التخييل النظري (La fiction théorique): نحو أفق جديد للنقد الأدبي العربي تجربة كيليطو نموذجًاالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2019-10-03 19:10:39

د. ميلود عرنيبة

دكتوراه في النقد الأدبي - كلية الآداب - مراكش، المغرب

توطئة     

 لماذا يُقبل القرّاء، بشكل عام، على قراءة الأعمال الإبداعية ويعزفون عن قراءة النقد؟ فهل يعيش النقد أزمة في عصرنا؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب فما السبب في ذلك؟ فهل يعود إلى كون دائرة الأدب أكثر اتساعًا وبإمكان الجميع قراءته، أو على الأقل قراءة أغلب أجناسه، والنقد خطاب خاص يتوجه إلى متلق من نوع محدد ينبغي أن تتوفر فيه شروط خاصة، وبالتالي تكون  دائرة المتهتمين به أضيق؟ أم أن الأمر يرجع إلى سمة الشعرية وقيم الجمال والتخييل التي تتمتع بها لغة الأدب وتفتقدها لغة النقد التي تنحو نحو العلمية والموضوعية، أو على الأقل تزعم أن تكون كذلك؟ أم يعزى إلى سهولة لغة الأدب وعذوبتها في مقابل تركّب لغة النقد وتعقدها؟

إن النقاد المحدثين يعون جيدًا بوادر هذه الأزمة التي تلوح في الأفق وتهدد تجارة النقد بالبوار، لذلك فإنهم ما فتئوا يجتهدون في ابتكار المناهج  والمقاربات النظرية، ويعملون جاهدين على تجديد آليات اشتغالهم النقدي وتطويرها. ومن هذا المنطلق نقول بأن "التجريب" الذي تقوم عليه حركة التجديد الإبداعي ليس مقصورًا على الأدب وحده،؛ بل إنه أضحى سمة مائزة في مجال النقد أيضًا، لا سيما في ظل بروز أصوات نقدية حديثة تدعو، من جهة، إلى التحرر من سلطة المناهج النقدية وصرامتها التي تحاصر الناقد بمجموعة من المبادئ والمفاهيم.. ومن جهة أخرى، تدعو إلى ضرورة تسليم الريادة للنص ومنحه الحق في اقتراح مداخل قراءته وزوايا مقاربته بشكل يدعو النقد بأن ينفتح على احتمالات جديدة ويتخلص من معياريته المبالغة.

وقد ظهرت في السنوات الأخيرة حركة نقدية جديدة تسعى إلى محاولة ردم الهوة بين خطاب الأدب وخطاب النقد، جاعلة من عنصر التخييل عنصرًا مشتركًا بين الاثنين؛ أي بين الإبداع والنقد، عبر توريط الذات القارئة/الناقدة في عوالم النص الأدبي التخييلية. وهذه الحركة الجديدة هي ما بات يعرف اليوم بالتخييل النظري La fiction théorique، وهو شكل جديد لا هو بالنقدي الخالص ولا بالتخييلي المحض، ولكنه شكل يجمع بين الاثنين؛ بين التخييل والنقد، وبين الفكر والأدب. وهو اتجاه الغاية منه هي محاولة إخراج الدراسات الأدبية والنقدية من صرامتها العلمية والنحو بها صوب الإبداعية، لأن هناك من الباحثين من رأى هذه الدراسات على وشك أن تموت من جديتها، واعتبر "أنه من الملحّ أن تخطو خارج سلبية التعليق لترتبط بإشارات نقدية أكثر حيوية، أي إبداعية" 1.

1 - أصول التخييل النظري في الغرب

يمكن القول بأن الروائي الفرنسي الشهير مارسيل بروست هو الذي دشن هذا المنحى في الكتابة الروائية في البحث عن الزمن الضائع الذي شكل محطة لاحتضان العديد من الخطابات وعلى رأسها نقد الفن. فقد بين لوك فريس Luc Fraisse في دراسته عن هذا العمل التي عنونها بـ"بروست روائي وناقد فن"، "كيف أن الكاتب الذي لم يمارس نقد الفن، بالمعنى الصريح، عالجه خلسة في "البحث" مشكلاً إياه كرواية معلومات فنية"2.

