ندوب في أدب الخلافالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2016-11-25 01:51:54

أ. د. علي بن محمد العطيف

أستاذ الحديث والدراسات العليا المشارك بجامعة جازان

قال الجرجاني الخلاف "منازعة تجرِي من المتعارضَيْن لِتحقِيق حق أَو إِبطال باطل"1.

وَالمقصود بِعلم الخلاف: العلم بالمسائِل التِي يَجرِي فيها الاجتهاد، بغَض النظر عن الصواب والخطأ، أو الشذوذ، في الرأي المعروضِ.

 

وأما أوجه الخلل والقصور في أثناء الخلاف

أ/ قلة الإخلاص:

وَذلك بأن يدخل المرء في حوار لا يريد به وجه الله، ولا الوصول إلى معرفة الحق والعمل به، وإنما يريد أن يظهر براعته ويبرز مقدرته ويبز أقرانه ويمتلك إعجاب الآخرين.

عن الحسين الكرابيسي يقول: سمعتُ الشَّافعي يَقولُ: "ما ناظرت أحدًا قط، إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان ويكون عليه رعاية من الله وحفظ، وما ناظرت أحدًا إلا ولم أبال بين الله الحق على لساني أو لسانه"2.

قَالَ حُسين الزَّعفراني، معلقًا على كلام الشَّافعي «ولقد رأيت المناظرين في قديم الزمان وحديثه فما رأيت ولا حدثت، ولا بلغني أن مختلفين تناظرا في شيءٍ ففلجت حجة أحدهما، وظهر صوابه، وأخطأ الآخر، وظهر خطأه، فرجع المخطئ عن خطئه، ولا صبا إلى صواب صاحبه، ولا افترقا إلا على الاختلاف والمباينة، وكل واحد منهما متمسك بما كان عليه، ولربما علم أنه على الخطأ، فاجتهد في نصرته، وهذه أخلاق كلها تخالف الكتاب والسنة، وما كان عليه السلف الصالح من علماء الأمة»3.

ب/ الغضب:

الغضب محله القلب، ومعناه: غليان دم القلب بطلب الانتقام، وإنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها وإلى التشفي والانتباه بعد وقوعها.

فكثير من المحاورين إذا ظهر رأي أو مشورة أو بادرة كلام قابلة للأخذ والرَّد والصح والخطأ، ثم عارضه صاحبه ولم يوافقه عليها غضب لذلك أشد الغضب، وهذا مما لا يحسن بالمحاور لما له من آثار خطيرة وسيئة بدءًا من توقد القلب والحقد والحسد وانتهاءً بالسب والشتم والهجر والمقاطعة والمقاتلة.

قَالَ الْهَيْتَمِيُّ فِي الزَّوَاجِرِ: "قد مر أن ثمرات الغضب: الحقد والحسد، وبيانه: أن الغضب إذا لزم كظمه لعجزه عن التشفي حالاً رجع إلى الباطن، واحتقن فيه، فصار حقدًا و حسدًا، وحينئذ يلزم قلبه استثقاله وبغضه دائمًا فهذا هو الحقد.

ومن ثمراته أن تحسده بأن تتمنى زوال نعمته عنه، وتفرح بِمصيبته، وأن تشمت ببليته وتهجره وتقاطعه، وتطلق لسانك فيه بما لا يحل، وتهزأ به، وتسخر منه، وتؤذيه، وتَمنعه حقه... وكل ذلك شديدُ الإثمِ والتحريم…)4.

قَالَ ابْنُ عَبدِالبَرِّ: "وقد كان بَيْنَ أصحاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَجِلَّةِ العلماء عند الغضب كلام هو أكثر من هذا... ولكن أهل العلم والميزان لا يلتفتون إلى ذلك لأنهم بشر يغضبون ويرضون، والقول في الرضا غير القول في الغضب، ولقد أحسن القائل: لا يعرف الحلم إلا ساعة الغضب"5.

فإذا ما ضبط الإنسان نفسه عند الغضب، وكبح جماحها عند اشتداد ثورته، فإنه يحفظ على نفسه عزتها وكرامتها، وينأى بها عن مذمة الانتقام ومغبة الندم وذل الاعتذار .

عَن أَبي هُرَيْرَةَ، قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله، أوصني، فقال: «لا تغضب» فردد مرارًا، قال «لا تغضب»6.

   وَعَنْهُ أَيْضًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَيْسَ الشَّدِيْدُ بِالصُّرُعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيْدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ"7.    

ج/ الدُّخُولُ فِي النِّيَّاتِ:  

إنَّ من القواعد المهمة والآداب الراقية التي ينبغي أن يتحلى بها المسلم عند حواره مع الآخرين: حُسْنُ الظن بهم، وحملُ أمرهم على السَّلامة والسَّتر ما لم يأته ما يغلبه، وعدم أخذهم بلازم أقوالهم دون أن يلتزموا به وذلك لما يلي:

1/ أَنَّ هذا المنهج هو الذي توافرت على تقريره النُّصوص الشَّرعية:

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)8.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تنافسوا،ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا"9.

