تودوروف: الديمقراطية بين التوتاليتارية والليبرالية الجديدة*الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2017-08-04 17:46:14

د. سعيد بوخليط

مراكش - المغرب

بقلم: تزفيتان تودوروف

ترجمة: د. سعيـد بوخليـط

في كتابه الأخير: انتصار الفنان الثورة والفنانين الروس 1914-1917،الصادر يوم 14 فبراير2017، أعاد تزفيتان تودوروف عبر فصوله ربط الليبرالية الجديدة أو المتوحشة بالتوتاليتارية .

تودوروف، المفكر الكبير العارف بواقع الاتحاد السوفياتي وكذا المطلع على نصوص الأعمال الفنية، توخى إضاءة العلاقة الإيديولوجية المتوترة بين الذين سماهم بالفنانين المبدعين وكذا السلطة السياسية لثورة أكتوبر، لا سيما مع ستالين: إيفان بونين، مكسيم غوركي، ميخائيل بولغاكوف، فسيفولد مايرخولد، فلاديمير ماياكوفسكي، ألكسندر بلوك، بوريس باسترناك، فليمير خليبنيكوف، بيلينياك، تزفتيفا، كازيمير ماليفيتش،سيرجي ايزنشتاين، ليفغني زامياتين، كوستاكوفيتش. هذا الكتاب دراسة لانتصار الفن ضد من يسعون إلى  وأده. يقول تودوروف:    

«نتج عن الثورة الروسية ظهور أول دولة توتاليتارية في التاريخ. بعد أن أنكرها بحدة جزء من الرأي العام الأوروبي، شكل أطراد السياق موضوع توافق عام جدًّا. بالتالي، لا يقتضي الأمر اليوم شجاعة خاصة من أجل استحضار النتائج المشؤومة لثورة أكتوبر. أيضًا ملاحظة ذلك يمثل منبعًا لنوع من الكبرياء، سيقولون: حسنًا ديمقراطياتنا ناقصة، لكنها على أية حال تحظى بالتفضيل قياسًا لما يجري عند الأنظمة الشمولية وكذا التيوقراطيين أو الديكتاتوريات العسكرية التي تزدهر في مكان آخر. أليست هذه الصفحة من التاريخ، قد طُويت تمامًا بالنسبة لنا؟ ألم تمت الشمولية ودفنها؟، ولن تتكرر عمومًا قط تلك التجربة الجهنمية داخل أقطارنا! سنكون أكثر فطنة من أجدادنا، ولن نسمح أبدًا بإقامة نظام سيئ كهذا. نحن سعداء بالعيش تحت كنف الديمقراطية، وفخورون بذلك، ونرثي لحال الذين أخلفوا هذا الموعد، وكذا تأخرهم بخصوص السعي نحو الأفضل.

إذن لماذا العودة ثانية إلى تلك اللحظة الماضية، هل لا زالت تستحق اهتمام أفراد الديمقراطيات الليبرالية في الغرب؟

لقد اتجهت نحو استحضار ذلك، ليس فقط لأني أجد مصير شخصياتي مؤثرًا أو لكونه يجسد وقائع درامية، ثم ليس فقط جراء اهتمام بتاريخ يعود إلى كوني أحد المواطنين القدامى لبلد حكمه نظام توتاليتاري، وكذا ماض بعض أقربائي، الذين يكبرونني سنًّا، بل أيضًا نتيجة اعتقادي أن هذا الماضي القديم زهاء قرن تقريبًا والذي حدث في بلد اختفى (الاتحاد السوفياتي) ينطوي على شيء يفيدنا نحن مواطني المنظومة الغربية المنتمين للقرن الواحد العشرين. والحال، أن التأكيد على إمكانية القراءة هاته، يعني الإقرار في ذات الوقت بنوع من الاستمرارية أو التشابه بين نمطين للدولة مختلفين جدًّا، أقصد الأنظمة الشيوعية ماضيًا ثم الديمقراطيات الليبرالية حاضرًا.    