وقد أثار كتاب بروست هذا إشكالاً لدى الباحث فانسون فيري الذي وجّه عنايته في أحد بحوثه إلى المقاطع النظرية الموجودة في البحث، فطرح بخصوصها وبخصوص الكتاب مجموعة من الأسئلة يتعلق أهمها بمدى إمكانية استنتاج نوع جديد في البحث3.

لقد ظهر هذا المنحى في الكتابة منذ ما عرف بما بعد الحداثة Postmoderne، وكان يسعى إلى إلغاء المسافة الفاصلة بين الأنواع، وقد ذهب أندري لامونتين André Lamontagne إلى أن هذه التطبيقات النقدية التي تتموضع فيما بعد البنيوية تقوم على "تخريب الأنواع، والانعكاس، وبناء ميكانيزمات القراءة، ومعارضة الأشكال غير المصنفة، وفي المقام الأول الاختفاء التدريجي للحدود الفاصلة بين الذات والموضوع في النص"4.

وإذا كان عمل بروست الذي خلخل بعض المعتقدات النقدية، وأثار في قرائه "نوعًا من الشك والارتياب في "البحث عن الزمن الضائع"5، وسبّب للقارئ حيرة كبيرة- على حد تعبير أنطوان كمبانيون- إذ يجد نفسه متموقعًا في مجال الرواية والنقد بين الأدب والفلسفة"6، قد دشن هذا الاتجاه. فإن الفضل في تبلوره واستوائه يرجع إلى الناقد النفساني الفرنسي بيار بيار في مجموعة من كتاباته أهمها: من من قتل روجير أكرويد؟؛ إذ حلل رواية أغاثا كريستي المعنونة بـ "مقتل روجير أكرويد"، في كتابة شبه إبداعية  تجمع بين التخييل والتنظير، بعيدة عن اللغة النقدية الصارمة، وكأنه أعاد كتابة الرواية، لأنه انطلق من تشكيك في حقيقة القاتل التي توصل إليها المحقق هركيولبوارو ومعه الكاتبة، ليصل عبر إعادة التحقيق إلى أن القاتل الحقيقي هو كارولين شبارد، أخت الدكتور شبارد الذي اتهمه المحقق.

هكذا تبدو هذه الدراسة كرواية ثانية تقوم على إعادة كتابة الرواية الأولى لأجاثا كريستي، بأسلوب فيه نوع من السخرية اللاذعة، يجمع بين العلم والتخييل، و"يجمع بين الجد واللعب"7 ، وإلى بيار بيار يرجع الفضل في تسميته هذا الاتجاه النقدي الحديث؛ إذ أطلق عليه مفهوم التخييل النظري La fiction théorique 8.

2 - عبد الفتاح كيليطو من نقد التخييل (ألف ليلة وليلة) إلى تخييل النقد (حكاية النقد)

لا يقيم نص أنبئوني بالرؤيا9  لكيليطو  وزنًا للتجنيس، ولا يخضع لضوابطه التي ما فتئ النقاد يحاولون أن يسيجوا بها الظاهرة الأدبية، فهو نص يخالف جل القواعد الفنية التي ألفها القارئ في جنس الرواية، ويخيب أفق انتظاره القائم على افتراض قالب فني يتميز ببداية ونهاية، ويحتوي شخوصًا وأمكنة وأزمنة وأحداثًا تتعاقب. كما يخيب أفق انتظاره بخصوص الكتابة النقدية الخالصة أيضًا. فالقارئ يتناول أنبئوني بالرؤيا في نسخته المترجمة إلى العربية، يقرأ على غلافها لفظة "رواية" فيقتحم عالم النص مسلحًا بالافتراض السالف، لكنه يفاجأ بشيء مختلف تمامًا، يكسر أفق انتظاره؛ سواء على مستوى معمارية النص وبنائه، أم على مستوى مضامينه وأساليبه، أم على مستوى لغته وشكله. ويشهد لذلك أن هذا الكتاب صاحبته أشكال من سوء التفاهم بدءًا من التشكك في تحديد نوعه، إلى الخلط في لغته الأصل، إلى الخطأ في اسم المترجم، وقد سبب ذلك قلقا لكيليطو، إلا أن هذا القلق قد زال وتحول إلى مزية بعدما طمأنه ألان غروريشار بأن هذه المحن إنما تعكس بنية الكتاب، "حيث لا يقر قرار لا لهوية الشخوص، ولا لهوية الساردين ولا المؤلفين"10.

