متاهات العنف في «بيريتوس مدينة تحت الأرض» (قراءة هرمينوطيقية)الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2018-06-15 21:07:42

د. سُميّة عزّام

كاتبة لبنانية

الكتاب: ‏"بيريتوس مدينة تحت الأرض "

المؤلف: ربيع جابر

الناشر: المركز الثقافي العربي

عدد الصفحات: 240 صفحة

كتب ربيع جابر رواية "بيريتوس مدينة تحت الأرض" في سنة اغتيال رئيس الحكومة اللبناني رفيق الحريري، وما سبق التفجير الكبير من اغتيالات، وتفجيرات مروّعة تعيد إلى الذاكرة مشهد الحرب الأهليّة اللبنانيّة التي وإن تنحّت في زاوية قصيّة من الذاكرة، فإنّها لا تزال قابعة فيها، وتجلّياتها ومفاعيلها ماثلة في الوجدان وفي مجتمع ما بعد الحرب. رواية تبوح بالقلق، تنذر وتحذّر، من طريق الحكي. تحكي الماضي والحاضر وانجدالهما المأزقيّ في محاولة استجلاء المستقبل. 

"بيريتوس"* اسم يحفر في التّاريخ، وفي الحضارات الغابرة؛ إذ هو الاسم الإغريقي لمدينة بيروت؛ يصفها الرّاوي بأنّها متاهة مدينة مطمورة تحت الأرض، موقعها كائن تحت بيروت الحاليّة. أمّا كيف دخلها الرّاوي ذاتيّ الحكاية واكتشفها، فذلك عبر حفرة انزلق فيها مطاردًا ياسمينة بثوبها الأبيض، متماهيًا مع أليس الشّخصيّة القصصيّة للويس كارول التّي طاردت أرنبًا أبيض. توجد هذه الحفرة في خربة سينما "سيتي بالاس"، الأثر الماثل من زمن الحرب الأهليّة الّلبنانيّة، والكائنة على خطّ التّماس الّذي يقسم بيروت بين شرقيّة وغربيّة.

لهذا المعلم رمزيّته الدّلاليّة؛ إذ يحيل إلى الذّاكرة الكابوسيّة للحرب، ذاكرة طّفولة الرّاوي المعذّبة. يؤكّد هذا الاتّجاه في التّفسير ما يخبر به هذا الأخير عن أهل بيريتوس ومأزوميّتهم ومأزقيّة المكان المهدّد بالانهيار والتّلوّث. فما دهاليز المتاهة الأرضيّة وطبقاتها إلاّ طبقات الذّاكرة وتلافيف الدّماغ؛ بحيث يصفها بطرس الرّاوي بأنّها منخورة، مجازًا، بسوسة المنخوليا الّتي هي "مرض الاكتئاب الشّديد": "إذا دخلت سوسة المنخوليا إنسانًا سكنت قلبه. إذا بلغت المخّ صارت تأكل المادّة الرّماديّة، وتقضم التلافيف الطّريّة التي تشبه الدّهاليز، وتتغذّى على الذّكريات والأحلام والخيبات، وتنمو كالدّودة". فناس بيريتوس ما هم إلاّ أطياف من رحلوا، فُقدوا أو خُطفوا وغابوا، كما هي حالة إبراهيم ابن خالة بطرس المخطوف، والّذي عثر عليه تحت.

المتاهة هي  شكل التّيه لتقاطع طرق،  بعضها مسدود بلا مخرج.  وتاليًا، لا بدّ للتّائه من البحث عن مخرج. فالمتاهة تعني إذًا، حصر التّائه في أضيق مساحة مسدودة ممكنة.  كان سبيل بطرس الرّاوي، طفلاً، للخروج هو الهروب إلى النّوم حين يقول: "لماذا لا أذكر من الحرب كلّها إلاّ نومي في الملجأ؟. وأنت أيضًا عبرت الحرب كمن يعبر منامًا" ،مخاطبًا الرّوائي بوصفه شخصيّة في الحكاية. يمنّي الرّاوي نفسه لو كان كل ما شاهده في بيريتوس وفي الواقع التخييلي زمن الحرب منامًا، لا حقيقة: "هذا كلّه منام طويل لن ألبث أن أستيقظ منه". ليس ذلك وحسب، بل إنّ المخرج من كابوس الذّاكرة ومتاهاتها وأنفاقها هو الكتابة، حين يحدّث الرّاوي الشّاهد جليسه: "إذا أخبرتك القصّة وكتبتها أنت في رواية صارت تبدو لي خياليّة غير حقيقيّة، ولم تعد تفسد عليّ نومي".

