أصالة إبراهيم عبدالقادر المازنيالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2017-02-03 03:16:00

د. حسن كمال محمد محمد

هل كان المازني أديبًا أصيلًا؟

لكي نجيب عن هذا السؤال يلزمنا أن نطوف تطويفة في حياة ذلك الرجل، فنقول:

حين يجري ذكر إبراهيم عبدالقادر المازني (1889-1949م) – وهو حقيقٌ بالذكر – من وقت إلى آخر، وما بين الفينة والأخرى، نتذكر تلك التهمة الغريبة التي رُمِي بها من لدن صفيّه ورفيق دربه عبدالرحمن شكري (1886-1958م)، وأيضًا ما إن نتذكر هذين العلمين – المازني وشكري – إلا ويقفز إلى أذهاننا عباس محمود العقاد (1889-1964م)، وما إن يجتمع هذا الثالوث إلا وتقفز إلى ذواكرنا تلك المعارك الأدبية حامية الوطيس، التي انطلقت في مطلع القرن العشرين مُخلِّفةً وراءها حممًا نقدية وشظايا أدبية أذكت الحياة الأدبية في مصر، بل وفي الأوطان العربية قاطبة، وما زالت تذكي حتى اليوم.

لقد كانت حياة المازني مليئة بكثير من الجوانب المظلمة التي كان لها أثر كبير في إبداعاته، ونفسيته، وتصرفاته، إذ تصالحت عليه كثير من المعضلات التي جعلته ذا ذات مميزة متفردة من بين ذوات شعرائنا وكتّابنا.

وأول المعضلات التي كان لها كبير الأثر في نفسيته الإحساس بالنقص والضآلة، إذ خُيّل إليه – أو أنه كان كذلك – أنه قصير، ودميم، وذو صورة لا تطاق، وهذا الإحساس كان قمينًا بأن يدمّره، ويقضي عليه، ولمّا لم يفعل ذلك، فقد أودع في نفسه كثيرًا من الحساسية المفرطة.

وثاني المعضلات معضلة ضيق ذات اليد، فقد كان فقيرًا، ووضح ذلك في أنه كان يودّ الالتحاق بكلية الحقوق، ولكن مصاريفها كانت قد زادت في هذا العام، فالتحق بمدرسة المعلمين التي تمنح تلاميذها مبلغًا من المال عند الالتحاق بها.

وثالث المعضلات تلك الحساسية والنفس الشفافة التي كان عليها، وقد وضحت هذه الصفة لديه عندما التحق بكلية الطب بدايةً، فما إن رأى غرفة الجثث والتشريح، حتى ولى هاربًا إلى غير رجعة.

ويضاف إلى هذه المعضلات والرزايا التي رزح تحت وطأتها في مقتبل حياته، العرج الذي أصيب به، عندما كان في طريقه لإحضار الدواء لزوجه الأولى، وبذا يضاف العرج إلى القصر والقماءة، وأيضًا من الرزايا الفطرية التي رُزِئ بها رزية النسيان السريع جدًّا، فما يقرأ شيئًا إلا وينساه، وظهر ذلك في أنه عندما كتب (إبراهيم الكاتب) لم يرضَ عنها، فوضعها في درج مكتبه، ثم عاد إليها بعد ذلك لينشرها، ولكنه نسي عن أي شيء تدور، فتصرف فيها بعض التصرف، وصاغها من جديد، وكثير من هذا القبيل يبيّن مدى طغيان هذه الآفة عليه.

وأيضًا من الآفات التي أصابته في حياته إصابته بالنورستانيا؛ لترديه في أحد القبور وملامسته أجساد الموتى – كما زعم – إذ كان يقطن في منطقة مقابر على تخوم العالمين، كما أسماها في (حصاد الهشيم)، فقد قال: «بيتي على حدود الأبد – لو كان للأبد حدود – وليس هو بيتي، وإن كنت ساكنه، وما أعرف لي شبر أرض في كل هذه الكرة، ولقد كانت لي قصور – ولكن في الآخرة!! – بعت بعضها والبعض مرهون بحينه من الضياع، ووقفت معلقًا بين الحياتين، كما سكنت على تخوم العالمين»(1).