فهل أنبئوني بالرؤيا رواية؟ أم سيرة تخييلية؟ أم هي مقالة نقدية محضة؟ أم هي مركب من كل هذا وذاك؛ أي من "تأملات علمية ونقدية مع سرد روائي"11، كما زعمت مارينا وارنر؟

حكاية نور الدين والحصان: تداخل التحقيق العلمي بالتخييل السردي

في الفصل الأول حديث بالكامل عن علاقة السارد بالكتب والقراءة وشغف البحث، وهو ما قاده في الولايات المتحدة إلى العثور على نسخة بيرتون من الليالي التي كان يحلم بقراءتها، ويعتبر أنها لا يقرأها إلا الذين هم من طينة خاصة، عثر عليها عند كتبي باعها  له زوجان بعدما همّا بتغيير بيتهما. وهو يتصفح أحد مجلداتها وجد مخطوطًا عربيًا قديمًا أنيق الخط، عنوانه "حكاية نور الدين والحصان"12، وأثارته في هامشها ملحوظة بالإنجليزية تقول: "حكاية من الليالي العربية لم يسبق نشرها"، فاعتبر ذلك اكتشافًا استثنائيًا.

حيّرت هذه الحكاية السارد/كيليطو، إذ لم يسبق له أن وجدها في أي مطبوع آخر، ولا قرأ إشارة أي باحث إليها، وهو العالم بأسرار هذا الكتاب والمتخصص فيه، فكان السؤال المنهجي الذي طرحه، باعتباره باحثًا، يتعلق بتحقيق نسبة هذه الحكاية إلى الليالي، فاختار الاعتماد على المنهج البنيوي وتحليل الحكاية من الداخل ما دام لا يملك من القرائن غير الملحوظة المدونة.

فانطلق من مجموعة أسئلة: لمن يتوجه بالخطاب؟ لمن يشير إلى الحكاية وكونها لم يسبق نشرها؟ لنفسه؟ لشخص يعرفه؟ لمخاطب دون معالم محددة؟13. ثم شرع في التقصي إلى أن خلص في خاتمة هذا التحقيق إلى أن النص، إذا استثني منه اسم البطل والعبارة الافتتاحية، لا يتضمن شيئًا يحيل على عالم الليالي، مما لا يشهد لصالح صحة نسبة النص إليها.

فعن طريق السرد يقدم كيليطو/السارد هنا وقائع بحث علمي يندرج ضمن علم له علاقة وثيقة بالتراث العربي القديم، وهو علم التحقيق، ويقص علينا تفاصيل إنجاز هذا التحقيق بخصوص نسبة حكاية "نور الدين والحصان" إلى الليالي بأسلوب سردي شيق جعلنا نعيش نوعًا من التداخل في الإحساس والإدراك، فلم ندر أكنا نستقصي خطوات بحث تحقيقي ينطلق من الافتراضات والأسئلة ويحلل المعطيات ويخلص إلى النتائج، باعتماد البنية الداخلية للنص مادامت القرائن الأخرى غائبة، أم كنا نستمتع بقراءة حكاية إبداعية شيقة شبيهة في أسلوبها بالحكايات الليلية.

