الشِّعر العربي المعاصر ومشكل الجدل ما بين التراث والحداثة الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2015-06-05 10:22:26

د. بغاديد عبدالقادر

الجزائر

يكاد يُجمع الباحثون والمهتمون بدراسة التبادُلات الاجتماعية في مختلف المجالات الفكرية والمعرفية الأدبية منها والفلسفية، بأنَّ هناك سيرورة من التطور تتَّحدد بها الحركة الدينامية لدى جميع الشعوب، ومن نافلة القول: إن هذه الحركة ليست على وتيرة واحدة في كل المجالات المعرفية، ما دامت هناك عوامل عدة تسهم في تسريعها أو الحدِّ منها، ولذلك شهدت بعض المجتمعات وتيرة نمو رافقتها تبدُّلات اجتماعية واقتصادية وفكرية كان لها الدور الأساس في الثورة النهضوية الحديثة  التي انطلقت معها سمات الحداثة الأولى في أوروبا. والتي سرعان ما عمت جميع المجتمعات البشرية متفاعلة معها بأشكال متعددة تراوحت بين القبول والترحيب أو التحفظ والرفض.

وتجدر الإشارة إلى أنّ الحداثة وما ارتبط بها من أفكار ومقولات وتبدُّلات ليست سوى النِّتاج الطبيعي لحركة التاريخ والتفاعل البشري – فمثلاً- لا يمكن فهم الحداثة الغربية إلَّا من داخل سياقها التاريخي من (ديكارت إلى غاليلي) وصولاً إلى النظرية النسبية (لأنشتاين) ونظرية (فرويد) النفسية وروحانية (برغسون) ووجودية (هايدغر)، وبعث الأسطورة على يد (السير جيمس فريزر)، وتراجع النظام البرهاني للعقل (ديكارت وباسكال)، وقيام فلسفة جديدة ترتكز على الذات فلسفة الباطن، و(نتشه) الذي أعلن موت الإله وسقوط العالم الفكري الماورائي في كتابه  (هكذا تكلم زراديتش)، وشيوع مقولة (فرانسيس فوكوياما) نهاية التاريخ وغيابه في اللامعقول مع (مارتين ايدسون).

فالحداثة الغربية لم تتشكل إلا بعد تراكمات، وهذا ما أنتجه (ت. س.  إليوت ) في  أرض اليباب  اختزالاً للثقافة الغربية التي أنتجت إنسانًا ماديًّا وخربته معنويًّا وأحدثت قطيعة تاريخية ومعرفية إبستمولوجية، أو ما يُّسمى في النقد المعاصر التجاوز والتخطي، حيث تبلورت مفاهيم جديدة، هذا ما دفع لقراءة الحداثة في سياق ملابسات حضارية وتاريخية يقول جون بوديار: «ليست الحداثة مفهومًا سوسيولوجيًّا أو مفهومًا تاريخيًّا يحصرُ المعنى وإنما هي صبغة مميزة لحضارة تتعارض وصبغة التقليد»  أي أنها تعارض الثقافات السابقة.

لقد جاءت ردود الفعل من حول الحداثة متباينة خاصة في تلك المجتمعات التي لم تكن قادرة على مجابهة تحديات التطور الكوني، والذي أسهمت الحداثة الغربية في رسم مساره والتفاعل مع التطورات الحاصلة في الكون خاصة مع مطلع القرن 19م وحتى يومنا هذا.

غير أنّ هذه الخطوات التفاعلية ومواكبة تلك التطورات كانت ولا تزال مليئة بحروب الإخضاع والسيطرة والحماية والوصاية التي تشنها المركزية الغربية على كل ما هو عربي، ولذلك غرق مُفكرو العرب وأدباؤهم  ونقادهم  في جدال عقيم حول توصيف مفهوم الحداثة، وهل هي نتاج داخلي أم مستورد؟ وهل لها أن تتلاءم مع الأصالة أم تتعارض معها؟ وهل نحمي الموروث العربي ونحافظ على خصوصية التراث؟ وهل الحداثة مدخل لتذويبه والقضاء عليه؟ وهل يكفي استيراد مصطلح الحداثة من الغرب دون الحاجة إلى البحث عن الأفكار والمقومات التي قادتنا إليه؟

لقد أخل الناقد العربي حينما وضع الحداثة في موضع التعارض مع مفاهيم أدبية وثقافية سابقة عليها (التراث)  فملء الساحة الأدبية والنقدية بعشرات العناوين المثيرة منها (الأصالة والتقليد، السلفيون والتحديثيون، الخصوصية والشمولية، الأنا والآخر، التقدم والتخلف، المادة والروح، الدين والعلم).

