التقنية ... بين النقل والتوطين2-2الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2018-06-15 19:29:45

أ.د. عبد الله بن محمد الشعلان

قسم الهندسة الكهربائية - كلية الهندسة - جامعة الملك سعود - الرياض

استعرضنا في الجزء السابق عن تجارب عدد من الدول كانت تعد من دول العالم الثالث بيد أنها تبنت التقنية واتخذت منها مطية لتنطلق بها في مناحي التنمية والتطور والارتقاء والتصنيع، لعلنا من هذه التجارب نستلهم دروسًا وعبرًا تضيء أمامنا الطريق وتزيل منه العقبات وتعودنا على الصبر والتأني وبذل الجهد الدؤوب والعمل الجاد في تبني هذه الظاهرة العجيبة في عصرنا الحديث من أجل الوصول إليها والحصول عليها وتوطينها في بلداننا العزيزة، ونستكمل معكم هذه التجارب.

التجربة الماليزية:

ماليزيا دولة إسلامية حققت خلال العقود الأربعة الماﺿية قفزات واسعة في مجالات التنمية البشرية والاقتصادية لتصبح الدولة الصناعية الأولى في العالم الإسلامي وﻛذلك في مجال الصادرات والواردات في جنوب شرقي آسيا مما مكنها من تأسيس بنية تحتية متطورة ومن تنويع مصادر دخلها القومي من الصناعة والزراعة والمعادن والنفط والسياحة، كما حققت تقدمًا واضحًا في تحسين الوضع الاجتماعي وتحقيق فرص العمل ومكافحة البطالة، لذا تعد التجربة الماليزية في التنمية والوصول إلى التقنية من التجارب الفريدة التي تستحق التأمل والتحليل، فماليزيا نجحت في المزج بين اقتصاديات العولمة والاحتفاظ بنهج الاقتصاد الوطني لتتحول خلال فترة وجيزة من دولة تعتمد على تصدير المواد الأولية إلى واحدة من أكبر الدول المصدرة للسلع والتقنية الصناعية في منطقة جنوب شرقي آسيا. لقد ذكر محاضر محمد (رئيس وزراء ماليزيا) أن تجربة النهضة في ماليزيا لم تكن سهلة وطيعة وذلك نظرًا لتعدد الطوائف وتباين الأعراق واختلاف الديانات داخل المجتمع الماليزي، بيد أن ذلك لم يحل دون نسيان ذلك ومشاركة الجميع في نهضة البلاد والتوجه نحو التقنية وتطوير الصناعة. ومن العوامل التي ساعدتها أن اختيار تصنيع "الإلكترونيات الدقيقة" وكذلك "الشرائح الدقيقة" ساعد على استخدام أياد عاملة كثيرة، وعلى هذا الأساس تم منح إعفاءات كاملة من الضرائب لهذه الصناعات التي استوعبت الألاف من الأيدي العاملة إلى جانب اكتساب الخبرات والمهارات في تلك المجالات عالية التقنية. كذلك أتيح لماليزيا الانفتاح والتوسع عبر اندماجها في اقتصاديات العولمة وترسيخ ركائز تنمية اقتصادها الوطني، ويبرز ذلك واضحا من خلال تحولها من بلد يعتمد بشكل أساس على الزراعة إلى بلد مصدر للسلع الصناعية والتقنية وبخاصة في مجال الصناعات الكهربائية والإلكترونية والحاسوبية.