التخييل النظري، نحو إنجاز أطروحة ورواية في الآن نفسه

يسرد كيليطو/السارد في الفصل الثاني حكاية إشراف أستاذ على بحث لأحد طلبته اسمه إسماعيل كملو، وهذا البحث هو دراسة عن الليالي تحت عنوان "الجنون الثاني لشهريار" تتناول خاتمة الليالي، ولأن هذا الموضوع سبق إلى الكتابة فيه هينز كروتزفلد بموضوع عنونه بـ"الخواتيم المهملة لليالي العربية"14، اتفق الأستاذ مع الطالب أن يلحق بالعنوان الذي اختاره عنوانا فرعيا هو "خاتمة لليالي لم يسبق نشرها".

كان الأستاذ يرى بأن عمل كملو سيكون من نوع خاص، لأنه سيكون مزدوجًا، تمامًا كما يكتب كيليطو في كتابه هذا، وستكون المرة الأولى في تاريخ الجامعة "التي يقدم فيها تخييل بمثابة أطروحة، ويعتبر أطروحة"15، بل إن الطالب كملو سيضرب عصفورين بحجر واحد، إذ سينجز "أطروحة ورواية دفعة واحدة"16، وهذا الأمر كان يخيف الأستاذ المشرف كثيرًا، لأنه كان يخشى أن تكتشف فيما بعد حقيقة هذا الزيغ عن المعتاد في البحث الجامعي، وحينها ستنصب عليه التهم.

شكلت حادثة مناقشة الأطروحة فرصة للسارد لتعرية واقع الجامعة وما يعتريه من تقصير واستهانة بالبحث العلمي من قبيل عدم اطلاع الأساتذة المناقشين على البحث إلا عند عشية ليلة المناقشة، ومحاولة التغطية عن هذا الكسل بملاحظات جاهزة تقوّل الطالب ما لم يقله في بحثه، فوصف تقارير المناقشين بأنها "كانت هذيانا خالصا"17.

بعد أن استعرض كملو/الباحث كل النهايات التي كُتبت لليالي ذيّل ذلك بملحوظة حاسمة، وهي "إذا كان يوجد هذا العدد من الخواتيم، فذلك لأن الخاتمة الحقيقية قد ضاعت أو طمست"18، وأنه في بحثه سيسعى إلى إعادة تركيبها.

يتناول القسم الأول في البحث الكتّاب الذين تخيلوا نهايات مخالفة للنهاية التقليدية، لكنه يصفهم بالقتلة لأنهم فعلوا ما لم يفعله شهريار نفسه، إذ جعلوا شهرزاد تقتل، ومنهم إدكار آلن بو وثيوفيل كوتيي، ووصفهم بأنهم كانوا أكثر دموية وقسوة من شهريار نفسه.

وفي الفصل الثاني تناول كملو حكاية لهارون الرشيد الذي أخذ كتابًا ليقرأه بعدما قام ذات يوم منقبض الصدر، فلما فتحه ونظر فيه شرع يضحك فجأة حتى استلقى على قفاه، ثم تناوله ثانية وواصل القراءة فطفق يبكي حتى اخضلت لحيته، ولما سأله وزيره جعفر عن علة ضحكه وبكائه في الآن نفسه اعتبر ذلك قلة أدب منه، فطلب منه مهمة في غاية الغرابة، وهي أن يحضر له من يخبره عن سبب ضحكه وبكائه ويطلعه على ما في الكتاب من دفته إلى دفته وإلا قطع رأسه. هذا المشهد يجد له كملو ما يماثله؛ لكن ليس في الأدب، ولكن في التوراة، وهو قصة الملك نبوخذ نصر الذي اختبر الكهان حيث أمرهم بتأويل حلمه، بل كشف محتواه، فقال لهم: "قلت ولا مرد لقولي: إن لم تعلموني الحلم وتفسيره أقطعكم قطعًا وأجعل بيوتكم مزابل"19.

وفي القسم الثالث وهو الأهم بالنسبة للطالب، خالف معظم الدارسين ولامهم على تجاهلهم لبعض الشخصيات في النهاية وحصْر عنايتهم في شهرزاد، ويقصد بالشخصيات المنسية الكتّاب الذين أمرهم شهريار بكتابة ما حدث له مع شهرزاد. وقد اعتمد في ذلك على روايات الحكواتي نهى.