 وانطلاقًا من هذه الثنائيات توسعت دائرة السجال الأدبي والنقدي في الساحة العربية أين جسد الشاعر المعاصر وجهًا غريبًا بملامحه التاريخية والمعرفية، فكان البحث عن المطلق بحثًا يائسًا في سياق حضاري حافلاً بالتناقضات، إذ بقيت القصيدة العربية المعاصرة تبحث عن المجهول وتعرض عن الزائف.

إنّ نظرة سريعة على الشعر العربي المعاصر سوف نجده ملتفًا بالغموض ومدثرًا بالإبهام والغرابة، بل ربما نجده يدور حول البحث عن المجهول أو المطلق بلغة لم تعهدها الذائقة العربية مما يصدم المتلقي ويحدث شرخًا في بنية نظامه المعرفي التي تعود عليها (عمود الشعر) أو «الشعر كلام موزون مقفى »1.

ويعلق الدكتور عبد السلام المسدي رائد الأسلوبية العربية قائلاً عن الحداثة: «لقد فجرت الحداثة قوالب الصوغ الشعرية ففُتِّح للشاعر فضاء أدائي لم يعرفه الشعر الخليلي» وبهذا فقد تحول الشعر العربي من المفهوم الكلاسيكي  القديم  إلى المفهوم الحداثي بوصفه رؤيا أو على الأقل مشروع رؤيا في محاولة كشف لا تتحدد آفاقها ولا تنتهي أبعادها فهو يأتي من اللانهائي إلى اللانهائي، لا تحصره حدود ولا تقيّده شروط في بنية لغوية حطمت كل العلائق القديمة والمعايير السابقة، فلم يعد الشعر الكلاسيكي قادرًا على استيعاب هذه التجربة في غموضها واتساعها، فكانت حاجة الشاعر المعاصر إلى بدائل أخرى تلغي التناسب بين الأشياء على أساس الإيضاح المُعقلن بإقامة فجوة بين اللغة والأشياء، حيث جاءت القصيدة العربية المعاصرة تمردًا أفرزته ظروف العصر ومحاولة لتخليص الشعر والابتعاد به عن التقريرية أو الموضوعية العلمية.

فالشعر في المفهوم المعاصر لم يعد انسيابيًّا ينفلت من كل تعريف وينعتق من كل تحديد، لأنه ينبعث من معين متدفق يتسم  بالديمومة والتجديد ويصدرُ من مجهول غير قابل للكشف، فالشعر المعاصر يعتمد على الرؤيا الاستكشافية ليتجاوز المعقول والمحدود ويتخطى الراكن الراكد ولذلك يقال: « الشعر المعاصر تجاوز وتخطى».

ولا يمكننا فهم الشعر المعاصر دون معرفة مرتكزاته الحضارية التي أفرزته  فألبريس – مثلاً - يرى: «بأنه مرتبط بعقدة اجتماعية وروحية وسياسية وفلسفية، وأنَّ مثل هذا الشعر لا يوجد حيث يكون هناك دارجة تلبي الحاجة الدينية وعندما لا نجد الرغبة في المطلق نلبيه عن طريق لاهوت أو تصوف عامين يصبح الشعر من جديد الوسيلة للنفاذ إلى عالم سحري».