وقد حث الصحابة والتابعون الأمة على اتباع هذا المنهج الرفيع؛ فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:"لا تظن كلمة خرجت من أخيك شرًّا وأنت تجد لها في الخير محملًا"10.

وقال أبو قلابة الجرمي: "إذا بلغك عن أخيك شيئًا تكرهه فالتمس له عذرًا جهدك، فإن لم تجد له عذرًا فقل: لعل لأخي عذرًا لا أعلمه"11.

وبسلوك هذا المنهج القويم وصلوا رحمهم الله إلى سلامة الصَّدر، والتي كانت منقبة لهم، يَمْدَحون من اتصف بها، ويحمدون الله تعالى على بلوغها.

قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "لم يدرك من أدرك من هذه الأمة بكثرة صلاة ولا صيام، وإنما أدرك ذلك بسخاء النفس، وسلامة الصدر والنصح للأمة "12.

2/ أنَّ هذا المنهج هو الذي سار عليه السلف الصالح في حياتهم العملية راسمين لمن بعدهم صورًا مشرقة في حوارهم وتعاملهم مع الآخرين، ومن ذلك:

أن الربيع بن سليمان دخل على الشافعي ذات يوم يعوده من مرض ألم به، فقال له:"قوى الله ضعفك، فقال الشافعي: لو قوي ضعفي لقتلني.

فقال الربيع: والله ما أردتُ إلا الخير، فقال الشافعي: أعلم أنك لو شتمتني لم ترد إلا الخير ..".

وهكذا ينبغي أن يكون النَّظر لأهل الفضل والخير، وهذا من فقه المقاصد والنيات الذي يجهله كثير من الناس عندما يحكمون على الآخرين بالنظر إلى الخطأ مجردًا عن حال الشخص ونيته ومقصده، فربما تكون زَلَّة لسان ولا يقصد المعنى الفاسد لها، كما بين ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى، حيث قال: "والكلمة الواحدة يقولها اثنان، يريد بها أحدهما أعظم الباطل، ويريد بها الآخر محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه، وما يدعو إليه ويناظر عنه"13.

ولهذا لم يحكم بالكفر على الذي أخطأ من شدة الفرحِ، فقال: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك"14.  لأنه لم يقصد تأليه نفسه.

ورحم الله القلاعي إذ يقول: (فقد يوحش اللفظ وكله ودّ، ويكره الشيء وليس من فعله بدّ، هذه العرب تقول: لا أبا لك في الأمر إذا هم، وقاتله الله ولا يريدون الذمّ، وويل أمه للأمر إذا تمَّ، ومن الدُّعاء تربت يَمينك، ولذوي الألباب أن ينظروا في القول إلى قائله، فإن كان وليًّا فهو الولاء وإن خَشُنَ، وإن كان عدواً فهو البلاء وإن حَسُن)15.

د/ الهجر والصَّرْم:

إِنَّ المحاورة والمناقشة تؤثر – في غالب الأحيان – على القلوب، وتكدر الخواطر، فتذكر ذلك جيدًا وأنت تحاور، فليست المشكلة أن نختلف، وإنما المشكلة ألا نعرف كيف نختلف، وليس الحل بألا نختلف أبدًا، فهذا غير ممكن ولا متصور، وإنما هو: ألا نُصَعِّدَ الخلاف، وألا نسعى إلى إذكائه، وأن نعرف كيف نتحاور، وكيف نختلف، كما نعرف كيف نتفق.

ولقد كان الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين مثالاً رائعًا يحتذى به في حال الوفاق وحال الخلاف، فمع أن الخلاف وقع بينهم في العديد من المسائل إلا أن قلوبهم كانت متوادة متقاربة متآلفة، وبرغم ما حصل بينهم من قتال وفتنة، إلا أن روح العدل والإنصاف والورع والتقوى كان قائمًا فيهم، فلم يُكَفِّر بعضهم بعضًا، ولم يُبَدِّع بعضهم بعضًا، بل كانوا يأخذون العلم من بعض ويلتمسون المعاذير لبعض، بل كانوا يثنون على بعض، ويترحمون على بعض.

هـ/ قلة الإنصاف:

إنَّ قلة الإنصاف من الأخلاق الذَّميمة، لأنها تورث الظُّلم والبعد عن العدل، بل وتؤدي إلى الهجر والصرم والقطيعة، قال الحكيم العربي:

                      ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة   

                                                  بين الرِّجال وإن كانوا ذوي رحم

ولئن كان الإنصاف جميلاً، فلهو مع الأقران أجمل وأجمل، ذلك أن الرجل يسهل عليه أن ينصف من هو أكبر منه سنًّا أكثر مما يسهل عليه أن ينصف قرينه،ذلك لهو أكبر عائق عن الإنصاف هو التحاسد.