أشاد المناقشون بالبحث وخصوصًا بحكاية الكتّاب، لكنهم سطروا مؤاخذة على كملو بخصوص تصديقه لأقوال الحكواتي نهى وشككوا في حكاياته خصوصًا وأن كملو لم يدل بأي صورة لهذا الحكواتي ولا أي وثيقة تثبت وجوده.

تتبعنا مع كيليط/السارد في هذا الفصل تفاصيل إنجاز أطروحة علمية بكل جزئياتها، من اللقاء الأول للطالب بالأستاذ، إلى اختيار الموضوع، إلى وضع الفرضيات والأسئلة، إلى رحلة البحث والتدوين، وانتهاء بالمناقشة، وما دار فيها من سجال بين الطالب ومناقشيه، وما اقترحوا عليه من تعديلات وأبدوا من تحفظات، إلى حين صدور البحث كتابًا منشورًا. كل ذلك بأسلوب سردي مثير في أحد شقيه؛ غني بحكايات شيقة مقتبسة من ألف ليلة وليلة وغيرها من الكتب، وهو في الآن نفسه شبيه بتقرير عن مناقشة أطروحة جامعية لكن بأسلوب لا يخلو من إبداعية. إنه يعبر عن فلسفة ورؤيا للعالم  ترى أن  كل ما نعيشه في الحياة قابل لأن ينكتب حكاية، تلك رؤيا كيليطو التي ضمنها جل كتاباته.

لقد أشار السارد إلى اعتراضه في البداية عن طبيعة العمل الذي يريد كملو إنجازه بدعوى أن عنوانه يوحي بأنه عمل تخييلي، وذكر في مكان آخر أن كملو كان ذكيا إذ أنجز بحثًا ورواية دفعة واحدة، وكأني بكيليطو/السارد يتحدث عن نفسه أيضا في هذا العمل ويريد أن يوجد سندًا نظريًا لما قام به؛ ومعلوم أن الرجل لا يهتم بالتنظير كما يهتم بالممارسة20؛ إذ قدم لنا مائدة من طبقين خلطهما وجعلهما طبقا واحدا، جمع فيه بين عناصر خيالية وأخرى علمية.

الخاتمة

لقد استطاع كيليطو في كتابه أنبئوني بالرؤيا كسر أفق توقع القارئ من خلال هدم الحواجز التي تفصل بين الأجناس؛ فصهر النقدي في السردي، والسردي في النقدي، وأخرج نصًّا فسيفساء من هذا وذاك، باصمًا على تجربة كتابية جديدة، يمكن عدّها شكلاً من أشكال التجريب في جنس الرواية، والكتابة النقدية معًا. تجربة خاصة من كاتب خاص ينطلق من المهمل والمهمش لينتج نصًّا كبيرًا وجديرًا بالقراءة. وهذا ما حدا بمارينا وارنز أن تشبهه بأحد أعمدة الكتابة العالمية وهو بورخيس، حيث تقول واصفة كتاباته: "تتحرك العديد من كتابات كيليطو، كما هو الحال عند بورخيس، بين معرفة عميقة وخيال مرح"21.

هذا المكر "الفني" الذي يمارسه كليطو هو الذي يجعل من إنتاجاته علامة بارزة في الساحة النقدية العربية، إلى الحد الذي يمكن معه الزعم بأنها تمثل اتجاهًا نقديًا جديدًا يحاول إخراج النقد من صرامته المنهجية، التي تكاد تخنقه، إلى الانفتاح على مجال الخلق والإبداع، تماشيًا، إلى حد بعيد، مع التعريف الجديد الذي يرى أن "النقد في مدلوله الحالي إبداع ثان"22، فهو عندما يكتب عن بعض المؤلفين، ولا سيما القدامى منهم، فإن نصوصه تقدم لنا متعة مزدوجة: "متعة قراءة هؤلاء الكتاب، ومتعة قراءته هو بصفته ناقدًا أدبيًا"23. 

