فلسفة الحزام والطريق.. فكر الحضارة والاقتصادالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2019-02-05 16:20:47

د. خالد واصف الوزني

مستشار استراتيجيات وشؤون اقتصادية - دبي

تشكّل مبادرة الحزام والطريق التي أطلقها الرئيس الصيني "شي جين بينغ" عام 2013 منطلقًا جديدًا لمفهوم التحالفات الاقتصادية، والدور الاقتصادي للقوى العُظمى في الاقتصاد العالمي. وهي مبادرة متكاملة تقوم على ثلاثة قطاعات متداخلة؛ الأول قطاع الطرق والبنية التحتية، والثاني قطاع التعاون في الطاقة الإنتاجية، والثالث قطاع الثقافة والتواصل الثقافي، والقطاع الأخير هو المكمّل الطبيعي التكاملي بين فتح التجارة والطرق، وانتقال أصحاب المصالح بين الدول المنخرطة في التعاون الاقتصادي والمصالح الاقتصادية. ولعلَّ التبادل الثقافي ومعرفة الآخر، وفهم مكنونات معرفته التراكمية، جميعها كانت السبيل في انتشار الإسلام في العديد من دول العالم البعيدة عن منطلق الدعوة الإسلامية في مكّة والمدينة المنورة. وقد انتشر الإسلام عبر المصالح التجارية وتبادل الثقافات والمعرفة بشكلٍ لا يقلُّ عمّا حقّقته الفتوحات الإسلامية في عصر ازدهارها. ومن هنا فإنَّ مبادرة الحزام والطريق لم تترك البعد الثقافي بعيداً عن الممكّنات الاقتصادية والجيوسياسية التي تقوم عليها وترتكز على تحقيقها؛ فالحزام والطريق مبادرة أرادت من خلالها الدولة الثانية على الساحة الاقتصادية العالمية أن تُحيي بها روح طريق الحرير؛ الحزام التاريخي الذي ربط الصين بالعالم منذ نحو ألفي عام. وتُعدُّ مبادرة الحزام والطريق من المبادارت الاقتصادية الجيوسياسية والثقافية المُخطط لها بشكل متميز، وترتكز في معطياتها على طرق متداخلة عدة، لا تنفك إحداهما عن دعم الأخرى، ولا تنقطع مكوناتها عن تعزيز بعضها لتشكّل نسيجاً متكاملاً من المصالح الاقتصادية والجيوسياسية التي ستعزز من دور الاقتصاد الصيني على الساحة العالمية، لتجعله الاقتصاد الأول بحلول العام 2030، ولتحقّق للدول المشاركة مصالحة مشتركة تضعها جميعاً في موقعٍ أفضلَ ممّا هي عليه اليوم. فالمبادرة تقوم على منفعة الجميع وتحقيق مصالحهم. وبتحليل مكونات المبادرة تجد أنها تتجاوز البعد التقليدي للتعاون التجاري العالمي، لتخلق مصالح لأكبر قدر ممكن من المؤسسات والأفراد والدول. فهي من ناحية تعمل على تشغيل كل من يعمل في مجالات شبكة الخطوط البحرية، فتشكّل حزامًا بحريًا متكاملاً بين الصين ودول أوروبا مرورًا بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهي في الوقت نفسه حزام من خطوط وأنابيب النفط والغاز الطبيعي، بما يمكّن الصين، والتي تعتمد على الخارج فيما يزيد على 97% من طاقتها ، من الاستمرار في الإنتاج والعمل دون توقُّف، ومن مصادر متعددة جميعها لها مصالح مشتركة مع الصين، ويهمها أن تبقى تلك الدولة قائمة على الإنتاج والعمل والعطاء. والمبادرة على صعيد ثالث هي مبادرة رقمية تضمن ربط الصين بالعالم عبر حزام وطريق رقمي إلكتروني عالمي يواكب أفضل التطورات التكنولوجية وعبر أفضل مجالات الاتصالات، ومن خلال أفضل قنوات النطاق التقني ذي السعة الفائقة. وفي المحصلة نحن أمام مبادرة صينية بامتياز، تسعى إلى خلق روابط تجارية اقتصادية وثقافية بين قارة آسيا وأوروبا وإفريقيا، عمادها شبكة متكاملة من الطرق البرية والبحرية والرقمية، وممكّناتها السكك الحديدية وأنابيب النفط والغاز، وخطوط الطاقة الكهربائية، وخطوط الإنترنت وشبكات المعلومات واسعة النطاق، ومسارات بحرية آمنة ومتطورة. المشروع الصيني العملاق يقوم على المصالح المشتركة لنحو 65% من سكان العالم، ويحقّق استثمارات صينية تصل، حسب وثيقة المشروع، إلى نحو 8 ترليون دولار، ويبدأ بكلفة أولية تصل إلى نحو مليار دولار من الاستثمارات في مجالات ونطاق التجارة العالمية. وقد بدأت الصين بالفعل، وحسب التقارير المتوافرة، في إنفاق نحو 150 مليار دولار في 68 دولة، هي الدول التي وافقت على المشروع ودخلت ضمن نطاقه، كما أنَّ الأرقام الحالية تشير إلى توظيف ما يزيد على 180 ألف عامل في دول "الحزام والطريق" لغايات تنفيذ المشروع الذي يقوم على نحو 7000 ميل من السكك الحديدية والممرات المعبدة. وتحقق معادلة "الحزام والطريق" ربط 27 مدينة صناعية في الصين، بالعديد من المدن الصناعية والتجارية حول العالم، وخاصة 11 مدينة صناعية في القارة الأوروبية. الصين وضعت لنفسها بنك معلومات مستقل من المشاريع التي سيتم تنفيذها، وقد بدأت بالفعل في تنفيذ عدد من المشاريع المُبكّرة ضمن 1000 مشروع قائم في بنك المعلومات الصيني.