ولعل هذا ما يفسر الغموض والإبهام في الشعر العربي المعاصر الذي كان له وجود مشروط بوجود سابق مثلما كانت النهضة العربية مشروطة بحضور سابق للنهضة الغربية، وفي ضوء هذا حاولت الحداثة  المتعربة الكشف عن المجهول ورفض الواقع العربي على الرغم من مغايرة هذا الواقع في حقيقته وبعده الديني عن الواقع الغربي، لأنه نشأ في حضن عقيدة شاملة كاملة لم تبلغ التعقيد الآلي لأرض اليباب لإلتوت فضلاً عن الخصوصية الذاتية، و لكن مقولة ابن خلدون تجد حضورها في هذا المجال «المغلوب مولع بتقليد الغالب في زيه ونحلته ومعاشه وسائر عوائده».

إنه الاستلاب الحداثي والقطيعة المزدوجة ومن ثم اختلاط الوهم والحقيقة ومحاولة تشكيل الأنا العربية من خلال الآخر الغربي، إنه تراكم شديد الغموض من المعارف المتضاربة، ومن ثم علينا فهم الحداثة العربية بمعزل عن الحداثة الغربية.

يقول الدكتور سليمان الواسطي «لقد شكّك شعراء الحداثة في كل ما هو عربي ودعا هؤلاء إلى الارتماء في أحضان الحداثة الغربية فكرًا ونمط حياة».

إنّ أي دراسة للتراث العربي يجب أن تنطلق من محاولة اكتشاف جماليته الذاتية وعبقريته الخاصة بعيدًا عن إصدار أو إطلاق الأحكام الجائرة وتطبيق المقاييس الخاطئة، فقد بات من المؤسف والغريب أن عددًا كبيرًا من اللذين أخذوا على عاتقهم مهمة التجديد في الشعر العربي نظروا إلى التراث نظرة احتقار كنظرة الغربيين حتى نهاية القرن 19م إلى تراث الشعوب غير الأوروبية.

وإن التساؤل الذي يطرح نفسه هو هل انقطعت الصلة تمامًا بين الشعر المعاصر وتراثنا؟ أم مازالت هناك علاقة تربط هذا الشعر بالتراث؟ وهل على الشاعر المعاصر أن يحدِّد موقفه من التراث؟ وهل يمكن أن يعيش شاعر في عصره ويُعبر في الوقت نفسه عن عصر آخر؟

لقد حاول الدكتور زكي نجيب محمود إعطاء مفهوم لمعنى العصرية في الشعر من حيث هو أساس لاتجاه التجديد المعاصر فرأى «أن جميع الشعراء الذين يعيشون بينا عصريون لسبب بسيط هو أنهم أبناء هذا العصر»2.

إن قضية علاقتنا بالتراث لم تظهر مع ظهور تجربة الشعر الجديدة وكل ما في الأمر أن ظهور هذه التجربة كان باعثًا مثيرًا جديدًا لها وذلك عندما توقفت النَّظرة السَّطحية عن شكل التجربة ولاحت ترى فيها خروجًا سافرًا على تقاليد الشعر العربي المتوارثة.

 وفي هذا يرى الدكتور عز الدين إسماعيل «أنه من العبث والمضيعة أن نظل حتى الآن نتجادل في أمر الشعر داخل إطار المعركة بين الجديد والقديم وينبغي أن ندع هذا التصور يتحلل في أذهاننا ويذوب، وأن نصرف جهدنا في دراسة الشعر سواء منه القديم أو الجديد إلى الشعر ذاته»3.

إن تجربة الشعر المعاصر ليست تعبير عن موقف عدائي مباشر أو غير مباشر للتراث الأدبي العربي بعامة وللشعر القديم بصفة خاصة كما يرى البعض مِن مَن نسب لنفسه الغيرة على ذلك التراث وهو في الوقت نفسه لا يدري من قيمة هذا التراث الحقيقية شيئًا، ومن هنا نشأت معارك جوفاء حول هذه التجربة الجديدة لا تمس جوهر القضية في شيء، وإنما هي تعبر في أقصى عصورها عن موقف شخصي صرف لفئات متحاورة.

