الثقافة والتثقيف الذاتي لدى «سلامة موسى»الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2017-02-03 03:39:12

د. رضوى زكي

باحثة أكاديمية - مصر

استهل الكاتب والمفكر المصري الراحل سلامة موسى (1887-1958م) في واحد من أهم وأبرز مؤلفاته "التثقيف الذاتي أو كيف نربي أنفسنا" -والذي صدرت له ستة طبعات كان أولها منذ ما يقرب من السبعين عامًا؛ عام 1946م- بمقدمة تُعنى مباشرة بهدف وغرض هذا الكتاب؛ ألا وهو "تخريج الرجل المثقف"، بل ويعرج مباشرة إلى أهمية "الثقافة" بمفهوم واسع وشامل يتعدى معناها ليشمل فكرة أوسع وأرحب كأسلوب لحياة الشاب المصري العصري، إذ إنه يوجه هذا الكتاب بالخصوص لفئة الشباب في تلك الفترة من تاريخ مصر؛ نهاية عهد الملكية والاحتلال البريطاني لمصر.

وقد لجأ سلامة موسى في مقدمة كتابه لتوضيح منهج للقراءة للانتفاع بهذا الكتاب؛ إذ إنه قام أولاً بمعالجة قيم ومبادئ وأفكار أولية، ثم ما لبث أن استكمل أهم مقومات التثقيف الذاتي بدراسة اللغة العربية ابتداءً، مرورًا بدراسة العلوم والسياسة والتاريخ والفلسفة والدين والفنون، وانتهاءً بوضعه لبرنامج للتثقيف الذاتي.

التعليم والمجتمع

طرح الكاتب عدة قضايا جديرة بالتأمل ليومنا هذا، ومنها على سبيل المثال جدوى التعليم المدرسي والجامعي وأثره على حياة الفرد، ذلك أن هذا التعليم النظامي لا يشجع المواهب ولا القدرات الخاصة لكل طالب، بل والأكثر أنه تعليم تلقيني يقوم على تعليم المعرفة دون امتلاك للوسيلة أو المنهج أو الطريقة لاكتساب المعارف والتزود منها، وهو للعجب من أكثر ما نشكو منه اليوم عن حال التعليم في مصر!. ولهذا السبب كان المجتمع وما يقدمه من ضروب المعارف، أدبًا وفنًّا وعلمًا، الأثر البالغ على ثقافة الفرد، ومن ثم ثقافة المجتمع بأكمله؛ فالمجتمع "يربينا" حسب قول سلامة موسى، فالعديد من العلماء والأدباء البارزين لم يتلقوا قسطًا كافيًا من التعليم، ولكنهم تركوا بصمات لن تمحى من تاريخ التراث الإنساني، كداروين، وبرنادشو، والأديب المصري عباس محمود العقاد.

مسئولية التثقيف الذاتي للفرد وأهميتها ومعوقاتها

يتساءل الكاتب بتعجب واستنكار كيف للفرد أن يقضي ما تبقي من عمره بعد تخرجه من الجامعة في بداية العشرينيات على ما اكتسبه من معارف مرحلة الدراسة الجامعية وما سبقها، فيشبه الكاتب ذاك الشخص المنطوي على حاجته للكسب وحسب بأنه يعيش حياة غير ذات مغزى ودلالة، ولا يختلف بيولوجيًّا عن الكائنات الأخرى الأدنى درجة، فالثقافة ضرورة أساسية لتطور الفرد والمجتمع، بل ومكونًا أساسيًّا للسعادة الشخصية للفرد؛ فالفهم أعظم أنواع السعادة، والمعرفة هي السبيل إلى الحب. وفي نطاق المجتمع فالجمهور غير المثقف هو أعظم الوسائل استغلالاً للمستبدين والمستعمرين؛ لأنه سريع الانقياد، شديد التأثر بالوعود البراقة والكلمات الرنَّانة. وهنا تظهر قيمة أوعية المعرفة كتابًا أو جريدةً أو مجلة؛ فإن عاش المجتمع متخذًا من القراءة والمطالعة عادة اجتماعية لاتخذ الفرد قرارته المصيرية وفقًا لوعيه وفكره.