سجن بئيس:

هذه الخلاصة - لا تتأتى بالنسبة إلي من تلقاء ذاتها- تقتضي بعض التفسيرات. ليس فقط لا تتم من تلقاء ذاتها، لكن لو قرأت هذا أو سمعته قبل خمسين سنة تقريبًا، أي قليلاً بعد وصولي إلى فرنسا قادمًا من بلغاريا، لشعرت بالغضب. أولاً ستصدم حساسية فرد انتمى سابقًا إلى بلد توتاليتاري. لقد علمونا هناك في المدرسة، وعبر وسائل الإعلام، أن كل شيء سيئ "هنا" في الغرب، وعلى النقيض بالطبع ''مختلف ما يوجد لدينا'' جيدًا، غير أن نتيجة هذه البروباغندا بالنسبة إلي وكذا العديد من الأشخاص، قادت نحو كشف عدم صواب ما يروج له تمامًا: هناك(أي الغرب)، الرخاء والحرية في ذات الوقت، بينما كنا نعيش بين جدارن سجن، حقًّا واسعًا لكنه كئيبًا.

تطلعنا بقوة قصد الانتقال إلى الضفة الأخرى المقابلة للستار الحديدي جعلنا نحكم بالذوق السيئ جدًّا على كل ملاحظة قد توحي لنا بوجود استمرارية ما بين القطبين. كل واحد منا يعلم أكثر المصير التراجيدي لباقي شعوب البلدان التوتاليتارية، القريبة أو البعيدة، نسيان معاناتهم، ثم مماتلثهم بتجربة أفراد الغرب غير المهتمين، مثلما تخيلنا الوضع، شكل موقف استخفاف غير مقبول نحوهم وكذا مصيرهم، إنه خيانة. 

بالتأكيد، بمجرد وصولنا إلى بلدان تلك الديمقراطيات الليبرالية، سندرك حقًّا أن التناقض لم يكن بذات التباعد، وليس كل الوضع ممتازًا في بلدان الاستقبال، لكن بدا لي دائمًا التعارض بين النظامين السياسيين واضحًا جدًّا، وتلتقي دائمًا ميولاتي السياسية عند نفس المنطلق. خلال أولى سنوات استقراري في فرنسا، لم تكن لعملي المهني أي نقطة مشتركة مع الأسئلة التي أقاربها هنا (واكتفيت بالاشتغال على الهندسة الداخلية للأعمال الأدبية). 

مع ذلك، وانطلاقًا من سنوات 1980، استشرف عملي "أسئلة المجتمع'' ثم تمرست على نماذج التحليل السياسي والأخلاقي. تحليلات بدت لي مؤيدة لحدوسي السالفة، بحيث تبينت دائمًا تعارضًا مباشرًا بين التوتاليتارية والديمقراطية، سواء في بنية المجتمعات المعنية بالأمر وكذا أحكام القيمة التي نضمرها عنها.   

مجتمعان متعارضان:

سنوات 1990، كرست مجموعة من الدراسات حول الأنظمة الشمولية، مستندًا على نفس التقطيع المفهومي: لقد أظهرت هذين الصيغتين للمجتمع كنقيضين متعارضين، حتى ولو أدخلت ضمن ذلك بعض أشكال الفروق المتعلقة بالإغراء الذي يمكن أن تثيره الأنظمة الشمولية أو بعض نقائص الديمقراطيات. في عملي التأملي: ذاكرة الشر، السعي إلى الخير (منشورات لافون، 2000) المخصص لتاريخ أوروبا خلال القرن العشرين، أوضحت بأن النزاع بين التوتاليتارية والديمقراطية، مثّل الحدث الأكثر أهمية خلال تاريخ هذا القرن، ثم وصفت من جهة ثانية الشمولية السوفياتية أوالنازية، باعتبارهما شيئًا جديدًا راديكاليا، انبثق خلال تلك اللحظة.

لقد اطلعت على بعض الآراء المختلفة عن تصوراتي، لكنها لم تستأثر باهتمامي رغم أنها صادرة عن أفراد كابدوا شخصيًّا قساوة النظام الشيوعي.

رغم ذلك، اهتديت مع كتابي ذاك الصادر سنة 2000، إلى صياغة نقد كلي للنظام الديمقراطي الذي نعيش في ظله، معتمدًا على وقائع معاصرة، كان باعثها المطلق تحولاً أسميته منذ زمن بعيد من اعترافاتي بـ: نهاية الحرب الباردة، يرمز إليها بسقوط جدار برلين، بمعنى ثان انهيار الأنظمة الشيوعية، داخل أوروبا الشرقية أولاً، ثم في روسيا نفسها. صحيح أن هذه الواقعة، تبدو من الوهلة الأولى، مؤكدة للتعارض غير القابل للاختزال بين هذين النمطين من الأنظمة، مادام قد تخلى أحدهما عن مختلف طموحاته، بينما الثاني ظل متمسكًا بكل عنصر من مشروعه. واقعة، فسرها  كثير من الملاحظين باعتبارها انتصارًا للخير على الشر.