ومثل هذه النقائص والآفات كانت كفيلة بأن تقضي عليه القضاء الذي لا قيام له بعده، ولكن قوة شكيمته ونفسه القوية حالت دون ذلك، ولكنها لم تسلمه لنا صحيحًا معافى، فقد تركت في نفسه وإبداعه الكثير من الشروخ التي تمثلت في الفلسفة التي كان عليها، والتي اتخذت السخرية اللاذعة من كل شيء أداة لها ووسيلة للتعبير عنها.

وانطلاقًا من هذه الفلسفة التي آمن بها المازني، واتخذ لها السخرية مُعبِّرًا، سخر من كل شيء يعرض له في حياته، حتى نفسه سخر منها، وحتى إبداعه الذي أبدعه، فإن عناوين كتبه على سبيل المثال تجعلنا نشعر بالاستغراب والدهشة، عندما نطالعها، فها هي: (حصاد الهشيم) و(قبض الريح) و(صندوق الدنيا) و(خيوط العنكبوت)، فكل هذه العناوين لا تدل على شيء غير السخرية، والضعف، والملهاة.

فـ (حصاد الهشيم): أولًا الهشيم ليس له حصاد، فهو يُذَرّ في الهواء، ولا فائدة منه، ولا جدوى من ورائه، وإنما يدل على الضعف، و(قبض الريح): فإذا قبضنا على الريح، ماذا يبقى لنا؟ دون شك لا شيء، وهذا أيضًا يدل على الضعف والعدم، و(صندوق الدنيا): عبارة عن ملهاة، ولعبة من لعب الأطفال، وهذا يدل على السخرية والضعف أيضًا، و(خيوط العنكبوت): هي أضعف شيء، كما عبّر عنها القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) العنكبوت:41.

وبذلك يتجلى هذا النهج من السخرية الذي انتهجه المازني، وجعله فلسفة له، فعصارة فكره، وبنات أفكاره لا قيمة لها، فهي حصاد هشيم، وقبض ريح، وصندوق الدنيا، وخيوط العنكبوت، وإذا ما حاولنا أن نجري مقارنة بسيطة بين عناوين كتبه، وعناوين كتب غيره، فسوف نجد غيره يُهوّل فيها أي تهويل! فيجعلها مثلًا: (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة) و(خزانة الأدب) و(يتيمة الدهر) و(النجوم الزاهرة) و(خريدة القصر وجريدة أهل العصر) و(العقد الفريد) و... أما كتبه هو فهباء في هباء.

وإذا حاولنا أن نفعل ما فعله العقاد، عندما أخذ حياة ابن الرومي من شعره في كتابه (ابن الرومي حياته من شعره)، فسوف نجد هذا المنهج يصدق تمام الصدق على المازني، فقد انسكبت حياته في مؤلفاته، فهي مُعبّرة عنه أصدق تعبير، وسابرة أغوار نفسه أحسن سبر، وبذلك يكون نسيج وحده من بين أدباء العربية، فأدبه يائس حزين يعبّر عن نفسه الأسيانة الكسيرة:

عَلَى قَدْرِ إِحْساسِ الرِّجالِ شَقاؤُهُمْ  

                            وللسَّعْدِ جَوٌّ بالْبَلادَةِ مُشْرَبُ

وهذا الحزن وذلك الأسى الذي تبدّى في شعره هو الذي جعله يرثي نفسه في حياته، وذلك لشعوره بالغبن، وتيقّنه من أنه سوف يُنسَى بمجرد أن يواريه التراب، وهذا ما جعله يرثي نفسه ذلك الرثاء الذي يقطر مرارةً وأسًى، فقد كان يرى نفسه أهلًا لأن يُهتَم به، وقمينًا بأن يكون مع الخالدين الذين لا يأتي عليهم النسيان مدى الحياة، فمن هذا الرثاء قوله:

قَضَى غيرَ مَأسُوفٍ عَلَيهِ مِنَ الوَرَى

                                       فَتًى غَرَّه في العَيشِ نَظْمُ القَصائدِ

 لَـقـدْ  كانَ  كَـــذّابًا  وكانَ  مُــنافــِقًــا

                                     وَكانَ  لَـئـيـمَ  الـطَّـبعِ  نَزْرَ  المَحامــدِ

 وَكانَ  خَبيثَ  النَّفسِ كالنّاسِ كلِّهمْ

                                     جَبانًا  قَليلَ   الخَيرِ  جَــمَّ   الحَـقـائدِ

 وَقدْ كانَ  مَجْنونًا  تَضاحَـكـه  المُنَى

                                     وفي  ريقِها  سُمُّ  الصِّلالِ  الشَّواردِ

 فَعاشَ  وَما  واساه  في العَيشِ واحِدٌ

                                     وَمــاتَ  وَلمْ  يَحْـفـلْ  بهِ غَيرُ  واحـدِ

 أرادَ  خلودَ  الذِّكرِ  في الأَرضِ ضَلَّـةً 

                                      فَـأورَدَه  النّــِسْــيانُ  مُــرَّ  المَـــواردِ

 فَــلا  تَــندُبُــوه  إِنَّــه  لَيــسَ  بالأَســَى

                                     حقيقًا  وَلا  أهــلَ  الـهُـمـومِ  العَوائدِ

 وخـــلُّــــوه  للــدِّيــدان ِ تَـأكلُ  لَــحْــمَـه

                                      وَذاكَ  لَعَمْري  خَطْبُ  كُلِّ  البَوائدِ(2)

وهكذا، فمن مجموع ما مر من حياة المازني، وما صاحبها من ظروفه الخاصة جدًّا جعله يتلقى كل شيء في الحياة بابتسامة السخرية والاهتزاء واللامبالاة، فقد تلقى تلك التهمة الغريبة على عصرنا الحديث، وهي تهمة السرقة التي رماه بها توءم روحه عبدالرحمن شكري، بروح رياضية نادرة المثال، وغير معهودة، فعلى عادتنا بالشعراء والكتاب، عندما يحاول واحد أيًّا كان أن ينال منهم، أو يرميهم بأي مغمز، فإنهم يتشنجون، ويذهبون في الشطط والغضب كل مذهب، ويلجؤون إلى كل وسيلة للتخلص من هذا القادح الذي يود أن ينال منهم، ولكن المازني توافقًا مع فلسفته التي التزمها أخرج لهذه التهمة وذلك المغمز لسانه ساخرًا غير آبه، فلم يُقِم الدنيا، ويقعدها، وعندما اُضطُر إلى تبرير ما حدث له أخذ يدافع عن نفسه دفاعًا مجيدًا بأنه حفظ المعاني، ونسي أنها لغيره، وهذا جائز في علم السيكولوجيا، وعلل ما حدث منه أيضًا بأنه ضعيف الذاكرة، وهذا صحيح، كما مر، فحين يقرأ شيئًا سرعان ما ينساه، ولكنه يُختزَن في اللاوعي، وعند الكتابة يطفو هذا المخزون، ولا يطفو كما هو، بل يطفو مشوبًا ومختلطًا بنفسه التي تصوغه صياغة جديدة عليها بصماته، وممهورة باسمه.

وفي كثير من الأحيان يكون ما يأتي به من قبيل توارد الخواطر، وما يمكن أن يتفق فيه الناس جميعًا، ولعل أوضح مثال على ذلك قصيدته المسماة (فتى في سياق الموت)، فهو فيها يصور مشهد احتضار إنسان وحالاته، وهو في النزع الأخير من حياته، ومما لا شك فيه أن مشهد الاحتضار شيء يتساوى فيه – في الأعم الأغلب – عامة الناس، وعندما يُوصَف، فإنه يُوصَف تقريبًا بطريقة واحدة.

فقد اُتُّهِم المازني بأنه أخذ قصيدته (فتى في سياق الموت) من توماس هود (1799-1845م) الذي عبّر عن مشهد الاحتضار نثرًا، بينما المازني عبّر عنه شعرًا، وهذا التشابه بين الأديبين، إنما هو من قبيل توارد الخواطر وتشابه الأحاسيس الإنسانية، وإذا ما سلمنا بأنه اطلع على قصيدة توماس هود قبيل أن يكتب قصيدته، فهذا مما يُحسَب له لا عليه؛ لأنه دليل على سعة اطلاعه وتبحره، ليس في الأدب العربي وحده، بل أيضًا في الآداب العالمية، والبون واسع ما بين الأدبين، فكلاهما له طبيعة خاصة وظروف متباينة، وإن اتفقا فيما تتفق فيه المشاعر الإنسانية، كما في هاتين القصيدتين اللتين تعبران عن إحساس واحد ومشاعر إنسانية واحدة يتشابه فيها الناس جميعًا مهما اختلفت أوطانهم، وتباعدت أجناسهم.