وقد أصبحت مسؤولية الثقيف الذاتي أشد طلبًا بعد زيادة أوقات الفراغ وتطور العلم، ولكن هناك بعض المعوقات التي تقف حائلاً في سبيل تلقي المعارف والنهل من بحر الثقافة كالعادات الشخصية للفرد، وقراءة الغث من الجرائد والمجلات، وعدم التكافؤ الثقافي بين أفراد العائلة الواحدة، وتعارض تحصيل العيش مع تحتاجه عملية التثقيف من وقت ومال، ويعد أبرزها وأشدها تأثيرًا المعارضة المجتمعية لبعض ضروب المعرفة والرقابة على حرية الفكر.  

الثقافة: ماهيتها وغايتها

اختلف الكاتب في إيجاد تعبير محدد لماهية الثقافة ومدى اختلاطها بالحضارة؛ فقد رأى أن الثقافة هو التراث البشري الذي تكوَّن فيما لا يقل عن خمسين ألف سنة، والحضارة هي واقع الثقافة، ولا يلزم أن يكون واقع الثقافة والحضارة متماثلًا سويًا في المجتمعات المثلى. وإن كان غرض الكتاب بأكمله هو الترغيب في الثقافة وإيضاح أهميتها للفرد والمجتمع، وعرض أبسط الطرق والأساليب للخوض فيها؛ فالكاتب قد شدّد على أن التثقيف الفكري يجب أن تكون بمثابة مسألة فسيولوجية للفرد، يحتاج إليه كالماء والغذاء، ليتنفس عقله ولا يركد، ويموت ذهنيًّا قبل أن يدفن بسنوات. كما أن المعارف وإن كانت ثابتة في موضوعها، فهي متغيرة في تأثيرها؛ فهي تمتزج بنفسية الفرد، ويختلف تأثيرها من شخص إلى آخر لاختلاف الحاجة النفسية عند كل منهم.

المثقف المصري وإشكالية الأدب العربي

نقل سلامة موسى عن الرئيس الأميركي "وودرو ويلسون" شروط لما يجب أن يكون عليه المثقف بصورة عامة؛ فيجب عليه أن يعرف تاريخ العالم منذ بداية الكون إلى الآن، وأن يدرك تاريخ الأفكار السائدة التي يسير عليها العصر الحالي من مبادئ، ويطلع على فرع من فروع العلوم التجريبية الحديثة، ثم يجيد لغة ما، وخيرها لغته الأم. لكنه – أي الكاتب- عاد وانتقد هذه الشروط، على أهميتها، إلا أنها أغفلت أهمية الفنون الجميلة في تهذيب سلوك الفرد المثقف.

غير أن أبرز ما يؤخذ على سلامة موسى التفاته بالكلية إلى النظريات العلمية التي أثرت في تكوينه كنظريات داروين، وانتقاصه من الأدب العربي بوجه عام، وعدم التفاته إلى دور الحضارة الإسلامية في حركة العلوم البشرية، فهو يرى أن دراسة الأدب العربي لا يمكن أن تشكل مكونًا للإنسان العصري في وجهة نظره، وحين وضع قائمة بأهم الكتب التي غيرت وجه الثقافة البشرية، فجاء على رأسها كتاب "أصل الأنواع" لداروين، وذيلها بكتاب قاسم أمين الشهير "تحرير المرأة".