إن كل شاعر في تصوره أنه ابن عصره وأنه يمثله، ولكن صدق هذا التصور مرتبط إلى حدٍّ بعيد بمدى انهماكه في عصره وتفهمه لروحه، ومن ثمَّ يتفاوت الشعراء في مدى تعبيرهم عن عصرهم وفقًا  لمدى فهمهم لمعنى العصرية، ولنا فيما أقدم عليه أبو النواس قديمًا مثالاً صريحًا فقد شاء أبو النواس أن يكون عصريًّا بأن يهجر الحديث عن الأطلال والدِّمن، وذلك حديثًا ملائمًا للشعر في عصره حسب مفهوم أبي النواس، ورأى الشاعر أن يتحدث عن حانات عصره فجاء شعره جديدًا في شكله وإن تغلغل فيه نبض الشعر القديم وروحه، وقد نصادف في الشعر المعاصر ما هو مجرد اقتداء وتقليد للنماذج الأصلية لأشعار قديمة.

لقد حاول الشاعر المعاصر أن يضع لنفسه جماليته الخاصة سواء في ذلك ما يتعلق بالشكل والمضمون وهو في تحقيقه لهذه الجماليات يتأثر كل التأثر بحساسيات العصر وذوقه ونبضه، فجاء الشعر المعاصر محاولة لاستيعاب الثقافة الإنسانية بعامة وبلورتها وتحديد موقف الإنسان المعاصر منها، من أجل أن يحقق نوعًا من وحدة الفكر، فصارت كل قضية إنسانية يعيشها الإنسان في أي مكان على وجه الأرض هي قضية الإنسان كل الإنسان حيث ما كان.

لقد ارتبط الشعر المعاصر بالإطار الحضاري العام لعصرنا في مستوياته الثقافية والاجتماعية والسياسية المختلفة  وهو في هذا الإطار ليس جديدًا وليس بدعًا،  فقد كان الشعر دائمًا معبِّرًا عن روح الإطار الحضاري المتميِّز في كل عصر  ومن ثم يُّعد كل الشعر عصريًا بالقياس إلى عصره، ويرى الدكتور عز الدّين إسماعيل أن الشعر المعاصر لم يُسقط الزمن الماضي وما فيه من تراث من حسابه ولم يبتر الحاضر عن الماضي والمستقبل، وإنما أكد على ارتباط الحاضر بالماضي أو الواقع بالتاريخ.

كما يؤكد الدكتور عز الدّين إسماعيل على أن الشاعر المعاصر الذي ينفصل عن جذوره إنما يشبه النبات الذي يعيش على سطح ما، فلا يقوى على مقاومة التيارات العنيفة ويقدم لنا مثالًا عن ارتباط الشاعر المعاصر بالتراث من خلال مقطع من قصيدة  فصل المواقف  أدونيس: 

« أقرا عليها صورة مريم

أهز فوقها جذوعي من الشوق والحلم

وأرسلها إلى أحبابي

مليئة كالتفاحة

خفيفة وخضراء كمهرة الخضر».

هنا نلمس صدى الآية الكريمة  (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ) وهو استغلال شعري يبين الأبعاد النفسية التي أخذتها الآية الكريمة في نفس الشاعر.

 لقد حاول الشاعر المعاصر استيعاب التاريخ كله من منظور عصره، وفكرة الإنسان كما نعرف فكرة مرِنة متنقلة  وهي حية تنتقل وتشكل في كل عصر أشكال مختلفة، فعلاقة الشاعر والشعر بالتراث الإنساني علاقة جدلية لأن الشاعر المعاصر لا يقبل الموروث كله ولا يرفضه كله، وإنَّما تتمثل بينهما علاقة من التفاعل والتجاذب يصطفي من خلالها الشاعر من التراث ما يتناسب وروح العصر.

ولنا هنا أن نتوقف عند أبي القاسم الشابي في مداخلته حول الخيال الشعري عند العرب التي حاكم فيها الشعر العربي بأسره بمنطق رومنطقية القرن 19م في أوروبا وفرض عليه معاييرها حين قال: «قد انتهى بي البحث في الأدب العربي وتتبع روحه في أهم نواحيه إلى فكرة شائعة فيه شيوع النور في الفضاء لا يشذ عنها قسم من أقسامه ولا ناحية من نواحيه. وهذه الفكرة هي أنه أدب مادي لا سُمو فيه ولا إلهام ولا تشوف إلى المستقبل ولا نظرة إلى صميم الأشياء ولباب الحقائق، وأنه كلمة ساذجة لا تعبر عن معنى عميق بعيد القرار، ولا تفصح عن فكر يتصل بأقصى ناحية من نواحي النفوس»4.