أمّا على صعيد منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فإنَّ الصين تعطي اهتماماً خاصاً للدول العربية التي ليست فحسب المرتكز الأساس والممر الجغرافي الأهم لأمن المبادرة واستدامتها، بل هي المصدر الأكبر للطاقة المتوقعة للمشروع واستدامته، سواء تحدثنا عن الطاقة التقليدية الحالية القائمة على النفط والوقود أم تحدثنا عن الطاقة المتجددة بأشكالها المختلفة ومصادرها المتنوعة. وتُعدُّ المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة حجر الرحى في البنية التحتية لمشروع الحزام والطريق، ليس فقط في مجال الطاقة والوقود بل أيضاً في مجال التبادل التجاري والاقتصادي والجيوسياسي والثقافي. فعلى الرغم من اهتمام الصين بما ستقدمه مصفاة ينبع في السعودية ومشاريع التروكيماويات العملاقة التي تسعى للاستفادة منها في تحقيق أهداف المشروع، فإنَّ مكونات المشروع تتطلب التنسيق الكامل مع الدولتين؛ السعودية والإمارات، لتحقيق النتائج المطلوبة لتسيير النطاق الكبير للخدمات البحرية والبرية وخدمات النطاق الواسع من الإنترنت. كما أنَّ التطوّرات التي تشهدها دولة الإمارات العربية بشكل خاص، وعلى وجه التحديد في مجالات الخدمات اللوجستية للتجارة، وخدمات النطاق الواسع للإنترنت، وخدمات تسهيل التبادل التجاري، ومجالات الابتكار الإبداعي في الصناعات المختلفة وخاصة في الصناعات التابعة للجيل الرابع، والصناعات ثلاثية الأبعاد، وتحقيق العديد من النتائج المميزة في مجالات الصناعات الفضائية وفي مجالات البحث والتطوير، كل ذلك يشكّل الحافز الأكبر لانطلاق ونجاح مشروع الحزام والطريق. وقد أدّى ذلك كله إلى قيام الرئيس الصيني بزيارة خاصة إلى دولة الإمارات، وتأكيده أهمية التعاون المشترك في نجاح مشروع الحزام والطريق. وقد شكّلت رمزية إهداء الرئيس الصين حصاناً عربياً أصيلاً أنموذجاً للتعبير عن فهم متطلبات التعاون والقوة والرصانة والإقدام الذي يتطلبه ذلك. فقد عُرف عن العرب على مدار التاريخ أنّ اقتناء الخيل والاهتمام بمظهرها هو من مظاهر القوة والجاه والسلطان. ولعلّ "مربط الفرس" في الأمر أنّ التعاون يحتاج إلى قدرة الطرفين على العطاء والإقدام والمبادرة إلى الفوز وتحقيق الأهداف، وأنَّ دولة الإمارات العربية المتحدة ستكون عماد النجاح للمشروع وفق مصالح متبادلة وتفاهمات تضمن للجميع عوائد تعزّز التنمية المستدامة للدول المشاركة. ولعلَّ ذلك يعزّز ما تهدف إليه المبادرة من النزوع إلى نمط اقتصادي جديد في العالم، نمط يقوم على الابتكار والإبداع من جهة، ويسعى إلى