سيكولوجية القراءة والدراسة

من أبرز موضوعات كتاب "التثقيف الذاتي" ما طرحه الكاتب عن سيكولوجية القراءة والدراسة، فقد رأى أن ما يحتاجه المثقف للدراسة وحتى القراءة الجادة هما أمرين؛ الحافز والذكاء، أما الحافز فهو الرغبة المشتعلة لتحصيل العلم، الشغف الذي توجده الحاجة الملحة للمعرفة، وهو إما طبيعيًّا ينشأ مع الفرد منذ الطفولة، أو مكتسبًا يعرفه الفرد في سن الشباب. واشتهاء وطلب العلم والمعارف أهم من الذكاء عند سلامة موسى؛ فإذا كان الحافز قويًّا، فلا يبالي الفرد بمقدار ما يملك من ذكاء؛ لأن قليلًا من الذكاء مع كثير من الرغبة في الدرس هما خير ألف مرة من ذكاء عبقري مع انعدام الرغبة.

ولتكون للقراءة والدراسة أثرًا فعالاً وحقيقًا في نفس الفرد، فيجب عليه أن يتصفح الكتاب بعناية أولاً، ثم يقرأ محتوى الكتاب وفقًا لترتيب الكاتب، ويقوم بالتعليق على ما قرأه، بل ونقده أيضًا وكأنه يناقش الكاتب في أفكاره. وينصح سلامة موسى أيضًا باختيار وقت ومكان الدراسة والقراءة للحصول على أكبر قدر من التهيئة النفسية للفرد.

أساسيات التثقيف الذاتي للمثقف المصري

بعد أن قدم سلامة موسى مدخل عن الثقافة وأهميتها ومعوقاتها وغايتها، وقدم دليلاً للاستفادة من القراءة المثمرة؛ فقد قام بتحديد إطار عام لما يجب أن يطلع عليه الفرد المثقف من معارف، فعكف على توضيح أهمية اللغة العربية في فكر وتكوين المثقف المصري، وعلى الرغم من انتقاده الدائم للأدب العربي؛ فالكاتب يقدم للقارئ ترشيحًا لقراءة نماذج من عيون التراث العربي، التي تعد أساس الثقافة العربية القديمة، وكذلك الكتب التراثية في مجال الفلسفة والرحلات. ولدراسة الحضارة المصرية القديمة مكانة بارزة في عملية التثقيف الذاتي عند سلامة موسى، لكونها تراثًا إنسانيًّا فذًّا، ولكون مصر تختص بهذا التراث في الأساس، فوجب على المثقف المصري ألا ينقطع عن أصوله المصرية القديمة. وقد عنى الكاتب بأهمية التعرف على اللغات الأجنبية، لتسهيل الاطلاع على الأدب العالمي بلغته الأساسية، كما رأى ضرورة تعرف الفرد على بعض أساسيات الاقتصاد والفلسفة والدين والفنون والتاريخ.

برنامج التثقيف الذاتي للفرد: من التعميم للتخصيص

قام سلامة موسى في نهاية كتابه بالحديث عن بذور ثقافته قبل أن يرشد القارئ لكيفية وضع برنامج للتثقيف الذاتي خاص به، ودعا من ينشد الثقافة بحق أن يتوسع في المعارف السطحية على خلاف نظرية التعمق والتخصص في علم محدد من العلوم، فللكاتب نظرية تقوم على أن التعميم في المعارف سيؤدي بالتبعية إلى الوقوع في أسر لون من ألوان العلوم أو الفنون أو الآداب، فيأخذ هذا المثقف المحب في التبحر فيه رويدًا رويدًا، ويصير سائر ما يقرأ بالنسبة له فرعيًّا. ومن يحصر نفسه في نوع واحد فقط من المعارف لا يعرف ما سواها فهو ليس بمثقف؛ بل متعمق أو متخصص، وأيضًا المثقف الذي لا يتعمق في علم معين لن يكون مثقفًا حق الثقافة. "إن التثقيف للحياة وليست الحياة للتثقيف، ولأجل أن نتوسع ونعيش الحياة؛ حياة النفس والجسم والذهن، يجب أن نثقف عقولنا ونربي أنفسنا".


عدد القراء: 6329

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-