مع ذلك أحدثت نتائج هذا الانقلاب -على الأقل فيما يخصني- مفعولاً معاكسًا. تلاها تفاعلان لم أحدسهما تمامًا. من جهة، المجموعة البشرية للبلدان الشيوعية السابقة التي يلزمنا فعلاً أن نلاحظ جيدًّا، كونها لم تعش الانتقال من النظام السابق عن الأشكال الأكثر ديمقراطية للحكم وكذا اقتصاد السوق كخطوة كبيرة نحو السعادة، مثلما (وكذا العديد من الملاحظين المتعاطفين) يتم التطلع إليها: ظاهريًّا، انطوت تلك التحولات على نتائج أخرى، اعتبرت غير مقنعة. ومن جهة ثانية، تلك المتعلقة بالبلدان الغربية الكبيرة، في طليعتها الولايات المتحدة الأمريكية، التي استفادت من هذه النهاية لـ''توازن الرعب'' وكذا التنافس بين المعسكرين" "الاشتراكي''" ثم "الرأسمالي"، كي تنهج سياسة هجومية جديدة. تمثل هدفها المعلن في الارتقاء بالقيم الديمقراطية الكبرى وحقوق الإنسان، لكن نتيجتها الوحيدة الجلية اتجهت صوب تعضيد سيطرة تلك البلدان على باقي العالم. لذلك فهي تقترب، بشكل خطير من الممارسات الشمولية الشنيعة. 

أفعال من هذا القبيل- تدخلات بالقوة في الشؤون الداخلية لبلدان أخرى- ظهرت أولى إرهاصاتها خلال الحقبة السابقة عن فترة الحرب الباردة، لكنها بدت مقتصرة على منطقة مجاورة (أمريكا اللاتينية بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية) فضلاً عن ذلك، شكلت جانبًا من سياسة إقامة حواجز أمام الخصم الشيوعي، كانت نفسها أسلوبًا عدوانيًّا وإن بكيفية مقبولة. لقد أوحى انهيار جدار برلين عدم حاجة تلك السياسة إلى مبررات من هذا القبيل. حرب الحلف الأطلسي على يوغوسلافيا، المتزامنة مع فترة كتابة هذا العمل، أظهرت إلي حقيقة جديدة: كانت المنظومة الديمقراطية قادرة على نهج  مسارات ثانية  قريبة من صنيع البلدان الشمولية.

لم تجعلني هذه المقارنة أكثر تساهلاً نحو بعض الممارسات الشمولية، لكن حذرًا جدًّا حول بعض تطورات الديمقراطية. هذه الأخيرة حسب مبدئها ليست بنظرية للخلاص، فلا تقدم وعدًا عن جنة أرضية، ولا تشرئب غاية الوصول بأفرادها إلى الكمال. لكنها أيضًا ربما تأثرت بالجور، والشطط، لا سيما لحظات انتصارها. كل شيء يتم كما لو أن الطوباوية، باعتبارها حتى الآن  امتيازًا لليسار، قد نعتقد بموتها بعد سقوط الأنظمة الشيوعية، انتقلت يمينًا إلى المذاهب المسماة (خطأ) بالمحافظين الجدد، المتبناة أساسًا في الولايات المتحدة الأمريكية فترة حكم بوش، وتركت أثرًا حول السياسة سيتبع هنا أو هناك.

توازن أكثر للرعب:

أهداف كتلك بررت الحرب على العراق سنة 2003، بحيث لا زالت نتائجها ماثلة سواء في الشرق الأوسط بل وباقي العالم. على هذا النحو، صرح الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش شهر سبتمبر 2002: «إن مسؤوليتنا أمام التاريخ واضحة: الجواب على هذه الهجمات (11 سبتمبر 2001) وتخليص العالم من الشر»، ثم أيام بعد ذلك، وفي إطار كراسة رسمية للبيت الأبيض، سنقرأ معها ''المهمة الرسمية'' المنوطة بحكومة الولايات المتحدة الأمريكية و''تأكيد انتصار الحرية على أعدائها''. 