إن ماليزيا إذن لتعد إحدى قصص النجاح الباهرة التي حققها المسلمون اليوم بتمسكهم بهويتهم الإسلامية، وبكل ما تحمله من مظاهر الإخاء والتسامح والتعايش مع مواطنيهم من غير المسلمين، وهي شاهد على أن التطبيق الإسلامي الصحيح في سياسة العلم والعمل يكون دافعًا قويًّا وإثباتًا واقعيًّا للنهوض في شتى المجالات المعرفية والتنموية والتقنية، لذا نجحت ماليزيا منذ سبعينيات القرن العشرين في تحقيق جانب كبير من الاهداف التنموية المشمولة في خططها التنموية وسياساتها الاقتصادية، بحيث استطاعت أن تحقق طفرة تنموية كبيرة تحسدها عليها الدول المتقدمة قبل النامية، إذ لم تكن ماليزيا في بادئ الأمر سوى دولة زراعية تعتمد على إنتاج السلع الأولية وخاصه القصدير والمطاط ونخيل الزيت، بيد أنها ما لبثت بفضل سياستها التنموية أن تتحول إلى واحدة من الدول الصناعية التي تتمتع بالاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي وأن تحتل اليوم مركزًا مرموقًا في الاقتصاد العالمي.

التجربة المصرية:

تعد مصر بتاريخها التليد وتراثها الثري وإرثها الباقي وحضارتها العريقة لهي أم التقنيات التي لم يكن العالم يعرف عنها أو يكتنه سرها إلى وقتنا هذا. إن مصر حضارة قديمة في الشمال الشرقي لأفريقيا تركزت على ضفاف نهر النيل في ما يعرف الآن بجمهورية مصر العربية. وقد بدأت الحضارة المصرية في حوالي العام 3150 ق.م ثم تطورت بعد ذلك على مدى الثلاث ألفيات اللاحقة، وقد استمد نجاح الحضارة المصرية القديمة في القدرة على التكيف مع ظروف وادي نهر النيل حيث توافرت كل مقومات الزراعة من تربة خصبة ومياه جارية ومناخ معتدل، ولقد تضمنت إنجازات قدماء المصريين استغلال المحاجر وتقنيات البناء التي سهلت بناء الأهرامات الضخمة والمعابد والمسلات، بالإضافة لنظام رياضيات عملي وفعال في الطب وأنظمة للري وتقنيات الإنتاج الزراعي، وأول ما عرف من السفن والقيشاني المصري وتقنية الرسم على الزجاج، كما كان للمصريين القدماء الفضل في اكتشاف إمكانية صناعة مادة للكتابة "الورق" باستخدام نبات معين "البردى"، والذى كان ينمو بوفرة في دلتا النيل، ومنذ أن تمكن المصريون من هذا الاختراع الفذ، أصبح نبات البردى هو المادة الأولى والمفضلة للكتابة. ولقد تركت مصر القديمة إرثًا دائمًا للإنسانية جمعاء وأخذ منها اليونانيون القدماء الكثير وتلاهم الرومان. ونُسخت وقُلدت الحضارة والفن والعمارة المصرية على نطاق واسع ونقلت آثارها إلى بقاع بعيدة من العالم، كما ألهمت الآثار والأطلال والرموز (كليوباترا، المعابد، أبو الهول) خيال الشعراء والفنانين والرسامين والكتاب لعدة قرون، وأدت اكتشافات في مطلع العصر الحديث عن آثار وحفريات مصرية إلى أبحاث علمية للحضارة المصرية تجلت في علم أطلق عليه علم "المصريات"، ومزيدًا من التقدير لتراثها الثقافي في مصر والعالم. كما أن وادي النيل (وهو هبة الله لمصر) مكنها من غرس وإنبات المحاصيل الزراعية وبخاصة محصول القطن الذي أتاح لمصر وهيأها لأن تكون الرائدة في زراعته وتصنيعه وتسويقه. 