 وصولاً إلى موقف أدونيس المطابق لما جاء به الشابي فأدونيس يختصر الشعر العربي بأسره ويسحبه على الإنسان العربي في عصرنا بقوله: «وإذا عرفنا أن الجاحظ لا يُميز الشعر والخطابة بل يرى أنهما واحد أدركنا كيف أنَّ الشعر العربي يقوم على فضائل الأمية والبداهة والارتجال وهي فضائل لا يزال يعتمدها معظم العرب المحدثين قراء ونقاد وشعراء»، ويقول كذلك في كتابه (الثابت والمتحوّل) إذا سُئلت كيف تحدد علاقتك أنت الشاعر بتراثك العربي؟ أُجيب أولاً لا معنى لهذا السؤال، ذلك أنني لا أستطيع أن أحدد علاقتي مع شيء غائم غير محدد، وإنما أحددها مع شيء معين، وأجيب ثانيًا بتساؤل ماذا تعني العلاقة هنا؟

 ويرى أدونيس: بأنه إذا كان هذا السؤال مطروحًا بمنطق الثقافة السائدة فإن هذه العلاقة تعني أن أكون مؤتلفًا مع تراثي أي أن لا آتي بشيء إذا لم يكن أسلافي من الشعراء عرفوه ومارسوه وأقّروه، ومن ناحية أخرى يرى أدونيس: بأن نفس السؤال إذا كان بمنطق الرؤية الإبداعية فإن هذه العلاقة تعني أن أكون مختلفًا عن أسلافي من الشعراء بل أكثر لا يكون الشاعر العربي نفسه حقًا إلا إذا اختلف عن أسلافه ، فكل إبداع اختلاف.

إن أدونيس  من خلال قوله لم يأتِ بنظرة عميقة ومثقفة في قضية العلاقة بين الشاعر وتراثه، فهو لم يزد شيئًا مما كان يتردد في بدايات ما كان يسمى بالحركة الرومنطقية العربية، لأنه مازال يظُّن أن علاقة الشاعر العربي المعاصر بتراثه تعني تقبل تجارب الشعراء الآخرين السالفين وأقوالهم فهو كثيرًا ما يردد قوله: «إن أشكال التعيير الموروثة لغة وبناء إنما هي بمثابة القشرة والسطح، ولا بد من تمزيقها لكي نصل إلى لغة وبناء جديدين»، وفي السياق نفسه يواصل قائلاً: «إنّ العلامة الأولى للجدة الشعرية هي في إيصال الاتصال أي في نفي السائد المعمم ورفض الاندراج فيه والانفصال عن الكلي العمقي، فالرفض أو النفي هو بهذا المعنى علامة الأصالة إلى كونه علامة الجدة».

إنّ ما يطرحه أدونيس في كلامه عن علاقة الشعر المعاصر بالتراث ربما يعاني من اختلاف المنهج فقد حاول الإفادة من علم اللسانيات الذي ارتكز عليه البنيويون في دراساتهم النقدية عندما أراد إثبات انقطاع الشعر المعاصر عن التراث فلجأ إلى التحديد الذي وضعه (فرديناند دوسوسير)للتفريق بين اللسان والكلام من حيث إنّ اللسان هو النظام اللغوي التي تحكمه مجموعة من القوانين والأعراف ويتشكل ضمنه الكلام وهو مجموع التجليات الواقعية لهذا النظام، فاللسان هنا حسب أدونيس هو اللغة العربية بكل ما تحمله وما تضمنته من احتمالات تعبيرية وليس مجموع ما قيل أو كُتب باللغة العربية حتى اليوم.