إذن، فما كان بين المازني وتوماس هود هو من قبيل توارد الخواطر وتوافق الأمزجة، على الرغم مما بينهما من أوجه اختلاف، أما ما كان من أوجه شبه واتفاق بين المازني والشريف الرضي (969-1015م) في قصيدته (مخرس الدهر) فهو من جراء تشبع المازني بالشريف وكثرة اطلاعه على شعره، لدرجة أنه لم يجد بُدًّا من أن يطفو على تعابيره الكثير من تعابير الشريف، ولقد دارت قصيدة الشريف حول الفخر والمدح، في حين أن قصيدة المازني تدور حول الموت وساعاته الأخيرة ومعاناة صاحبه، ولا على المازني أن تتسرّب إلى معجمه بعض ألفاظ الشريف وتعابيره، وإلا فما جدوى الاطلاع، وما الفائدة من قراءة الشاعر أشعار غيره، إن لم يكن محاولة للنسج على منوالهم، فقد كان الشريف الشاعر الأثير لدى المازني، ومن ثم تغلغل فيه، وكأن المازني اليوم هو الشريف أمس، أو كأنه امتداد له، وتلميذ من تلاميذه، وتأثُّر التلميذ بالأستاذ أمر وارد، ولا غبار عليه.

ومهما يكن من أمر، فصنيع المازني لا يتجاوز التأثر والإعجاب بالشريف الرضي الذي رآه مثالًا يرنو إلى الوصول إليه في محاولة لمحاكاته والصوغ على طريقته، وبذلك يكون المازني قد تأثر بكل ما كان يقرؤه، فيترك في لاوعيه شيئًا يظهر عند الكتابة فقط، ولا يظهر فيما سوى ذلك، فهو مستهدف من الذاكرة تخونه أحيانًا، وتعابثه أحيانًا أخرى، وتعاصيه بعض الأحايين، وهذا ما كان يعرفه عن المازني كل من يحيط به، أو يتعامل معه، سواء في الحياة العامة، أم في حياته الأدبية العلمية.

وبسبب معرفة المازني بنفسه، وما يعتريها بين الحين والآخر لم يؤثّر فيه اتهامه بالسرقة، ولم ينل منه مثلما نال من عبدالرحمن شكري الذي بسبب هذا الاتهام توقف عن كتابة الشعر، واعتزل القريض نهائيًّا، أما المازني فعندما ألحوا عليه مرارًا وتكرارًا بهذه النقيصة أجابهم بأنه سوف يتخلى لهم عما يظنونه سرقة، وما هو من السرقة في شيء، فهذا التسليم منه نزول إلى منزلتهم من الجهل، فما داموا لا يعلمون، فلينزل إلى مستواهم ما دام مستواه فوق مستواهم، ولا يريدون السمو إلى مكانته السامية.

      ومن مجمل ذلك يتضح أنه إذا ما أخذنا في الحسبان ظروف المازني الخاصة جدًّا، ونفسيته الحساسة جدًّا، وروحه النائية عن كل تقليد، والبعيدة عن أن تكون بوقًا يكرر معاني غيره وأحاسيسه لا بد أننا واصلون حتمًا إلى الصواب، والقول: إن المازني أديب أصيل من شعر رأسه إلى أخمص قدميه، وإن ما كان منه إنما هو من قبيل رشح معاني غيره على معانيه، فيحدث من التقاء الرشحين توليفة أصيلة عليها ميسم المازني الشاعر والقصاص وكاتب المقال، وتحمل روحه الساخرة من كل شيء على الأرض، وكأنه وحده الذي أدرك حقيقة القول والإبداع الأصيل!

وسلام على المازني من دنيانا؛ دنيا السرقة والانتحال إلى دنياه؛ دنيا الأصالة واليقين.

 

 

الهوامش:

1 - حصاد الهشيم، طبعة دار الشعب، القاهرة، ص7.

2 - إبراهيم المازني. د. محمد مندور. مطبعة نهضة مصر بالفجالة. القاهرة. 1954م. ص38.


عدد القراء: 8991

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

التعليقات 1

  • بواسطة خالد يسين من الجزائر
    بتاريخ 2018-12-01 02:31:35

    من فظلك مضمون وتحليل قصيدة يا وردة الحسن القديم

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-