مما سبق يدل دلالة واضحة على أن مصر عرفت التقنية قبل معرفتها بالعلوم الأساسية بدليل أن المصريين بنوا الأهرامات دون أن يعرفوا قانون "الروافع"، كما أن التحنيط (حفظ أجساد ملوك الفراعنة) ظل  سرًا من أسرار الفراعنة حير علماء الكيمياء والطب والأثار والذي يصفه البعض أيضًا بأنه كان فنًا رفيع المستوى مارسه الطب المصري القديم. وإذا حصرنا حديثنا هنا عن مسيرة التقدم التقني في مصر في عصرنا الحديث فإن من المعلوم أن التقنية العلمية قد ترسخت ونمت وتطورت في مصر بفضل تقدمها العلمي وتطورها المعرفي إذ حرصت مصر منذ حكم محمد علي على الارتقاء بالتربية والتعليم، والتعليم العالي بوجه خاص لتوفير الكوادر القادرة على قيادة قوافل التطور العلمي والثقافي والنمو المعرفي والتقني، حيث بدأت بإيفاد البعثات إلى أوروبا تمهيدًا لإنشاء مدارس عليا متخصصه في مجالات الطب والهندسة، وقد توج هذا الجهد في بداية القرن العشرين بافتتاح جامعة القاهرة، والتي تعد أول جامعة تحتضن كليات علميه في الوطن العربي حيث تخرج فيها العديد من العلماء من مصر ومن مختلف الدول العربية والاسلامية، وتلا ذلك إنشاء العديد من الجامعات المصرية المرموقة والتي يربو عددها في وقتنا الحاضر على أكثر من 26 جامعة حكومية بالإضافة إلى العديد من الجامعات الخاصة مما شهدت مصر معه قفزات كبرى في مجال نقل وتوطين التقنيات الحديثة في كافة المجالات، حيث تم إنشاء وزارة متخصصة للبحث العلمي بجانب وزارة التعليم العالي، كما تم إنشاء مراكز بحوث متخصصة في مجالات الطب والهندسة والزراعة أخذت على عاتقها الاهتمام بالأبحاث والدراسات والاكتشافات التي قادت لإنجازات علمية وتقنيات مشهودة. وعلى صعيد آخر تم تنفيذ برامج متقدمة لإعداد أجيال من الخريجين من المعاهد العليا المتخصصة في التقنيات الحديثة في الكهرباء والميكانيكا والزراعة والطب والتمريض وخلافه، كذلك تم إنشاء برامج تعليمية صناعية متخصصة للمرحلة قبل الجامعية (5 سنوات بعد المرحلة الإعدادية) لإعداد كوادر فنية قادرة على تلبية احتياجات النمو التقني والصناعي، إضافة إلى أنه تم الاهتمام بإنشاء عدة مصانع في مختلف المجالات يذكر منها على سبيل المثال مصانع الحديد والصلب ومصانع الكيماويات والأسمدة ومصانع الأدوية ومصانع الإلكترونيات، كما تم الاهتمام بدخول تقنيات توليد الطاقة الكهربائية بإنشاء أول مفاعل نووي بأنشاص في العام 1964. من جانب آخر شرع المعهد القومي للبحوث (أبرز مؤسسية علمية وبحثيه في مصر) بتقديم برامج لتشجيع المخترعين والمبتكرين لتحويل اكتشافاتهم وإبداعاتهم إلي اقتصاد معرفي، وكان آخر مشروع تبناه المعهد هو تأسيس  الحاضنة الافتراضية للإبداع والابتكارات العربية بهدف تسويقها وهى تتكون من عدة محاور منها محور تسويق انتاج العلماء العرب وتسويق انتاج الشركات المبنية على البحث العلمي ومحور لحل مشكلات الصناعة وتطوير التقنية في الوطن العربي، كما سيطلق المعهد أيضًا برنامجًا خاصًا لتحويل نتاجات البحث العلمي في مصر إلى اقتصاد يستهدف توفير فرص العمل وإحداث تنمية حقيقية وتحسين مستوى المعيشة في المجتمع المصري.

وقد كان لشركة بنها للإلكترونيات دور رائد في توطين تقنيات الإلكترونيات على مستوى تصنيع المكونات الإلكترونية مثل الصمامات الثنائية (الترانسيستورز) في أوائل الستينيات، والجدير بالذكر أنه في تلك الفترة كان يتم تدريب المهندسين والفنيين من دولة كوريا الجنوبية على تقنيات تصنيع أجهزة الراديو والتليفزيون في مصنع بنها للإلكترونيات.

