مفهوم الحقيقة تبعًا لنظرية المطابقةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2019-10-03 13:45:17

شايع الوقيان

باحث في الفلسفة - الرياض

تعد نظرية المطابقة correspondence theory أبرز النظريات الفلسفية والمنطقية التي تحاول استخلاص معنى الصحة والخطأ في التصورات والأحكام. وقبل أن نشرع في عرض هذه النظرية، أود أن أعيد ترجمة مصطلحي (truth) و(falsity). فقد استقر لدى أغلب المترجمين العرب على ترجمتهما كالتالي: صدق وكذب. فيقال إن الحكم (س) صادق، والحكم (ص) كاذب، وكان فلاسفة العرب القدماء يستعملون هاتين الكلمتين أيضًا. وهذا برأيي استعمال مربك؛ لأن الصدق والكذب مقولتان من مقولات الاعتقاد. فقولي يكون صادقًا إذا عبرت فيه عن اعتقادي بشكل مطابق. ويكون كاذبًا إذا عبرت عنه بشكل مخالف. فإذا كنتُ أعتقد أن السماء تمطر وقلتُ (إنها تمطر) فقولي صادق، وإذا قلت (إنها لا تمطر) رغم اعتقادي أنها تمطر فقولي كاذب. أما إذا كانت السماء حقًا تمطر فقولي الصادق سيكون في الوقت عينه صائبًا (أو حقيقيًا)، وإذا كانت السماء لا تمطر حقًا ولكني اعتقدتُ خطأ أنها تمطر فإن قولي (إنها تمطر) صادق (تبعًا للنية أو الإرادة) ولكنه في الوقت عينه خاطئ. وهكذا تتوفر لدينا القائمة التالية تبعا للسيناريو الواقعي: 

السيناريو الأول: السماء فعليًا تمطر، وأنا أعرف أنها تمطر: 

إذا قلتُ (السماء تمطر) فقولي هنا صادق (لأن قولي مطابق لاعتقادي) وحقيقي أو صائب (لأن قولي مطابق للواقع). 

إذا قلتُ (السماء لا تمطر) فقولي كاذب (لأن قولي غير مطابق لاعتقادي) وخاطئ (لأن قولي غير مطابق للواقع). 

السيناريو الثاني: السماء فعليًا تمطر، ولكني اعتقدت خطأ أنها لا تمطر. 

إذا قلت (السماء لا تمطر) فقولي صادق (لأنه مطابق لاعتقادي) وخاطئ (لأنه مخالف للواقع). 

إذا قلت (السماء تمطر) فقولي كاذب (لأنه مخالف لاعتقادي) وصائب (لأنه مطابق للواقع). 

وعليه فالصدق هو مطابقة القول للاعتقاد، والكذب هو مخالفة القول للاعتقاد. وهذا يحيلنا مباشرة إلى موضوعنا الرئيسي، وهو نظرية الصواب (الحقيقة). 

نظرية المطابقة تنص على أن القول يكون صائبًا إذا تطابق مع الواقع (وليس مع الاعتقاد) ويكون خاطئًا إذا لم يتطابق مع الواقع. فعندما نقول (الكرسي أحمر) فإن قولنا يصحّ إذا كان الكرسي في الواقع أحمر، وإذا لم يكن أحمر فقولنا خاطئ. والأصل التاريخي لهذه النظرية يعود لأرسطو كما يرى أغلب المؤرخين والفلاسفة. بل إن هناك من يرى أن أرسطو قد أخذها من أفلاطون، في محاورة (السوفسطائي). ولكن - كما سنعرف- فالموضوع ملتبس؛ لأن أرسطو طرح أكثر من نظرية فيما يتعلق بالصواب والخطأ.  

سوف نعالج الموضوع من خلال عرضه تاريخيًا أولاً، وسنبدأ بعرضها عند أرسطو، والفكر الإغريقي عامة، ثم نمر على النظريات القروسطية سواء الإسلامية-العربية كما تتجلى عند الكندي وإخوان الصفا والفارابي وابن سينا، ثم الفكر المسيحي كما يبرز جليًا عند القديس توما الأكويني (توماس أكويناس) الذي صاغ العبارة الشهيرة (الحقيقة هي توافق الفكر والشيء) والتي صارت التعبير الكلاسيكي عن نظرية المطابقة. بعد ذلك سوف نتطرق للصياغات الحديثة والمعاصرة للنظرية.

