التراث المادي والتراث المعنويالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2016-05-18 23:58:05

د. علي عفيفي علي غازي

أكاديمي وصحفي

يعتقد الكثيرون أن مدلول كلمة "التراث" يقتصر على الخرائب الأثرية وبقايا كسر الفخار واللقى الأثرية، بالرغم من شمول التراث الكثير من الأشياء البسيطة الغالية على القلب في الوقت ذاته، كالتحف التذكارية، والحُلي، والصور الفوتوغرافية، والمجوهرات، والقطع الأثرية، والتحف الفنية، فكل ذلك يندرج ضمن قائمة التراث1 .

يُعرف التراث بمفهومه البسيط على أنه خلاصة ما تُخلفه الأجيال السالفة للأجيال اللاحقة، أو ما يُخلفه الأجداد كي ينهل منه الأحفاد، ويُضيف إليه جيل بعد جيل من خبرات حياتهم، على أي شكل كان من خلال العمارة أو الكتابة أو النقش أو الحاجات أو المصنوعات. أو هو بمعنى آخر "نتاج شعب أو جماعة تعيش في مكان معين، وتعتقد وتمارس وتصنع أمورًا خاصة في زمن خاص". فالتراث إذن معين ثري لا ينضب من المعرفة، ومصدر الهوية. والتراث في الحضارة بمثابة الجذور في الشجرة، وكلما غاصت وتفرعت الجذور كانت الشجرة أقوى وأثبت وأقدر على مواجهة تقلبات الزمن. ومن الناحية العلمية هو علم ثقافي قائم بذاته يختص بأحد قطاعات الثقافة، ويُلقي الضوء عليها من زوايا أثرية وتاريخية وجغرافية واجتماعية ونفسية، ويعني بكل ما بقي على الأرض من دلالات حضارية وأطلال أثرية ترجع إلى العصور الماضية. أما التراث الحضاري فهو "نتاج الحضارات من حقبة ما قبل التاريخ مرورًا بالحضارات المختلفة في مختلف المناطق، وصولاً إلى ما يُسمى اليوم بحقبة التراث الشعبي"2 .

تعني كلمة التراث في اللغة العربية "الإرث" ومن ثم تشمل الحسب والنسب فضلاً عن الميراث المادي بأنواعه المختلفة3، وفي دعاء زكريا، عليه السلام، (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ)، أي النبوة، وليس المال، وكذلك (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ)، أي نبوته وملكه. أما في اللغة الإنجليزية فيُطلق على التراث كلمة Heritage، أي ما يتوارثه الإنسان، ويُحافظ عليه وينقله لمن بعده، وفي اللغة الفرنسية تُعبر كلمة Patrimoine عن التراث، وهي كلمة من أصل لاتيني مكون من شقين، الأول بمعنى الأب، والثاني بمعنى التعليم والإرشاد والنصح، ومن ثم فإن معناها يعكس أهمية الأشياء التي تُذكرنا بالآباء والأجداد، أي تلك التي تربطنا بالأسلاف والتاريخ.

يتمثل الشق المادي للتراث فيما يُخلفه الأجداد من آثار ظلت باقية من منشآت دينية وجنائزية كالمعابد والمقابر والمساجد والجوامع، ومبان حربية ومدنية مثل الحصون والقصور، والقلاع والحمامات، والسدود والأبراج، والأسوار، والتي تُعرف في لغة الأثريين بالآثار الثابتة، إلى جانب الأدوات التي استخدمها الأسلاف في حياتهم اليومية، والتي يُطلق عليها الأثريون الآثار المنقولة4. ويُعد كذلك التراث الطبيعي جزءًا مهمًّا من  التراث الحضاري، ويقصد به التشكيلات الجيولوجية والمواقع الطبيعية، ومناطق الجمال الطبيعي التي تتألف كمواطن للأجناس البشرية والحيوانية والنباتية، وعلى هذا فإن سواحل البحار، والكثبان الرملية، والسلاسل الجبلية، والأخوار، بل وحتى الأغنام، والنمور البرية، والفهود السوداء، كلها تشكل جزءًا من التراث، الذي يجب الحفاظ عليه، بوصفه تراثًا للإنسانية مُعرضًا للإنقراض.