وعلى الصعيد العسكري قام الجيش المصري بإنشاء كليه عسكرية متخصصة في مجال الهندسة العسكرية كما قام بإنشاء عدة مصانع حربية لإمداد الجيش بقطع الغيار اللازمة للمعدات العسكرية وتطوير منظومات لأسلحة متطورة من طائرات قتالية وصواريخ موجهة ومركبات ومدرعات وخلافه.

وفى عام 1979 تم انشاء الهيئة العربية للتصنيع بتمويل من دول عربية على رأسها المملكة العربية السعودية من أجل إعادة مسار نقل وتوطين التقنية في مصر حيث تم انشاء عدة مصانع تحت مظلة الهيئة العربية للتصنيع تقوم بتجميع منتجات عالمية مثل مصنع الإلكترونيات ومصنع المركبات كذلك مصنعًا للمعدات والأجهزة الكهربائية مثل السخانات والغسالات والثلاجات والمكيفات. ولقد اتجهت مصر في الآونة الأخيرة إلى الصناعات التجميعية مع إضافة نسبة تصنيع محلي وقد يعد هذا من الوسائل الجيدة بيد أنها قد تكون بطيئة نسبيًّا في نقل التقنية نظرًا لتحكم الشريك (الشركة ألأم صاحبة العلامة التجارية) في نسبة التصنيع المحلي ونوعية المنتج المحلي من حيث احتوائه على تقنيات متقدمة مثل الأجزاء الإلكترونية وعلى وجه الخصوص التي تحتوى على أجزاء قابله للبرجمة أو مركبات تحتوي على سوائل خاصة وعناصر دقيقة حيث يصر الشريك على احتكار هذه الأجزاء والمركبات والعناصر ذات السرية والخصوصية لنفسه.

التجربة السعودية:

وبعد أن تم استعراض تجارب سبع من دول العالم في كيفية تبني وتوطين التقنية آن لنا الآن أن نعرج على تجربة المملكة العربية السعودية لنسبر أغوارها ونستعرض أطوارها في كيفية تبني التقنية وتوطينها في المملكة بعد أن أصبحت قادرة ماديًّا (بفضل الله ثم وجود البترول واستثماراته) على الاستفادة من معطيات التقنية لتحريك وتنشيط العمليات التنموية المتسارعة وتجهيز البنيات الأساسية في الصناعة والزراعة والصحة والاتصالات والتعليم.

من المعروف أن التجربة السعودية دخلت هذا المجال منذ بدء تطبيق خطط التنمية الخمسية التي انطلقت مع بداية التسعينيات الهجرية والتي اتخذت منها المملكة أسلوبًا للتقدم ووصولاً إلى تنمية اقتصادية ورقي حضاري عبر تخطيط تنموي متأن وصياغة خلفية واعية ينطلق منها ذلك التخطيط. لقد اتخذت الدولة من التخطيط أسلوبًا للتنمية لتحقيق الأماني والوصول إلى الأهداف المرجوة من خلال مراحل تنموية شاملة بدءًا من المرحلة الأولى قبل أربعة عقود ونيف، وقد كان ثمة خططًا مرسومة وبرامج طموحة آلت الدولة على نفسها أن تسعى لتطبيقها وتنفيذها، ثم بدأت معطيات التنمية تترى بعد ذلك لكي تأخذ الدولة بزمام المبادرة في وضع البرامج وإدخال التقنيات الجديدة وتطوير العنصر البشري، وكان من الطبيعي أن تنبئ التجربة عن توافق عوامل النمو واستجابة المنطق الحديث وكان من أولويات تلك الخطط من الأولى وحتى الخامسة التركيز على إيجاد البنى التحتية والتجهيزات الأساسية المتكاملة فكانت الطرق المعبدة والاتصالات اللاسلكية والمطارات والمساجد والجامعات والمستشفيات والكهرباء والمياه والصرف الصحي، وكل ذلك أوجد من أجل المواطن وراحته وإسعاده وضمان رفاهيته. ونظرًا للعامل "الديموغرافي" والوضع الجغرافي الذي تتميز به المملكة فكان إنشاء الكثير من الطرق السريعة والمطارات الحديثة والموانئ الرحبة يأتي في إطار مسؤولية الدولة في مواجهة كل التحديات، وكانت كل هذه النتاجات من آثار وإفرازات التقنية الحديثة حيث أدركت الدولة مع الثروة التي أفاء الله بها عليها في اكتشاف البترول أن التصنيع شيء أساس فبدلاً من بيع البترول بسعر الخام فلا بد من تكريره وتصنيعه فكان إنشاء المجمعات والمرافق والمدن الصناعية العملاقة.