أولاً: نظرية المطابقة في الفكر القديم: 

يقول أرسطو في الكتاب الرابع من (الميتافيزيقا) "أنت عندما تقول عما هو موجود إنه غير موجود، أو عما هو غير موجود إنه موجود، فذلك كذب؛ في حين أنك عندما تقول عما هو موجود إنه موجود، وعما هو غير موجود إنه غير موجود، فذلك صدق" (أرسطو، الميتافيزيقا، ص342). طبعًا يجب ألا ننسى أن الصدق والكذب هنا بمعنى الصواب والخطأ كما شرحنا ذلك أعلاه. لكننا نلاحظ في هذه العبارة أن أرسطو لم يستعمل كلمة (مطابقة) أو (موافقة). فهذه الكلمة كما أشرنا ظهرت مع الصياغة التوماوية (نسبة لتوما الأكويني). وتوما الأكويني نفسه يعزو العبارة لابن سينا وهو بدوره أخذها من إسحاق الإسرائيلي في كتابه التعريفات (اسمه العربي: الحدود والرسوم) (ذكر ذلك هايدجر، ص 257). وسوف نعود لابن سينا وإسحاق في القسم المتعلق بالفكر الإسلامي-العربي. 

عبارة أرسطو أعلاه تقول ببساطة أنك عندما تقول إن (س) موجود فإن قولك يكون صوابًا إذا كان (س) فعلاً موجود. وواضح هنا أن "القول" أو الحكم يصح إذا كان الشيء الذي يحكم عليه يطابق الحالة الوجودية (الواقعية) التي يكون عليها ذلك الشيء. أو بتعبير آخر: يصح الحكم إذا كان الشيء المقول في العبارة يطابق الشيء كما هو في الواقع، ويخطئ إذا كان الشيء في العبارة لا يطابق الشيء في الواقع. وتبعًا لهايدجر فإن أرسطو لم يكن يريد بهذا التعريف أن يكون تعريفًا لماهية الحقيقة (الصحة) (هايدجر، نفسه، ص 257). وسوف يقدم هايدجر تأويلاً أنطولوجيًا لمفهوم الحقيقة عند أرسطو بحيث يكون منسجمًا مع فلسفته. لندع تأويل هايدجر لأرسطو ولنكمل؛  يرى برنتانو في كتابه (الحقيقي والبديهي) إن أرسطو حقًا يؤمن بأن الحكم يكون صائبًا أو خاطئًا إذا ما طابق أو خالف الواقع (برنتانو، ص3). وهذا هو التعريف الأرسطوي كما يرى أغلب الفلاسفة. وقد شاع أيضًا عند الفلاسفة أن أرسطو يرى أن مكان الصواب هو الحكم، وأن الصائب والخاطئ هما التوكيد والإنكار (برنتانو مثلاً، معاني الوجود، ص 15، والحقيقي والبديهي، ص 4). ويشير هايدجر إلى أن هذا هو الرأي المعتبر لدى الفلاسفة؛ فأرسطو -كما يرون- يجعل من التوكيد أو الحكم مقرَّ الحقيقة (هايدجر، نفسه، ص 257). لكن هايدجر نفسه يشكّ في هذا التفسير لأنه يرى أن أرسطو وإن قال بشيء مثل هذا إلا أنه لم يكن يدافع عن الفكرة التي تنص على كون الحكم هو مقر الحقيقة (أو المقر الوحيد لها) (نفسه، ص 268). لكن هل هناك غير الحكم ليكون مقرًا للحقيقة؟! طبعًا نعم. فبعض التأويلات ترى أن أرسطو يجعل الوجود ذاته مكانا للحقيقة؛ إنه في الأشياء ذاتها، فنقول مثلاً: ذهب حقيقي وصديق حقيقي. بل إن أرسطو يجعل التصورات إما صائبة أو خاطئة وكذلك الخيال والإحساس. ويقول أرسطو إن الحكم يكون صائبًا إذا كان يجمع ما هو مجموع ويفصل ما هو مفصول (برنتانو، معاني الوجود، ص 16)؛ ويريد بذلك أن الحكم الصائب هو جمع بين تصورات، أي بين محمول وموضوع. فقولنا (الكرسي أحمر) يكون صائبًا لأنه يجمع بين تصوريْ الكرسي والاحمرار وكانا فعلاً كذلك في الواقع. ولكن برنتانو يلاحظ تناقضًا. فأرسطو يقول في الكتاب الخامس من الميتافيزيقا إن "الصواب والخطأ لا يوجدان في الأشياء"(نقلاً عن برنتانو، نفسه، ص 16). فكيف إذن يتسنى لنا رفع هذا التناقض الواضح؟ 