هكذا استطاع كل من المحاولة والتخييل أن يتعايشا في إطار التجريب الذي ما فتئت الكتابة المعاصرة تمارسه، ويجد كل منهما مكانه إلى جنب الآخر، دون أن يهيمن أحدهما، فأنتجا شكلاً لا هو بالسرد ولا هو بالنقد، ولكنه نموذج لتفاعل الأنظمة الخيالية والواقعية.

في إطار هذا السياق يمكن إدراج نص أنبئوني بالرؤيا لكيليطو، والذي هو أشبه ما يكون بمائدة تحتضن أطباقًا متنوعة، يتموضع فيها التخييلي إلى جانب التأملي إلى جانب النقدي، ويمتزج فيها الواقعي بالغرائبي، وتتداخل فيها السيرة الذاتية بالأوراق النقدية، وبذلك يكون قد دشن اتجاه التخييل النظري théorique   La fiction في النقد العربي. وهو بذلك يؤكد على سمة يعتبرها أساسية في الكتابة وهي سمة الغموض، إذ يرى أنه "لا ينتج الوضوح إلا الأعمال السخيفة"24 . لهذا يمكن أن  ننعت نصه بالنص الملغز لأنه عندما يكون "مازجا بين التجريب والخيال، والحقيقة والتخييل، يضاعف النص من غموضه"25.

 

الهوامش والإحالات:

1 - Fiction Critique :  « Entretien avec Marc Escola », Vacarme 2011/1 (N° 54), pp.42- 43.

2 - Lourdes Carriedo et M.Luisa Guerrero : Marcel Proust : écritures, réécritures, Dynamiques de l’échange ésthétique, Editions scientifiques internationales, Bruxelles, 210, p.12.

3 - Vincent Ferré : « La saveur de l'essai : Proust et l'essai fictionnel », Poétique 2/2009,

n° 158, p 202.

4 - André Lamontagne : « Métatextualité postmoderne : de la fiction à la critique », Études littéraires Vol 30, numéro 3, été 1998, p62.

5 - Vincent Ferré, « La saveur de l'essai : Proust et l'essai fictionnel », p.202.         

6 - AntoineCompagnon : Proust entre deux siècles, Seuil, 1989, p.13.

7 - حسن المودن: الرواية والتحليل النصي، قراءات من منظور التحليل النفسي، الدار العربية ناشرون ودار الأمان، ومنشورات الاختلاف، ط1، 2009، ص. 19.

8 -  LIBERTE, n°319, Mars 2018, p.7.

9 - هذا المؤلف صدر في الأصل باللغة الفرنسية عام 2010، منشورات ACTES SUD، تحت تجنيس محاولة نقدية، وترجمه بعد ذلك بسنة عبد الكبير الشرقاوي، تحت تجنيس رواية، عن دار الآداب.

10 - أمينة عاشور : كيليطو...موضع أسئلة حوارات، ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، ط 1، 2017، ص. 93.

11 - عبد الفتاح كيليطو: مسار، ص. 150.

12 -  كيليطو: أنبئوني بالرؤيا، ص- ص. 27-28.

13 -  نفسه، ص. 29.

14 - كيليطو: أنبئوني بالرؤيا، ص. 51.

15 -  نفسه، ص. 54.

16 - نفسه، ص. 54.

17 - نفسه، ص. 56.

18 - نفسه، ص. 57.

19 - نفسه، ص.62.

20 - يمتلك كيليطو مشروعًا قرائيًا مكتملاً، لكنه يطرحه في شكل ممارسات تطبيقية، ولم يخصصه بكتابة تنظيرية مستقلة.

21 - عبدالفتاح كيليطو: مسار، دار توبقال للنشر، ط 1، 2014، ص. 151.

22 -  عبدالمالك مرتاض: النص الأدبي من أين إلى أين؟، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1983، ص. 50.

23 -  كيليطو:  الأدب والغرابة (تقديم)، ص. 8.

24 -  أمينة عاشور: كيليطو... موضع أسئلة حوارات، ص 58.

25- René Audet et Alexandre Gefen: Frontière de la fiction, p 145.


عدد القراء: 4117

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-