لقد كان من أهم لوازم التحديث والتطوير والتجديد هو الفهم الواعي والتقبل الجاد لتطويع التقنية في مجالاتها المختلفة، لقد صرفت المملكة بلايين الريالات لإرساء بنيتها الأساسية، وكان الهدف الأسمى لهذا الإنفاق السخي هو نقل التقنية ومن ثم توطينها أو زرعها أساسًا ليسعد بها الإنسان الذي يعيش على أرضها، والإنسان هنا هو بلا شك العنصر الأساسي والمستهدف بغض النظر عن الآلة ذاتها وما تقوم به وتؤديه من وظائف ومهمات.

لقد اهتمت المملكة من جانبها اهتمامًا كبيرًا بتوطين التقنية، وخطت خطوات واسعة في مجال التعليم وتكوين الكوادر الوطنية القادرة على توطين التقنية، فأصبح أعضاء هيئة التدريس والباحثون السعوديون يشكلون أغلبيةً عظمى في الجامعات السعودية، كما زادت مراكز البحث العلمي في كل من القطاعين العام والخاص زيادة مطردة، ومن أبرزها مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، وشركة أرامكو، وشركة سابك، والمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني، فضلاً عن كثير من المؤسسات الأكاديمية والجامعية الأخرى.

والملاحظ أن عملية نقل التقنية لا يقصد بها الاستحواذ فقط على الأجهزة والمعدات بصورتها المجسدة، بل نقل المعارف التقنية ممثلة في المهارات المهنية والفنية والخبرات الإدارية والتنظيمية، أما توطين التقنية وتطويعها فهي العملية التي يتم من خلالها تنمية الملكات الذاتية للتعامل الفني مع الأجهزة والمعدات الحديثة وعمل التعديلات اللازمة عليها لتلائم طبيعة المجتمع وظروف  البيئة المحلية.

وحتى تضمن المملكة نقل التقنيات الحديثة اللازمة لنجاح المشاريع التنموية، عملت على وضع حوافز مجزية لتشجيع قيام المشاريع المشتركة، ونجحت تلك التوجهات في تحقيق الكثير من الإنجازات العملاقة في المجالات الخدمية والإنتاجية كافة مقارنة بغيرها من الدول، ودون أن تضطر إلى إعطاء تنازلات تتعلق بنوعية التقنية والاتجاهات الفنية العالمية فيها، أو اختيار أنواع أقل تطورًا.

ويعد برنامج التوازن الاقتصادي، أحد أكثر الكيانات السعودية اهتمامًا بتوطين التقنية، باعتباره برنامجًا صناعيًّا استثماريًّا طويل الأجل، يهدف إلى ربط شركات القطاع الخاص السعودية بالشركات الأجنبية وتمكينها من الاستفادة من التقنية العالية والمتطورة لدى الشريك الأجنبي ونقلها إلى المملكة وتوطينه بها.

كما أقامت المملكة شبكات اتصال واسعة تغطي جميع أرجائها، وعملت على بناء محطات لتحلية المياه المالحة وإنتاج الطاقة الكهربائية كمنتج مرافق، كما نجحت في إنشاء مدن صناعية قوامها أكثر من (2720) مصنعًا منتجًا تُستخدم فيها مختلف التقنيات الحديثة مكنت من إرساء قاعدة صناعية راسخة كان لها أثر بارز في دعم الجهود لنقل وتوطين التقنيات الصناعية المتقدمة.