يعتقد برنتانو أن مفهوم (صائب) و(خاطئ) لها معان متباينة عند أرسطو وأن جلاء هذه المعاني سيؤدي لرفع التناقض. وهذه المعاني كالتالي: 

أ) الصائب والخاطئ هما تطابق أو عدم تطابق الحكم مع الأشياء، وهذا هو المعنى الأصلي. 

ب) الصواب والخطأ في الإدراكات والتعريفات، وهما على معنيين: الأول أن يكون الفكر أو التمثيل صوابًا إذا أحال إلى شيء موجود ويكون خطأ إذا لم يكن ثمة شيء يتطابق معه الفكر. والثاني أن ينطبق الحكم الصائب على ما يراد الحكم عليه ويكون خطأ عندما يكون الإدراك أو التعريف منطبقًا على شيء ليس هو المراد تعريفه، مثلاً عندما نعطي تعريفًا للمثلث ينطبق على المربع. كما أن تعريف المثلث يعد صائبًا إذا انطبق على المثلث وخاطئًا فيما يتعلق بالمربع. وبالتالي فالحكم هنا قد يكون صائبًا أو خاطئًا تبعا للمعرَّف. 

ج) الصواب والخطأ في الأشياء، فالشيء يكون حقيقيًا (صائبًا) إذا كان هو هو. كأن نقول (ذهب حقيقي). والذهب المزيف يكون خاطئًا إن كان غير حقيقي تبعًا لما في عقول الناس عن معناه أو إذا كان وزنه الذري ليس 79.

د) أخيرًا الصواب والخطأ فيما يتعلق بالإنسان، مثل الإنسان الكاذب والإنسان الصادق، وبرنتانو يخلط هنا بين الصدق والكذب من جهة، والصواب والخطأ من جهة أخرى (راجع معاني الوجود 20-22). 

لكن برنتانو في موضع آخر يقرر تنوع وتناين تعريفات أرسطو للحقيقي ثم يردف قائلاً إنها تعود كلها للتعريف الأصلي (الحقيقي بوصفه صفة للحكم) كمعيار لها (الحقيقي والبديهي، ص 4). وهكذا يكون الحكم صائبًا أو خاطئًا إذا كان يطابق أو لا يطابق الأشياء. وهكذا، فالتطابق يتمّ بين الحكم والشيء، أو بين العبارة والعالم الخارجي (الواقع) وهذه هي الصيغة الأكثر شهرة بين الفلاسفة. 

ثانيًا: نظرية المطابقة في الفكر الوسيط: 

يشير هايدجر إلى أن توما الأكويني هو أول من صاغ العبارة الكلاسيكية (الحقيقة توافق بين الفكر والشيء) وأن أرسطو لم ينص عليها بهذه الصيغة. ولكنه يشير أيضًا إلى أن توما يعزو الصياغة لابن سينا وقبله إسحاق (= بن سليمان الإسرائيلي). والغرض الذي كان يريده هايدجر هو تحرير أرسطو من التأويل القروسطي والكشف عن الأصل الأنطولوجي الذي كان يشغل أرسطو والذي ضاع بانتشار هذه العبارة. فمن إسحاق هذا؟

كتاب التعريفات لإسحاق ليس سوى (الحدود والرسوم) الذي ذكره ابن سينا في القانون (القانون، ص1313). ولم أجد له ذكرًا عن ابن أبي أصيبعة أو ابن خلكان أو حتى عند متأخرين مثل حاجي خليفة. ولكنهم ذكروا كتبًا أخرى له في الطب والحكمة. ويعتقد الأستاذ ستيرن أن صاحب كتاب التعريفات هذا قد تأثر بالفيلسوف الكندي (رسائل الكندي، ص111) (والكندي له رسالة بعنوان: في حدود الأشياء ورسومها).