وقياسًا على هذا التفريق فإنّ أدونيس يرى أن هوية الشاعر العربي لا تتحدد بالشكل الكلامي الذي نطق به أسلافه الشعراء وإنما تتحدد بخصوصية اللسان العربي، ومن ثم فاللغة العربية ليست هي الشعر الجاهلي وكلام شاعر جاهلي ما لا ينبع من كلام شاعر جاهلي آخر، بل ينبع من اللسان العربي.

ومن هنا يستنتج أدونيس أن مسألة الوزن والقافية تصبح مسألة كلامية لا لسانية ومن ثم يمكن للسان العربي أن يتجسد شعرًا في بنية كلامية غير بنية الوزن والقافية، ليصل بذلك إلى تحديد ثلاثة أسس تُقوِّم العلاقة بين الشاعر العربي وتراثه:

1 - أن الشاعر العربي الحديث أيًا كان كلامه أو أسلوبه وأيًا كان  اتجاهه هو تموج في ماء التراث، لأنه يكتب باللغة العربية.

2 - أن هذا الشاعر يتواصل في المد الشعري حتى يكون ضديًا.

3 - لا يمكن لهذا التواصل أن يكون فعالاً يُغني الإبداع الشعري إلا إذا كان انقطاعًا عن كلام الشعراء السالفين حتى لا يصبح الشعر تقليدًا.

وهنا ترى الدكتورة ريتا عوض أن أدونيس قد أخلط بين اللغة والأدب، فقد اعتبر أن الكلام هو مجموعة القصائد الشعرية العربية الكلاسيكية، وأن اللسان هو اللغة العربية ليحاول بذلك الوصول إلى نتيجة مفادها أنّ كل ما يكتب باللغة العربية هو بالضرورة تراثي، فإذا كان الكلام شعريًّا هو مجموع ما أُبدع من قصائد فإن اللسان هو الشعر من حيث هو نظام تُستنتج مبادئه من التجليات الشعرية الموجودة، ويتخطاها بتحويل هذه المبادئ إلى إطار يضم الشعر، فتصبح هذه المبادئ بالنسبة للشعر كما هو علم اللغة من حيث هو موجه وقياس، وفي هذا الإطار يتم الإبداع لا بما هو استنساخ لنماذج شعرية جاهلية أو أموية أو عباسية، وضمن ذلك غزلية أو رثائية أو هجائية أو ذات وحدة أو تنوع أو إلغاء  للوزن والقافية بل بما هو إبداع لقصائد جديدة ضمن إطار العبقرية الشعرية العربية.

إنّ أدونيس في حديثه عن الحداثة لم يكن سوى استمرار للمذهب الرومنطقي الذي قام الشعر والنقد في الغرب على أساس نقضه، فأدونيس حاول نفي وإلغاء قضية العلاقة بين المعاصرة والتراث عندما رأى بأن أي كلام أو أسلوب أو اتجاه معاصر مهما كان مرتبطًا بالتراث محاولًا أن يدعي لمفاهيمه صبغة الموضوعية والمنهجية حين عاد إلى اللسانيات غير أنه أساء تطبيقه على الشعر حين وقف موقفًا ضديًّا من التراث عندما توهم أن الإبداع انقطاع عن التراث، بينما الحقيقة أن الاتجاه النبوي في النقد العربي الذي استفاد من علم اللسانيات قام على التأكيد على ارتباط القصيدة الواحدة بالتراث الشعري من دون الوقوع في وهم الخوف من النقل أو الاتباع أو الاستنساخ.

وهذا ما يمكن تفسيره بعودة الأدب الحديث الغربي إلى الأسلوب الملحمي في أعمال أدبية أساسية خصوصًا مع جيمس جويس في كتابه يوليسيز (عوليس)، الذي استلهم فيه البناء الملحمي  الهوميري، كما نجد إليوت يعرف التراث، قائلاً: «إن التراث يتضمن أساسًا الحس التاريخي الذي ينطوي على إدراك نافذ ليس لماضوية الماضي فحسب بل لحضوره، وهو يُلزم الشاعر بأن يكتب لا بوعي الانتماء إلى جيله فحسب بل بتأثير الشعور بأن أدب بلاده بأسره موجود بشكل متزامن ويُؤلف نظامًا متزامنًا، هذا الحس التاريخي هو حس بالسرمدي وهو حس بالزمني أيضًا كما أنه حس بالسرمدي والزمني معًا وهو في الوقت نفسه ما يجعل الكاتب يعي بحدةٍ مكانه في الزمن أي كونه معاصرًا»5 . 