ولقد واكبت تلك الإنجازات في نقل التقنية المتقدمة جهود أخرى نحو النقل والاستيعاب والتطويع والتوطين، كان من أهمها التوسع الكبير في إنشاء المؤسسات التعليمية العامة والعالية، ومؤسسات التعليم الفني والتدريب المهني؛ لتخريج كفاءات بشرية من علماء ومهندسين وفنيين قادرة على التعامل مع التقنية واستيعابها وتوطينها، إضافة إلى تطوير المؤسسات الإنتاجية القادرة على توطين التقنية وتطويرها، وإنشاء العديد من مراكز البحث والتطوير في القطاعين العام والخاص وتوفير الخدمات المساندة من معلومات وتسجيل براءات اختراع ومكاتب استشارية هندسية، إضافة إلى رسم السياسات ووضع الخطط العلمية والتقنية لنقل التقنية وتوطينها وتطويرها.

كما اتجهت المملكة من خلال الشركات العاملة بها إلى تنمية وتعزيز الصناعات الإلكترونية وذلك من أجل تعزيز الاقتصاد الوطني والتقليل من الاعتماد علي المصادر الأجنبية وتدوير الأموال داخل الاقتصاد المحلى والحد من استنزاف الموارد المالية في استيراد التقنية والمنتجات الإلكترونية العالية التكلفة وكذلك توفير تكاليف تشغيلها وصيانتها الأمر الذي يحسن من ميزان المدفوعات ويرفع الناتج الوطني الإجمالي إضافة إلي توطين التقنية المتقدمة وتطوير تقنيات مناسبة للظروف المحلية سواءً اكانت بيئية أو ثقافية أو اجتماعية.

ومن الخطوات الواسعة نحو توطين التقنية أنشأت جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية بهدف إحياء العلوم في العالم الإسلامي، وقد افتتحت في 23 سبتمبر 2009، وتركز التوجه فيها بشكل خاص نحو التعليم العالي والبحث العلمي حيث تقدم فيها برامج في العلوم البيئية والبيولوجية والهندسية والرياضية والفيزيائية وعلوم الحاسوب. ولقد حققت الجامعة تقدمًا كبيرًا في وقت زمني قياسي إذ تشغل حاليًا مركزًا متقدمًا كواحدة من الجامعات الأكثر بحوثًا والأغزر إنتاجًا من حيث الدراسات البحثية كما أعلن مؤخرًا أنها تعد الأسرع نموًّا بين جامعات العالم النخبوية في مجال سجلات النشر والبحث والاقتباس وذلك حسب التصنيف العالمي لجامعة شانغهاي لعام 2015م.