إسحاق بن سليمان الإسرائيلي هو فيلسوف وطبيب قيرواني (تونسي) مات سنة 320 هـ. وقد نبغ في الطب تحديدًا وله في ذلك تصانيف كثيرة تابع فيها أبقراط وجالينوس. فإذا كان ابن سينا أخذ منه التعريف الكلاسيكي لنظرية المطابقة، فماذا قال ابن سينا؟  

ابن سينا في بعض كتبه يشير فعلاً إلى نظرية المطابقة بالمعنى الكلاسيكي. والكتاب الذي ذكره توما الأكويني هو - ربما - "الإلهيات". ففي هذا النص يقول ابن سينا "أما الحق فيفهم منه الوجود في العيان مطلقًا؛ ويفهم منه الوجود الدائم؛ ويفهم منه حال القول أو العقد الذي يدل على حال الشيء في الخارج إذا كان مطابقًا له. فنقول (هذا قول حق) و (هذا اعتقاد حق" (الإلهيات ص 17)، و"أما الحق من قبل المطابقة فهو كالصادق" (نفس المصدر). 

وواضح من هذا النص أن القول الصادق (الحقيقي) هو ما يكون مطابقًا لما يكون عليه الأمر في الخارج. ويقول في منطق المشرقيين إن القضايا أو الأقوال الجازمة هي ما تفيد الصدق والكذب. وفحوى القول "لا تجده إلا والأمر مطابق للمتصور منه معناه في النفس فتجد هناك تصورًا مطابقا له الوجود في نفسه "…"وإنما يصير مبدأ للتصديق في أمثال هذه المركبات (= يقصد القضايا الخبرية) إذا كان اعتقد مع التصور هذه المطابقةَ" (منطق المشرقيين، ص 60).  

وقد أشار ابن سينا لمفهوم المطابقة عندما تحدث عن الفرق بين التعريف والتمثيل. فالتعريف يتأتى بالتصور (بإدراك ماهية الشيء) والتمثيل يتحصل بالأمثلة أو الماصدقات التي ينطبق عليها التصور. ثم يقول إن "التمثيل قد يكون نافعًا - ليس في تصور المعنى- بل في تسهيل سبيل تصوره وفي أن للمعنى من الوجود ما يطابقه"(نفسه، ص 31). وهو هنا يذكرنا بالتقسيم الذي وضعه فريجه بين المعنى والإحالة. ومن المقرر أن الإحالة هي مناط نظرية المطابقة.  

لكن ابن سينا أخذ تعريف نظرية المطابقة من سلفه. ولكن من هم سلفه هؤلاء؟! يقول هايدجر: إن "توما الأكويني، الذي يعزو التعريف هذا لابن سينا، الذي أخذه بدوره من إسحاق الإسرائيلي في كتابه التعريفات، يستعمل لعبارة موافقة كلمتي مطابقة وملائمة"(هايدجر، ص 257). توما الأكويني في (الخلاصة اللاهوتية) يعود لتعريف ابن سينا فعلاً، ثم يذكر لاحقًا صياغة إسحاق، ولكنه لم يذكر تأثر ابن سينا بإسحاق. وابن سينا في كتبه لا يشير كثيرًا لإسحاق هذا. وقد اشار إليه في (القانون في الطب) إشارة واحدة معرفًا به كفيلسوف وطبيب وساردا لكتبه ومن ضمنها كتاب "الحدود والرسوم". 