وقد يسهل عليه أن ينصف أقرانه أكثر مما يسهل عليه أن ينصف من هو أحدث سنًّا، منه وهذا ما يقرره ويوضحه الإمام المعلمي، حيث قال رحمه الله تعالى:

".. وبالجملة فمسالكُ الهوى أكثر من أن تُحصى، وقد جربتُ نفسي أنني رُبَّمَا أنظر في القَضية زَاعِمًا أنه لا هوى لي، فيلوح لي فيها معنى، فأجدني أتبرم بذلك الخادش، وتنازعني نفسي إلى تكلف الجواب عنه، وغض النظر عن مناقشة ذلك الجواب، وإنما هذا لأني لما قررت ذاك المعنى أولاً تقريرًا أعجبني صرت أهوى صحته، هذا مع أنه لم يعلم بذلك أحد من الناس، فكيف إذا كنت قد أذعته في الناس ثم لاح لي الخدش؟ فكيف لو لم يلح لي الخدش، ولكن رجلاً آخر اعترض عليَّ به؟ فكيف لو كان المعترض ممن أكرهه؟...أهـ.

.. ثم قال.. هذا ولم يُكلَّف العَالِم بأَن لا يكون له هَوى، فإن هذا خارج عن الوسع، وإنما الواجب على العالم أن يفتش نفسه عن هواها، حتى يعرفه ثم يحترز منه، ويمعن النظر في الحق من حيث هو حق، فإن بان له أنه مخالف لهواه آثر الحق على هواه.."16.

عن عمرو بن سعيد عن أمه قالت: "قَدِمَ ابن عمر مكة فسألوه فقال: أتجمعون لي يا أهل مكة المسائل وفيكم ابن أبي رباح – يعني عطاء –"17.

فابن عمر رضي الله عنه كان صحابيًّا، وعطاء بن أبي رباح رحمه الله كان تابعيًّا، ومع ذلك أنصفه ابن عمر، ولم يغمطه حقه.

ومن الإنصاف الذي يدل على الرسوخ في الفضيلة أن يتحدث الرجل عن خصمه فينسب إليه ما يعرفه له من فضل.

وإن جماع الخير والإنصاف كله، في حب المرء لإخوانه ما يحبه لنفسه.

وفي الحديث الصحيح عند البخاري ومسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه)18.

و/ قلَّة العلم بمادة الحوار:

فقد يحاور المرء بدون علم ولا فهم، وهذا يوقع في الحرجِ، فالعلم بموضوع الحوار وتفاصيله مما يمكن من الوقوف على أرض ثابتة.

وخير ما يستعين به المحاور عند إرادته الحوار في موضوع ما: أن يجمع أطراف الموضوع، ويتصور جميع احتمالاته، ووجوهه، وأن يطلع على ما كتب فيه سواء من المؤيدين أو المعارضين، وأن يحيط علمًا بكلام العلماء الأجلاء من هيئة كبار العلماء وغيرهم سواء كان ذلك على شكل فتوى أو رسالة أو مؤلف مستقل، وأن يكون ذا نظر ثاقب، وخبرة عالية بظروف المكان والزمان، وتطورات العلوم والمعارف وطبائع النفوس ونزواتها.

فهذه الأخطاء من الأمور التي تخل بالحوار الهادف وتصل به إلى هوى النفس ونزغات الشيطان وتنقل الخلاف السائغ إلى خلاف مذموم مقيت.

 

المراجع:

1 - التعريفات (ص135).

 2 - حلية الأولياء(9/118)، وصفة الصفوة ( 2/167)، والفقيه والمتفقه للخطيب (2/242)، (665).

3 - أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/209)، (699).

 4 - (1/82).      

 5 - جامع بيان العلم وفضله (3/413)، برقم (11173).

 6 - أخرجه البخاري في صحيحه،10 / 519 رقم 6116.

7 - أخرجه البخاري في صحيحه،10 / 518 رقم 6114، ومسلم في صحيحه، 4 / 2014 رقم 2609 .

 8 - سورة الحجرات، الآية 12.

9 - أخرجه البخاري في صحيحه 10 / 481 رقم 6064 . ومسلم في صحيحه، 4 / 19865 رقم 2563.

10 - أخرجه أبو الشيخ في التوبيخ والتنبيه، ص189 رقم157.

11 - انظر: حلية الأولياء، لأبي نعيم (2/285).

12 - غربة الإسلام لابن رجب، ص87.

 13 - مدارج السالكين (3/521).

 14 - رواه مسلم في صحيحه برقم (2747 ).

 15 - أحكام صفة الكلام للقلاعي، ص79.

16 - انظر: القائد إلى تصحيح العقائد 32.

 17 - أخرجه يعقوب في المعرفة والتاريخ (1/172)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (40/381)، وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة 2/143، والمزي في تهذيب الكمال (20/77).

 18 - أخرجه البخاري في صحيحه (1/14) برقم (13)، ومسلم في صحيحه (1/67)، (71/45).


عدد القراء: 7464

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-