الشّخصيّة الرّئيسة الثّانيّة هي شخصيّة ياسمينة، حبيبة بطرس، والّتي استحالت رمزًا عندما شبّهها بأوفيليا:"أراها تطفو مثل أوفيليا على وجه المياه. أنا الّذي قرأت كلّ تلك الكتب لم تساعدني الكتب على احتمال الألم".  وأوفيليا هي حبيبة هاملت، شخصيّتان في مسرحيّة "هاملت" لشكسبير. حاولت أوفيليا إنقاذ هاملت بفعل الحبّ والغناء، وجذبه إلى الجانب الآخر من النّهر، إلى عالمها الجذّاب، حيث البهجة، وترك فعل الانتقام. لكنّها فشلت، فأسقطت نفسها في البحيرة لترحل عن ذلك العالم الكئيب، فأضحت رمز النّسيم الرّقيق في عالم مضطرب، تبتغي تخليص العالم من العنف. 

كانت ياسمينة أمل بطرس في الكهف البارد والمظلم في بيريتوس، كما كان هو أملها بالخلاص والخروج من متاهة المدينة، حيث الزّمن يتحجّر. يرمز إلى توقّف الزمان السّاعة المتوقّفة، والقنديل الّذي لا يُضاء المعلّقان على الحائط الأبيض لبيت إسحق، حيث قبع بطرس بعد سقوطه في الحفرة. الحائط نفسه استحال شاشة بيضاء تتلاحق عليها الصّور، ليمسي سكّان الكهف مجرّد ظلال لأشخاص، ممثّلين في عالم حركات خفِرة وأصوات هامسة ووميض أنوار خافتة بدلالة حياة تنضب وأرواح تتلاشى، بالتّوازي مع اندثار مجد سينما سيتي بالاس وعالمها الّذي كان ضاجًّا بالحياة. يرمز إلى انحلال الحياة نضوب النّهر الّذي يغذّي المدينة، وشحّ الغذاء وفقدان العديد من الموادّ الغذائيّة البدائيّة.

إشارة أخرى إلى سير الزّمان وئيدًا رمزيّة المكتبة الفقيرة بالكتب (عشرين كتابًا)، وقول إحدى الشّخصيّات: "الّذي يتعلّم هنا يصير شقيًّا. ما فائدة العلم؟". فأبواب الأمل موصدة، والحلم بالشّمس والسّماء مبتور، يقمعه الخوف من أمرين، أوّلهما انطفاء الأعين لاحتراقها في الشّمس، وثانيهما عبور الأسوار لوجود "ناس الوحل" الّذين لم يرهم أحد. ولفكرة ناس الوحل وإيهام النّاس بوجودهم، دلالة التّسلّط الاجتماعي الموروث واستغباء السّكّان لاسبقائهم داخل الأسوار ومنعهم من التّفكير بالخروج وترك الجماعة.

    رواية بيريتوس تزخر بالدّلالات الرّمزيّة، وتستنطق الماضي وتُحمّل بمآزق زمكانيّة؛ إذ تُمثّل برمّتها نافذة أمل بالخروج من أنفاق ذاكرة مكلومة. فمن خلال عالمها الغرائبي يهرب الرّاوي مع شخصيّاته من ثقل الواقع ماضيًا وراهنًا، محذّرًا من مستقبل بائس ومصير مشؤوم.

_____

* أوّل ذكر لاسم بيروت ورد بلفظ "بيروتا" في ألواح تل العمارنة. سماها الفينيقيون "بيريت"، وهي كلمة فينيقيّة تعني الآبار. وقيل إنّها كانت تُدعى بيريتوس نسبة للإلهة "بيروت" أعزّ آلهة لبنان وصاحبة "أدونيس" إله جبيل. وعُرفت المدينة باسم "بيريتوس" (باليونانيّة القديمة) في الأدبيّات الإغريقيّة.


عدد القراء: 6810

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-