منذ أن انتفى توازن الرعب، توالت الحروب التي خاضها الغرب خلف الولايات المتحدة الأمريكية، بغير انقطاع تقريبًا، من يوغوسلافيا إلى أوكرانيا، ومن أفغانستان إلى سوريا، ومن الصومال إلى ساحل العاج. 

لقد انقادت فرنسا والمملكة المتحدة، الإمبراطوريتان الاستعماريتان القديمتان، وراء الحركة. في فرنسا، تبنى أطروحات المحافظين الجدد اليسار مثل اليمين تمامًا. هكذا، يمكننا أن نلاحظ شكلاً للمسيحية السياسية سواء مع الأنظمة الشيوعية وكذا الديمقراطيات الليبرالية الحالية.

ممارسة بعيدة على أن تكون الوحيدة التي توحي باستمرارية بين الأنظمة الشمولية خلال القرن العشرين مع التاريخ الأوروبي الذي سبقها وتلاها. استمرارية لا تتجلى في علاقات وحيدة بين بلدان، اعتدنا على رؤيتها منفلتة من كل ضبط (تقوم على ''حالة طبيعية'')، لكن كذلك في إطار تلك القائمة داخل البلد الواحد بين أفراد وحكوماتها. لم تسقط علينا هذه الأنظمة الشيوعية من كوكب مارس، بل ارتبطت بسمات عديدة مع الأفكار التي أثارت العقول خلال القرون السابقة، والعديد من خصائصها لا زالت مستمرة منذ اختفائها، بين طيات العالم الذي نعيش فيه.  

 لا زالت الطوباوية ماثلة:  

نواصل اليوم التماس النظرية المسيحية وكذا الأنوار ثم ماركس ونيتشه والعلم والإيمان. نحلم دائمًا بتحسين الجنس البشري رغم اعتمادنا بشكل أقل على قوة التربية وتأثير الوسط  مقارنة بالتلاعب في شفرة الوراثة. يتطلع دائمًا الماسكون بزمام السلطة إلى سيطرة تامة على شعوبهم، حتى ولو اعتمدوا بشكل أقل على شرطة حاضرة كليًّا وقنوات المخبر، قياسًا إلى التكنولوجيا التي تلتقط ''المعطيات الكبرى'' لمختلف تبادلاتنا الإليكترونية.

تحتاج اليوم الديمقراطيات الليبرالية مثل سابقاتها إلى صورة عدو ليس إنسانيًّا تمامًا، يلزمها محاربته وإذا أمكن إبادته (لا حرية لأعداء الحرية !) لكن بدل الرأسماليين البورجوازيين، سنجد الإرهابيين الإسلاميين. من نواحي عدة، تتشابه الليبرالية المتوحشة المعاصرة مع الشمولية الشيوعية، أكثر من الليبرالية الكلاسيكية للقرنين 17و18 استبداد الأشخاص كالدولة، قد تكون له نتائج جسيمة. 

البروميثوسية، الطوباوية، والسعي إلى الخير بمثابة طرق للتفكير والتأثير حاضرة في عالمنا منذ عصر النهضة والأنوار، ضمنها المجتمعات الشمولية للقرن العشرين وكذا ديمقراطيات الليبراليات المتوحشة المنتمية للقرن الواحد والعشرين.

يدفعنا العالم المعاصر، بنفس مستوى المجتمعات الشمولية، فيما يتعلق بكل ميادين الشغل، العدالة، الصحة، التربية، نحو ما سماه : ''الآن سوبيو'' بـ"الحكم بالأعداد'' اتجاه وصف منذ عهد قريب بالتصور المثالي من طرف إنجلز، أي استبدال ''إدارة الأشياء بحكم الأفراد''. يتواصل، حاليًّا كما الشأن منذ عهد قريب، مسار التنميط، التقنين وكذا جعل الأفراد يمتثلون لنفس النموذج السلوكي، كل هذا يؤدي إلى ضبط الفرد بواسطة المجتمع وفي نفس الآن إزالة الصفة الإنسانية عن البشر.

إن الوقوف على هذه المعطيات لضعف الديمقراطية لا يعني أننا نتنازل عن مبدئها المثالي. بل على العكس، مجرد إشارات أولى ينبغي لها أن تحثنا على مزيد من ''الدمقرطة".

 

*هامش : جريدة لوموند :الخميس 9 فبراير 2017


عدد القراء: 6390

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-