يُعرف الشق المعنوي للتراث باسم "التراث الشعبي"، ويتكون من عادات الناس وتقاليدهم، وما يُعبرون عنه من آراء وأفكار ومشاعر يتناقلونها جيلاً عن جيل، وهو استمرار للفلكلور الشعبي كالحكايات الشعبية، والأشعار والقصائد المتغنى بها، وقصص الجن الشعبية، والقصص البطولية، والأساطير، ويشتمل على الفنون والحرف، وأنواع الرقص واللعب، والأغاني، والحكايات الشعرية للأطفال، والأمثال السائرة، والألغاز، والمفاهيم الخرافية، والاحتفالات والأعياد الدينية. وهذا الشق من التراث لا يقل أهمية عن التراث الثقافي والطبيعي، فهو يُخلد ذاكرة الوطن وهويته، لأنه يرتبط بالمآثورات الشعبية والمعارف، والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون، وكذلك المهارات المرتبطة بالفنون والحرف التقليدية وفنون الأداء. حيث يتجلى واضحًا ضرورة تثمين القيم المعنوية التي تحملها العلوم المختلفة النافعة، وعدها جزءًا من التراث5 . وبهذا فإن مصطلح "التراث الثقافي" ليس قاصرًا على المعالم التاريخية الأثرية والتحف الفنية، بل يشمل التقاليد الشفهية، والممارسات الاجتماعية، والمعارف والمهارات الحرفية التقليدية، وكذلك الأكلات الشعبية، والوصفات التي تعود لعصور قديمة، فالتراث غير المادي، شأن الثقافة، يتغير ويتطور ويزداد ثراءً جيلاً بعد جيل، ولكن في ظل الحداثة والعولمة باتت كثير من أشكال التعبير ومظاهر التراث الثقافي غير المادي مهددة بالاندثار، وأصبحنا بحاجة لاتخاذ تدابير من أجل أن يظل هذا التراث جزءًا لا يتجزأ من الثقافة الشعبية والهوية الوطنية، فنحن بحاجة لمحاولات جادة لإحياء وتطويع التراث ليُصبح في متناول الجيل الجديد، ويغدو منبعًا ثريًّا يُسهم في تحقيق الثقافة والقومية العربية والهوية الإسلامية.

يُمكن تقسيم المأثورات الشعبية إلى أربعة فروع رئيسة كبيرة، تتفاعل وتتكامل معًا، هي: الأدب الشفاهي، كالحواديت والأغاني والسير والأمثال والأساطير والخرافات. والثقافة المادية، كالفنون والحرف والعمارة والأزياء وأساليب التزيين، وطرق الطهي. والعادات والمعتقدات، كالأعياد والاحتفالات والألعاب، وأساليب التداوي، والمعتقدات الدينية والشعبية والنظرة إلى الكائنات والكون وتفسير نشأته ومصيره. وفنون الأداء، كالموسيقى والرقص والدراما6 .

يحمل التراث أهمية كبرى لدوره الفعال في تغذية العقل الجمعي ومده بالقيم، إلى جانب إسهامه في تشكيل الوعي العام، ولهذا كان الحفاظ عليه ونشره ونقله عبر الأجيال والحرص على ضمان استمراريته مسؤولية الجميع بلا استثناء، فكلنا راع وكلنا مسؤول عن صيانة تراثنا الذي يُمثل خيطًا شعوريًّا يضمن تواصل الأجيال، كما يحدد ملامح هويتنا. فبعد التطور الذي شهدته دول الوطن العربي، ومن بينها الإمارات، أصبح من الضروري أن نقف على ملامح حضارتنا، ومدى ارتباطها بأصولنا التراثية، وأن نثبت عدم مصداقية الحركات الجانحة نحو الاستغراب سواء بتأثير العولمة أو غيرها من الظواهر التي أسفرت عن تعثر واضح وميلاد هجين لا جذور له ولا خصوصية. ولكن تمسك وارتباط الناس بماضيهم وعراقتهم وجذورهم دفعهم بشكل تلقائي إلى إيجاد سُبل جديدة تتماشى مع ما نحن فيه من طفرة حضارية تتلائم ورغباتنا العاطفية التي تنزع إلى الحنين إلى الماضي.