إنّ منهج المقارنة أو الموازنة استبد بشعرائنا ونقادنا في معظم الحالات، فما كادوا يدرسون شيئًا من الشعر المعاصر حتى عكسوه على الشعر القديم قاصدين بذلك بيان روعة الجديد وتميُّزه عن القديم، والأمر سيان كذلك بالنسبة لمن يدرسون الشعر القديم فإن تعاطفهم معه وإعجابهم به دفعهم إلى تهجين الجديد والمجدِّدين وهكذا أحدث شقاق مفتعل لم ينتفع منه أحد.

وعلى الدارسين والنقاد الخروج من ربقة هذا التصور وهنا دون إنكار أهمية  الموروث العربي في أي دراسة نقدية ومحاولة اكتشاف قيمته وخصوصياته، وكذلك بالنسبة لعلاقة الشعر المعاصر أو أي تجربة شعرية جديدة بالتراث الأدبي فهي ليست علاقة عداء، فالمغايرة لا تعني المعاداة فإذا كانت التجربة الجديدة تختلف في منحاها الجمالي شكلاً وموضوعًا عن منحى الشعر القديم، فينبغي أن لا نسرع فنستخلص من هذا أن أصحاب التجربة الجديدة يعادون التراث، فالشعر المعاصر وليدًا شرعيًّا لكل ما سبقه من اتجاهات.

ولنا هنا أن نتأمل في التجارب الشعرية الأولى من خلال المحاولات الأولى فرغم ما ظهر فيما من مغايرة نسبية لإطار الشعر القديم شكلاً وموضوعًا فهي قريبة بروحها من الشعر القديم، بل إن بعض رواد الحركة الجديدة يحدثوننا عن تأثرهم بشعر علي محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل، وإبراهيم ناجي، وبخاصة في العراق مع ظهور بواكير التجربة الجديدة على يدي عبد الوهاب  البياتي، وبدر شاكر السَّياب ونازك الملائكة.

فالشاعر الواعي والمثقف يستطيع بنفسه أن يكتشف علاقته بتراثه وتحديد موقفه ضمن ذلك التراث الحي المتواصل في الإبداع الحديث، وعلى الناقد الأدبي أن يضع الأسس العامة ويثبت المبادئ الفكرية ويكشف عن الأعمال الأدبية المهمة والكبيرة، ويعلل تميُّزها مستنتجًا بذلك مبادئ نقدية تواكب الحركة الأدبية وتعززها بالنظرية وتدعمها بالفكر.

والناقد العربي ملزم حين ينظر في التجربة الشعرية الحديثة أن ينظر على أنها نضجت عبر ذُرى إبداعية جليلة، وأثبتت وجودها في إطار التراث لا غير، فقد كان الأصليون من رواد النقد الأدبي العربي مدركين لدورهم الحضاري وموقعهم النهضوي فكانوا واعين لعلاقتهم بالتراث، وعليه فيجب أن تكون الحداثة حداثة من يعي ذاته الحضارية ويعي غيره بوعيِّه لذاته، ومنه على الشاعر العربي المعاصر اختيار سبيل لثورته لتحقيق النهضة كغاية وأن يحدد علاقته بالتراث عن طريق اكتشاف العناصر الحية فيه التي تمكنه من الارتباط بها والتأسيس عليها والانطلاق منها.