استغلال الطاقات القائمة والكامنة في طرق إنتاج حديثة وفي سبلٍ صناعيةٍ مبتكرةٍ تقوم على استغلال مقومات الثورة الصناعية الرابعة من جهة ثانية. وهي سياسات تجعل العديد من دول المنطقة، وخاصة دولة الإمارات العربية والمملكة العربية السعودية، تسعى إلى إنتهاجها واللجوء إليها، سعياً وراء تنويع القاعدة الإنتاجية، بعيداً عن التركيز على تصدير المواد الأولية أو الموارد الطبيعية دون الاستفادة منها. وهو أمر قوامه تنشيط العملية الصناعية وخلق روابط حقيقية تساعد على التحوُّل نحو الإنتاج الصناعي المتطور وتصديره، بدلاً من الاعتماد على تصدير المواد الأولية والموارد الطبيعية. وختاماً، فإنَّ الصين، عبر مبادرة الحزام والطريق، إنما تسعى بشكل حثيث أن تكون المحرّك الأساس للاقتصاد العالمي، وتسعى من خلال ذلك للعبور باقتصادها  إلى المرتبة الأولى في العالم بعد أن تجاوزت متطلبات الاقتصاد العالمي الثاني منذ أكثر من عامين، وهي في النهاية، بعد أن أنشأت أيضاً بنك دولي آسيوي للتنمية والإعمار، وأسهمت بنصف رأسماله، تسعى إلى إنشاء نظامٍ ماليٍّ عالميٍّ جديد قوامه ذلك البنك العالمي الذي لن يعمل فقط على الإقراض والتنمية، كما هي الحال في البنك الدولي حالياً، بل على الاسثتمار وتطوير عمل الدول، بما يحقّق تبادل المصالح مع البنك من جهة، وتحقيق عوائد مشتركة مع الدول الأعضاء من جهة أخرى. ومن المؤكد أنَّ النظام المالي الجديد للبنك سيسمح بمساعدة الدول على تجازو مشكلات عجزها المالية ومديونيتها الخارجية ومعضلات سعر صرفها، وبالتالي سيتمكّن البنك من لعب دورٍ مهمٍّ في المجالات التي يتخصّص بها أيضاً صندوق النقد الدولي، ومن هنا فإنَّ الصين ستكون خلال السنوات العشرين القادمة منطلقاً لنظام اقتصادي عالمي جديد، وقوة اقتصادية ومالية عالمية قد لا يوازيها أيٌّ من القوى الفاعلة اليوم. مبادرة الحزام والطريق مبادرة حيوية ينبغي على الدول العربية أن تسهم لتكون فاعلاً فيها ومكملاً لها، لضمان تحقيق أكبر المنافع منها، وقد بادرت دول مثل الإمارات والسعودية وحتى الكويت في لعب دورها، وعلى الدول الأخرى أن تعمل على ذلك، بل لعلَّ المطلوب القيام بعمل عربي مشترك وجهد موحد، ولعلَّ جامعة الدول العربية ومجلس الوحدة الاقتصادية العربية يفيق إلى ذلك ويسعى إليه كعمل عربي مشترك يخدم مكوّنات المنطقة ودولها وشعوبها كافة، وبغير ذلك نكون قد أضعنا فرصة قائمة ومستقبلاً ذا آفاق واعدة لنا وللأجيال العربية القادمة.


عدد القراء: 4373

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-