شخصية مبادرةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2017-03-20 15:27:32

محمد بن عبدالله الفريح

كاتب ومفكر

في إحدى أمسيات شهر ديسمبر عام 1955 الباردة جمعت (روزا باركس) ذات البشرة السمراء التي تعمل خياطة حاجاتها، وتجهزت للعودة إلى بيتها بعد يوم من العمل الشاق المضني، مشت روزا في الشارع تحتضن حقيبتها مستمدة منها بعض الدفء اللذيذ.

التفتت (روزا) يمنة ويسرة، ثم عبرت الطريق، ووقفت تنتظر الحافلة؛ كي تقلّها إلى وجهتها، وفي أثناء وقوفها الذي استمر عشر دقائق كانت تشاهد في ألم منظرًا مألوفًا في أمريكا آنذاك، وهو قيام الرجل الأسود من كرسيه؛ ليجلس مكانه رجل أبيض.

لم يكن هذا السلوك وقتها نابعًا من روح أخوية، أو لمسة حضارية، بل إن القانون الأمريكي آنذاك كان يمنع منعًا باتًّا جلوس الرجل الأسود، وسيده الأبيض واقف، حتى إن كانت الجالسة امرأة سوداء عجوزًا، وكان الواقف شابًّا أبيض في عنفوان شبابه، فتلك مخالفة تُغرم عليها المرأة العجوز.

وكان مشهورًا وقتها أن تجد لوحة معلّقة على باب أحد المحالّ التجارية أو المطاعم مكتوبًا عليها: (ممنوع دخول القطط والكلاب والرجل الأسود).

كل تلك الممارسات العنصرية كانت تصيب (روزا) بحالة من الحزن والألم والغضب، فإلى متى يعاملون على هذا النحو من الدونية وقلة المكانة؟!

لماذا يُحقرون، ويُزدرون، ويكونون دائمًا في آخر الصفوف، ويصنفون مع الحيوانات؟

وعندما وقفت الحافلة استقلّتها (روزا)، وقد أبرمت في صدرها أمرًا.

 قلّبت بصرها يمنة ويسرة، فما أن وجدت مقعدًا خاليًا، حتى ارتمت عليه، وقد ضمّت حقيبتها إلى صدرها، وجلست تراقب الطريق الذي تأكله الحافلة في هدوء، إلى أن جاءت المحطة المقبلة، وصعد الركاب، وإذا بالحافلة ممتلئة، وبهدوء اتجه رجل أبيض إلى حيث تجلس (روزا) منتظرًا أن تفسح له المجال، لكنها ويا للعجب نظرت إليه غير مبالية، وعادت لتطالع الطريق مرة أخرى!

 ثارت ثائرة الرجل الأبيض، وأخذ الركاب البيض يسبون (روزا) ويتوعدونها إن لم تقم من فورها، وتجلس الرجل الأبيض الواقف.

 لكنها أبت، وأصرت على موقفها، فما كان من سائق الحافلة أمام هذا الخرق الواضح للقانون إلا أن يتجه مباشرة إلى الشرطة؛ كي تحقق مع تلك المرأة السوداء التي أزعجت السادة البيض!

 وبالفعل تمّ التحقيق معها وتغريمها خمسة عشر دولارًا، نظير تعدّيها على حقوق الآخرين.

وهنا انطلقت الشرارة في سماء أمريكا، فثارت ثائرة السود في جميع الولايات، وقرّروا مقاطعة وسائل المواصلات، والمطالبة بحقوقهم بوصفهم بشرًا، لهم حق الحياة والمعاملة الكريمة.

استمرت حالة الغليان مدة طويلة، امتدت إلى 381 يومًا، وأصابت أمريكا بصداع مزمن.

وفي النهاية خرجت المحكمة بحكمها الذي نصر (روزا باركس) في محنتها، وتمّ إلغاء ذلك العرف الجائر وكثير من الأعراف والقوانين العنصرية.

 وفي 27 أكتوبر عام 2001، بعد مرور 46 سنة على هذه الحادثة، تمّ إحياء ذكراها في التاريخ الأمريكي، حيث أعلن السيد ستيف هامب، مدير متحف هنري فورد في مدينة ديربورن في ميتشيجن عن شراء الحافلة القديمة المهترئة من موديل الأربعينيات التي وقعت فيها حادثة السيدة (روزا باركس) التي قدحت الزناد الذي دفع حركة الحقوق المدنية في أمريكا للاستيقاظ، بحيث تعدَّل وضع السود.

 وقد تمّ شراء الحافلة بمبلغ 492 ألف دولار أمريكي. وبعد أن بلغت (روزا باركس) الثمانين من العمر، تذكر في كتاب صدر لها لاحقًا بعنوان «القوة الهادئة» عام 1994 بعض ما اعتمل في مشاعرها آنذاك، فتقول: «في ذلك اليوم تذكرت أجدادي وآبائي، والتجأت إلى الله، فأعطاني القوة التي يمنحها المستضعفين».

وفي 24 أكتوبر عام 2005 احتشد الآلاف من المشيعين الذين تجمعوا للمشاركة في جنازة (روزا باركس) رائدة الحقوق المدنية الأمريكية التي توفيت عن عمر يناهز 92 عامًا.

يوم بكى فيه الآلاف، وحضره رؤساء دول، ونكّس فيه علم أمريكا، وتمّ تكريمها بأن رقد جثمانها في أحد مباني الكونجرس، وهو إجراء تكريمي لا يحظى به سوى الرؤساء والوجوه البارزة.

ولم يحظَ بهذا الإجراء سوى 30 شخصًا منذ عام 1852، ولم يكن منهم امرأة واحدة.

ماتت (روزا) وعلى صدرها أعلى الأوسمة، فقد حصلت على الوسام الرئاسي للحرية عام 1996، والوسام الذهبي للكونجرس عام 1999، وهو أعلى تكريم مدني في البلاد. وفوق هذا وسام الحرية الذي أهدته لكل بني جنسها عبر كلمة: (لا) أشهر (لا) في تاريخ أمريكا.

 تدبر: كل حدث تاريخي جلل، وكل موقف كبير مشرف، كان وراءه شخصية مبادرة تؤمن بقدرتها على قهر ما اصطلح الناس على تسميته (المستحيل)، فكيف يصبح المرء منا شخصية مبادرة؟ كيف يمكن أن نصنع بأيدنا العالم الذي نحيا فيه؟


عدد القراء: 5025

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-