تكتمل هوية الإنسان بالتراث، سواء كان ماديًّا أو معنويًّا؛ فهو ضرورة إنسانية، وأحد ركائز الهوية التي بدونها يُصبح الإنسان كالريشة تتقاذفها الرياح، ويقول المثل الشعبي المصري: "من فات قديمه تاه"، وقديم الإنسان هو تراثه وتاريخه الذي يُمثل المرايا العاكسة، التي ينظر إليها قائد السيارة من آن لآخر في أثناء قيادته؛ كي يُحسن استخدام الطريق؛ وكي يصل إلى مقصده بسلام دون أن يُعرض نفسه لأي خطر مُحتمل أو مُفاجئ. والتراث بشقيه يكتسب يومًا بعد الآخر أهميته من كونه مصدرًا للفخر بحضارات الأجداد، ومن ثم يُعد الحفاظ على التراث والعمل على تنميته خيارًا إستراتيجيًّا للدول العربية، التي تنعم بتاريخ طويل وممتد في حضارات عظيمة أوجدت لنفسها مكانة سامية، وتقف شواهدها شامخة، منذ عصور ما قبل التاريخ وصولاً إلى أحدث الإبداعات الإنسانية. والحفاظ عليه ضرورة لها، خاصة وهي تنظر بأمل تستشرف آفاق المستقبل، ولهذا لزامًا عليها أن تسترجع النقاط المضيئة في ماضيها؛ لتستمد منها العون للوصول لغدٍ أفضل. ومن المؤكد أن الحفاظ على التراث، كان، ولا يزال، نواة المفهوم الجديد للتراث العالمي، الذي تضمنته اتفاقية التراث العالمي الثقافي والطبيعي لعام 1972 التي وضعت بنودها منظمة اليونسكو7 .

 

الهوامش:

1 -  أحمد حسين الطماوي: "الذهب في تراث العرب"، مجلة تراث، العدد 136، (يناير 2011)، ص 48-51.

 2 -  ناصر حسين العبودي: صفحات من آثار وتراث دولة الإمارات العربية المتحدة، (العين: مركز زايد للتراث والتاريخ، 2002)، ص 147، 148. يولد مصطلح "التراث الشعبي" لأول مرة  في بريطانيا عام 1864 باسم "فلكلور"، أطلقه الآثاري الإنجليزي وليم جون تومز، ومن أوائل دول الخليج التي اهتمت به البحرين والكويت، ثم يلقي اهتمامًا كبيرًا في الإمارات وخاصة الشارقة بفضل جهود القاسمي في الاهتمام بالتراث المادي والمعنوي والثقافي والحضاري. ناصر حسين العبودي: مرجع سابق، ص 183، 184.

3 -   ابن منظور: لسان العرب، تحقيق عبدالله علي الكبير وآخرون، (القاهرة: دار المعارف، د. ت.)، ص 57.

4 -  محمد عبدالقادر: "إحياء التراث ونشره دعم للحاضر واستشراف للمستقبل"، مجلة الوثيقة، العدد 21 (يوليو 1992)، ص 90، 91.

5 - محمد دباغ: "التراث الفقهي بين الثبات والتطور"، مجلة آفاق الثقافة والتراث، العدد 32 (يناير 2001)، ص 6.

6 - جيهان زكي: وللتراث وجه آخر، (القاهرة: صندوق التنمية الثقافية، 2012)، ص 103.


عدد القراء: 25833

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-