إنّ العودة إلى التراث ليست عودة لإحياء الأنماط والنماذج التي استقرت في قوالب جادة، بل العودة إلى الينابيع التي تفجرت منها روح حيوية ولدت أنماطًا جديدة، ويعد الشاعر خليل حاوي بوعيه وثقافته وتجربته الشعرية خير من عبر عن مسألة التراث وعلاقته بالحداثة والتجربة الشعرية حين قال: «حين أُعيد النظر في نهضة الشعر العربي أرى أننا كنا نحاول واعين أن نحدّث ثورة، تجعل الشعر الحديث ينفصل عن الشعر العربي بقدر ما يتصل به، وكان كل منا يحاول الانطلاق مما يراه عناصر حية في التراث، وأعتقد أن كل نهضة شعرية في أمة تحمل تراثًا شعريًّا عريقًا متراكمًا لا بد لها العودة إلى الينابيع الأصلية التي كانت مصدر كل نهضة في الماضي»6.     

لقد حاول خليل حاوي من خلال هذا النص أن يُبين لنا بأنه علينا إدراك البعد الحضاري للشعر وأن نكون واعين لدوره الحقيقي، لأن دور الشاعر هو تحقيق البعث الحضاري من خلال إعادة ربط الشعر بالبناء الحضاري الذي ينبثق الشعر عنه ويكون صورة له، فالشاعر الحقيقي هو الشاعر الذي يعي جيدًا ويدرك العلاقة الجدلية التي تربط بين الإنسان والحضارة، من حيث الإنسان هو أبو الحضارة وابنها، وهو الفاعل فيها والمنفعل بها، وعلى الشاعر العربي المعاصر أن يعي التحديات التي تواجهها الأمة العربية، لأنه جزء منها بمعاناته العميقة، فالشعر لم يعد بوحًا ذاتيًا ولا انعكاسًا لهموم شخصية ولا وصفًا لمظاهر خارجية فقد اتجه اليوم الشاعر المعاصر إلى التعبير عن ضمير الأمة في همومها الحضارية.

إنّ الماضي يجب أن يبدله الحاضر كما أن الحاضر يوجهه الماضي والشاعر الواعي والناقد المتمرس يكون واعيًا لمدى الصعوبات الكبيرة التي يواجهها ولمسؤولياته العظيمة، فالتعبير الشعري في تراثنا القديم وفي عصرنا الحديث انعكاسًا للاتجاهات الحضارية والتوجهات الفكرية، ومنه كان اللقاء بين الأصيل من الشعر العربي الحديث والتراث لقاء تواصل وإبداع.

 فالعلاقة بين الحداثة والتراث قضية يطرحها كل عمل فني يتم إبداعه، وعلى نُقادنا أن يتمكنوا من وضع أسس نظرية لمفهوم الحداثة في الأدب، وأن يرسوا مبادئ فكرية تحدد علاقة الشاعر والأديب بتراثه وبالتراث الإنساني ككل، حتى نتمكن من دراسة شعرنا دراسة جدية وقيِّمة من خلال الوعي التام بأهمية التراث، لا في مجال الشعر فحسب، بل على جميع المستويات الحضارية والثقافية. فالأمة التي لا تعي ماضيها تعيش على هامش التاريخ الحاضر وتمارس ضد ذاتها عملية إبادة.

 

 

 

الهوامش:

 

1 - قدامة بن جعفر: نقد الشعر، ص: 64 .

2 -  زكي نجيب محمود نجيب: فلسفة وفن ، ص: 345 .

3 - عز الدين إسماعيل: الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية و المعنوية .

4 - ريتا عوض:  تراثنا  والحاجة إلى نظرة  موضوعية ،  العدد 609 ابريل، 2001، ص: 69 .

     مؤسس علم اللسانيات الحديث .

     مذهب قام على رفض الكلاسيكية .

5 - نقلاً عن: مجلة العربي الكويتية، الشعر والتراث تواصل أم انقطاع، رينا عوض، عدد 508، 2001م، ص:22.

نقلاً عن: مجلة العربي الكويتية، الشعر والتراث تواصل أم انقطاع، رينا عوض، عدد 508، 2001م، ص:22.

6 - نقلاً عن: مجلة العربي الكويتية، الشعر والتراث تواصل أم انقطاع، رينا عوض، عدد 508، 2001م، ص:22.


عدد القراء: 10677

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-