وعلى كل حال، فإنه يبدو لي أن نظرية المطابقة مألوفة في الفكر الفلسفي العربي-الإسلامي-اليهودي. ونلتمس لدى الكندي إرهاصات لها. يقول في رسالة (حدود الأشياء ورسومها) "الصدق هو القول الموجب ما هو، والسالب ما ليس هو؛ وهو أيضًا إما إثبات شيء ليس هو، وإما نفي شيء عن شيء هو له" (رسائل الكندي، ص117). في الهامش يرى المحقق أن ثمة خطأ ولعل الصواب: "إما إثبات شيء لشيء هو له أو نفي شيء عن شيء ليس هو له". وهذا شبيه بعبارة أرسطو أعلاه. ثم لا يشير الكندي صراحة لفكرة المطابقة.  

وقبل الكندي فإن لإخوان الصفا قولاً في هذا الموضوع. فهم يقسمون الأخبار إلى أربعة: خبر واستخبار وأمر ونهي. والخبر هو فقط ما يصدق ويكذب (الرسائل، الكتاب الثالث، ص 120). ويقولون عن الخبر "إنه قول جاز تصديق قائله فيه أو تكذيبه لغيبته عن العيان ومضيه عن الزمان" (نفسه، 109). وهذا يعني أن الخبر - ويسميه الفارابي بالقول الجازم، ويسميه ابن سينا بالقول الجازم أو بالقضية - متعلق بالقول فقط وبالتالي فالحقيقة (الصدق) لا تقع في الأشياء. فالخبر قول ينشأ بعد أن يغيب الشيء المخبر عنه عن العيان، فلو كان الشيء حاضرًا للعيان لما كان ثمة مسوغ للحكم عليه وكذا بعد غيابه عن الزمان. فالصدق والكذب هنا مرتبطان بغياب الشيء في المكان والزمان. والإلحاح على "الغياب" أمر مهم، لأن الغياب صفة للكلام (والأحكام) بينما الأشياء ذاتها كحضور مباشر ستكون صادقة دومًا.  

الفارابي قد يكون همزة الوصل بين الإخوان وابن سينا في صياغة نظرية المطابقة. ففي كتاب الحروف يؤكد الفارابي أن "الصادق والموجود مترادفان" (الحروف، ص 116). وهذه المرادفة ليست سوى الموافقة أو المطابقة. وبشكل أكثر وضوحًا يقول: "الصادق هو أن يكون المتصوَّر هو بعينه خارج النفس كما تُصوِّر" (الحروف، 117). والفارابي يرى أن الصدق والكذب (= أو الصائب والخاطئ) يتعلقان بالتصورات وليس بالأشياء. يقول "الذي له ماهية خارج النفس لا يقال له صادق ما لم يُتَصور" (نفسه، ص 122).  

من الواضح بعد هذا العرض السريع أن نظرية المطابقة بين ما في الأذهان لما في الأعيان كانت مألوفة في الفكر العربي-الإسلامي القديم. وقد يكون لإسحاق فعلاً أثرٌ على ابن سينا ولكننا لا نلمس شيئًا من هذا لا في كتب ابن سينا نفسه ولا في المدونات التراثية ككتب ابن أبي أصيبعة والقفطي وابن النديم وابن خلكان وغيرهم. وجدير بالذكر أن هذا يصدق على تأثير الكندي في إسحاق. ولكننا لا نجزم بذلك مادمنا لم نقع بعدُ على كتاب إسحاق هذا. 

يعد توما الأكويني أبرز فلاسفة الغرب المسيحي في القرون الوسطى والعبارة التي تنص على أن الحقيقة هي تطابق الفكر والشيء تنسب إليه باستمرار أو يتم اقتباسها كما وردت في الخلاصة اللاهوتية. فماذا يقول توما بالضبط؟ 

