتَ كاللص خلفي

                 ـ وهل خفتَ ؟ ماذا أخافكَ ؟

                 ـ لا أستطيع لقاء الخسارة وجها

                 لوجه. وقفت على الباب كالمتسول.

                 هل أطلب الإذن من غرباء ينامون فوق

               سريري أنا...بزيارة نفسي لخمس دقائق ؟22 

إن دلالات الضمائر في ديوان (كزهر اللوز أو أبعد) سواء أكانت انفصالية أو اتصالية، قد خرجتْ عن خصائصها النحوية والدلالية المبهمة، لتحمل معاني الانفصال والاغتراب والمعاناة، إلا أنها على مستوى الرؤية المستقبلية، ارتبطت بمعاني المقاومة والمواجهة من أجل الحفاظ على خصوصياتها، ويمثل ضمير الأنا رغم تعدد مسمياته الضمائرية بؤرة الدلالات في الديوان؛ لأنه سعى على الرغم من إحساسه العميق بالاغتراب إلى تشكيل خيط وصل يربط بين الذوات الفلسطينية،  ويجمعها على هدف واحد، من خلال تقديم رؤية مغايرة تحاول مقاومة مشكلات الحاضر الذي تعيشه، وتبحث عن الانعتاق من سطوة المنفى لتسطر سبيلاً جديداً في الحياة، لا يخلدها لوحدها بل يخلد التاريخ الجمعي لفلسطين.

 

الهوامش:

 

01 - محمد عبدو فلفل: في التشكيل اللغوي للشعر (مقاربات في النظرية والتطبيق)، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق، 2013 ، ص 13.

02 - إبراهيم أحمد الفارسي: معالم الإعراب، دار أسامة للنشر والتوزيع، باب الزوار، الجزائر، ط1، 2003، ص140.

03 - عبد الله التطاوي: اللغة والمتغير الثقافي، الواقع والمستقبل، الدار المعربة اللبنانية ،القاهرة، مصر، ط1، 2005، ص96.

04 - إبراهيم أحمد الفارسي: معالم الإعراب، ص 140.

05 - محمود درويش: كزهر اللوز أو أبعد، رياض الريس للكتب والنشر ، بيروت ، لبنان، ط2، نوفمبر،2005، ص17.

06 - الديوان: ص 61.

07 - حنان محمد موسى حمودة، يوسف بكار: الزمكانية وبنية الشعر المعاصر (أحمد عبد المعطي أنموذجاً) جدارا للكتاب العالمي، عمان، الأردن، وعالم الكتب الحديث، إربد، الأردن، ط1، 2006، ص 36.

08 - الديوان: ص 106، 107.

09 - كمال الدسوقي: ذخيرة علوم النفس، الدار الدولية للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، 1988 ، ص 71 .

10 - الديوان: ص 93.

11 - الديوان: ص 97.

12 - يوسف ميخائيل أسعد: سيكولوجية الإبداع في الفن والأدب، دراسات أدبية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، 1986 ، ص 99 .

13 - الديوان: ص 85.

14 - الديوان: ص 41 ، 42 .

15 -الديوان: 107 ،...، 118 .

16 -محمد إبراهيم أبو سنة: تأملات نقدية في الحديقة الشعرية (قراءات ودراسات)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، 1989 ، ص 14 .

17 -محمد حجو: الإنسان وانسجام الكون (سيميائيات الحكي الشعبي)، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان، منشورات الاختلاف، الجزائر، دار الأمان، الرباط، المغرب، ط1 ، 2012 ، ص 40 .

18 - الديوان: ص 130.

19 -الديوان: ص 135.

20 -الديوان: ص 184،...187.

21 - الديوان: ص 190 .

22 - الديوان: ص 190، 191.


عدد القراء: 8388

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-