كذلك تم التفكير بإنشاء مدينة الملك عبدالله للطاقة الذرية والمتجددة لكي تتولى هذه المدينة مهام إعداد برامج الاستخدامات السلمية للطاقة الذرية في المملكة وبخاصة في مجالات توليد الكهرباء والطاقات المتجددة وتحلية المياه وتحضير النظائر المشعة لاحتياجات الأبحاث الطبية والصناعية مما سيمكن المملكة من استشراف حاجة المجتمع والتخطيط لتلبيتها بشكل مدروس ودقيق يساعد في زيادة معدلات التنمية ويعطي المملكة القدرة المعرفية ضمن الاتفاقات والمعاهدات الدولية المتعلقة بموضوع الأمان النووي التي تنظم استخدام الطاقة الذرية للأغراض السلمية وتوفر المواد الضرورية للاستخدامات الطبية والزراعية والصحية وكافة الاحتياجات الوطنية، وهذه المدينة تفتح بابًا واسعًا للمساهمة في التنمية المستدامة في المملكة وذلك باستخدام العلوم والأبحاث والصناعات ذات الصلة بالطاقة الذرية والمتجددة في الأغراض السلمية، بما يؤدي إلى توطين التقنية ورفع مستوى المعيشة وتحسين نوعية الحياة وبخاصة أن المملكة تشهد نموًا مطردًا وبمعدلات عالية للطلب على الكهرباء والمياه المحلاة وذلك نتيجة للنمو السكاني والامتداد الحضري إلى جانب الأسعار المدعومة للمياه والكهرباء، ويقابل هذا الطلب المتنامي على الكهرباء والماء طلبا متزايدا على المواد الأحفورية (النفط والغاز) لاستخدامها في توليد الكهرباء وتحلية المياه التي ستستمر الحاجة لتوفيرها بشكل متزايد، ولذلك فإن استغلال مصادر بديلة مستدامة وموثوقة لتوليد الكهرباء وإنتاج المياه المحلاة سيقلل من الاعتماد على تلك الموارد الأحفورية القابلة للنضوب وبالتالي يوفر ضمانًا إضافيًا لإنتاج الكهرباء وتحلية المياه في المستقبل ويحفظ في الوقت ذاته تلك المصادر الثمينة من التلاشي والاندثار الأمر الذي سيؤدي إلى إبقائها مصدرًا للدخل لفترات طويلة من الزمن. وضمن إطار التطلعات الطموحة لرؤية 2030 التي اختطتها المملكة نحو تحول حقيقي في اتجاه المستقبل فقد تم الإعلان مؤخرًا عن مشروع مدينة "نيوم" الذكية، والتي ستسطر تاريخًا جديدًا وترسم مستقبلاً مشرقًا  للمعيشة في المملكة بل وللعالم أجمع. والمدن الذكية أضحت مطلبًا وضرورة ولم تعد مجرد رفاهية وترف في ظل الحاجة إلى الاستدامة وفي عالم ترتفع فيه أسعار الطاقة وتزداد فيه ندرة الموارد الطبيعية، إلى جانب تقلبات المناخ والبيئة، وازدياد حدة ظاهرة الاحتباس الحراري، واتساع ثقب الأوزون، وارتفاع وتيرة المنافسة التجارية والاقتصادية حيث يتنامى ويزداد قلق المستهلك بشأن جودة الحياة والصحة والأمان، وتغدو الاستدامة ضرورة لا بديل عنها لمواكبة التطورات والأحداث، وحسب ما أوردته وكالة الأنباء السعودية (واس) فإن منطقة "نيوم" ستركز على تسعة قطاعات استثمارية مستقبلية متخصصة وهي: مستقبل الطاقة والمياه ومستقبل التنقل والمواصلات والتنقل ومستقبل التقنيات الحيوية ومستقبل الغذاء ومستقبل العلوم التقنية والرقمية ومستقبل التصنيع المتطور ومستقبل الإعلام والإنتاج الإعلامي ومستقبل الترفيه وأخيرًا مستقبل المعيشة الذي يمثل الركيزة الأساسية لباقي القطاعات. كما سيعمل مشروع "نيوم" على جذب الاستثمارات الخاصة والشراكات الحكومية، وسيكون علاوة على ما سبق وجهة اقتصادية واستثمارية واعدة، إذ سيتم دعم المشروع باستثمارات تبلغ قيمتها 500 مليار دولار أمريكي من قبل المملكة وسيوفر فرصًا جاذبة للمستثمرين بالوصول للسوق السعودي مباشرة بلا قيود، بالإضافة إلى الأسواق العالمية؛ لكون المنطقة مركز ربط بالقارات الثلاث (آسيا وإفريقيا وأوروبا)، كما سيتيح هذا المشروع الطموح - من خلال البيئة التنظيمية المريحة التي ستتمتع بها المنطقة - المشاركة في صياغة الأنظمة والتشريعات، كما سيحظى أصحاب الأعمال والاستثمار بدعم تمويلي لإقامة المشاريع التي تخدم أهداف مشروع "نيوم". هذا بالإضافة إلى أن المشروع سيكون منطقة خاصة مستثناة من أنظمة وقوانين الدولة الاعتيادية، كالضرائب والجمارك وقوانين العمل والقيود القانونية الأخرى المفروضة عادة على الأعمال التجارية، فيما عدا الأنظمة السيادية؛ مما سيتيح للمنطقة القدرة على تصنيع منتجات وتوفير خدمات بأسعار منافسة، وفضلاً عن ذلك سيوفر فرصة استثنائية للحدّ من تسرب الناتج المحلي الإجمالي، وذلك عبر إتاحة فرصة الاستثمار داخل المملكة لكل من يستثمر أمواله في الخارج، وبالتالي تقليص التسرب المالي نتيجة توفر الفرص الاستثمارية الضخمة، كما سيوجد فرصًا جديدة للاستثمار في قطاعات جديدة ومبتكرة، بالإضافة إلى استفادة المستثمرين في المشروع من الموارد الطبيعية والطاقات المتجددة. يضاف إلى ذلك، أن المشروع سيسهم بشكل كبير في الناتج المحلي الإجمالي للمملكة. وبفضل موقعها الفريد على البحر الأحمر، وشواطئها الخلابة، ومناظرها الطبيعية، فإن الفرصة مواتية لـ"نيوم" لتصبح الوجهة السياحية الأولى والمفضلة عالميًا بل وستصبح "نيوم" مهيئة لاستيطان ملايين البشر من المواطنين والمقيمين، كما ستحل "الروبوتات" بديلاً للبشر للقيام بالأعمال الشاقة والمهام المتكررة وذات الحساسية من أجل أن يتفرع البشر للقيام بالمهام الإجرائية والتنفيذية والإبداعية، كما يقدّم المشروع مزايا قيمة للشركات والأفراد، بحيث يلبي احتياجات المملكة، ويستقطب أفضل الشركات وأصحاب الكفاءات من جميع أنحاء العالم، وسيتم تطبيق أعلى معايير السلامة والأمان في مشروع "نيوم" عالميًّا وأرقى الأنظمة الاجتماعية كركيزة أساسية للمعيشة المثالية المريحة والمنتجة معًا.