في مبحث الحق، يذكر توما أن القديس أغسطين يقرر أن الحقيقة لا تقع في العقل بل في الأشياء أو في العالم الخارجي. وهو هنا يوافق أرسطو (أو بعضًا من أقواله التي تشي بتناقض مع أقوال أخرى له) في قوله في كتاب المقولات "إنه بناء على كون الشيء أو لا كونه تكون أفكارنا صادقة أو كاذبة"، وعليه فما هو حقيقي فإنه يقع في الخارج. لكن توما يشير إلى عبارة لأرسطو نفسه تتناقض مع هذه العبارة. ففي الكتاب الخامس من الميتافيزيقا يقول أرسطو "إن الصدق والكذب يقعان في العقل لا في الأشياء"(أشار لها برنتانو أعلاه). وسوف يحاول توما التوفيق بين التعارضات كما سيفعل ذلك برنتانو في العصر الحديث. والتوفيق يتم من خلال توكيده على فكرة الماهية؛ فللأشياء ماهية، وهي تعد حقيقية لأنَّ بها نسبة ما إلى العقل. وهكذا فالأشياء الصناعية تكون "حقيقية" إذا كانت تشابه الصورة الذهنية لها في عقل الصانع (ماهيتها في عقل الصانع). فنقول إن البيت حقيقي إذا ما شابه الصورة الماهوية له (وليس الصورة العرضية) التي في ذهن المهندس. والأشياء الطبيعية حقيقية بالمثل إذا شابهت ماهيتها في ذهن الخالق. من هنا يؤكد توما على أن الحقيقة تقطن أوليًا في العقل وثانويًا في الأشياء (توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية، ص 220).

ثالثًا: نظرية المطابقة في الفكر الحديث:

أما الفلاسفة المحدثون فيتبنون الصياغة التوماوية، ويرى برنتانو أن الثورة الديكارتية تركت التعريف الأرسطي للحقيقة سليمًا (برنتانو، الحقيقي والبديهي، ص6). ويمكن اعتبار نظريات محدثة كالتحقق والتكذيب ونظرية-الصورة تنويعات على نظرية المطابقة، كما يشير أوسكار كراوس (نفسه، مقدمة المترجم، ص99).

الصيغة الأحدث لنظرية المطابقة هي صيغة ألفرد تارسكي ("ق" صادقة إذا وإذا فقط كانت ق). وكان برتراند راسل تقريبًا قد أعطى هذه النظرية قوتها الفلسفية في العصر الحديث. ويذكر هايدجر أن الكانطية المحدثة ترفض نظرية المطابقة وترى أن هذا التعريف الواقعي ساذج ومتخلف منهجياً (هايدجر، ص 258).

في الفكر الفلسفي المعاصر، ظهرت نظريات منافسة لنظرية المطابقة مثل نظرية التماسك (Coherence Theory) والتي ترى أن العبارة تكون صحيحة إذا كانت منسجمة مع النسق الفكري الذي وردت فيه، والنظرية البراجماتية التي تربط بين صحة العبارة وما يترتب عليها من فوائد عملية، وغيرها من نظريات. لكن تظل نظرية المطابقة هي الأقرب إلى الحس السليم.

 

المراجع:

1. ابن سينا. (1405 هـ) منطق المشرقيين (إيران، قم: مطبعة الولاية).

2. ابن سينا. (الإلهيات)- موقع الوراق الإلكتروني.

3. ابن سينا. (القانون) – موقع الوراق الإلكتروني.

4. إخوان الصفا. (بدون تاريخ) رسائل إخوان الصفا، المجلد الثالث (بيروت: دار صادر).

5. أرسطو “الميتافيزيقا” ضمن: إمام، عبد الفتاح إمام. (2010) مدخل إلى الميتافيزيقا، مع ترجمة كتاب أرسطو (الميتافيزيقا) (القاهرة: مكتبة نهضة مصر).

6. توما الأكويني. (1881) الخلاصة اللاهوتية، ترجمة بولس عواد (بيروت: المطبعة الأدبية).

7. الفارابي. (1990) كتاب الحروف، تحقيق وتقديم وتعليق: محسن مهدي (بيروت: دار المشرق).

8. الكندي. (بدون تاريخ) رسائل الكندي الفلسفية، القسم الأول، تحقيق وتقديم وتعليق: محمد عبد الهادي أبوريده (القاهرة: مطعبة حسان).

9. Heidegger, Martin. (1962) Being and Time, tr. John Macquarrie & Edward Robinson (New York/Evanston: Harper & Row Publishers)

10. Brentano, Franz. (2009) The True and The Evident, tr. R. Chisholm and Others (London/New York: Rutledge)

11.Brentano, Franz. (1975) On the Several Senses of Being in Aristotle, tr. Rolf George (USA & UK: Univeristy of Califronia Press).


عدد القراء: 8613

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-