فذلكة ختامية:

وأخيرًا، لعلنا نستلهم من تلك التجارب التي مرت بها وعايشتها بعض من الدول العربية والإسلامية نبراسًا مضيئًا ومشعلاً هاديًا ينير لنا دروب وآفاق التحول لنقل التقنية وغرسها وتوطينها في بلداننا العربية والإسلامية، وهذا التحول - بلا شك -  قد يصحبه متغيرات اجتماعية وثقافية واقتصادية وعلى الإنسان (في أي موقع كان) أن يعي عملية التكيف والتواؤم مع تلك المتغيرات. إن الأرض الطبيعية الخصبة لغرس مثل هذا الوعي ينبثق بلا شك من المؤسسات التعليمية بدءًا من التعليم الأوّلي ثم الجامعي ثم التخصص الدقيق والأبحاث، ويكون الغرض من ذلك هو تهيئة المسار المريح الذي تمر به التجربة العلمية عبر هذه المراحل المتتالية لتتفاعل وتأخذ نموها الطبيعي نحو الإدراك والاستيعاب والتطبيق. وهناك أيضًا المؤسسات العلمية ودور البحث ونشر العلوم والمكتبات التي تقع على عاتقها مسؤولية جسيمة نحو تسيير دفة البحوث وإذكاء الأفكار ونشر المعارف ودعم الابتكارات ورعاية الإبداعات في مجالات التقنية المختلفة، وبهذا يتحقق الهدف نحو تنمية القوى البشرية وتطوير القوى الماهرة ورعاية الملكات الإبداعية وإيجاد بيئة تجمع في كنفها مظاهر الإنتاجية ونموذج العقل الشمولي الذي يوفر قاعدة مثالية لذلك، لذا فإننا نتطلع ونأمل أن نشهد في بلداننا العربية والإسلامية استمرارًا في نقل التقنية وبمعدل عال قد يستبق قدراتنا على الحفاظ عليها وتوطينها مما يلزم البحث عن السبل الكفيلة بإدارة التقنية بفهم أفضل وفعالية أكبر وشمولية أكثر، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.


عدد القراء: 6391

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-