إبادة شاملة لتاريخ الفكر الإنساني


هناك تصاعدًا في إهمال الفكر والثقافة في شتى أنحاء العالم. وربما أفضل طريقة للتعبير عن كراهية الفكر والثقافة هي إحراق الكتب.

عندما يحرق أحدهم كتابًا فإنه يبدي احتقاره لكل الإبداع الذهني الذي أنتج أفكار الكتاب، وكل الجهد الذي بذله الكاتب في اختيار كلماته ومصطلحاته، وكل المشاكل التي واجهها الكاتب لإنهاء عمله.

تثير ظاهرة حرق الكتب الكثير من الأسئلة والغرابة، وتخوفًا كبيرًا على الذاكرة الجمعية. لأن الحرق يعني التلف والإبادة النهائية للمادة الملموسة أو الرمزية. وكأن الحرق هو الوسيلة المثلى للإفناء بحيث يغيب المنجز الثقافي نهائيا تحت الرماد ولا يمكنه أن يعود إلى الحياة.

وهذا يجعلنا نستشف بسهولة الكم الهائل من الأحقاد المتخفية في أعماق نوع من البشر ضد الكتب ومنتجيها وكأننا أمام أجساد يجب إنهاؤها نظرًا للخطر الذي تشكله على المحيط. ويبدو أن هناك قاعدة ثابتة في هذا السياق: فحيث يسود اليقين تنشأ المحارق الورقية والبشرية، وهذا صاحب البشرية منذ بداياتها.

في الفترة الفرعونية أحرق الشاعر أخناتون الكتب الدينية السابقة له لأنها كانت تزرع الظل على شعره. أفلاطون أيضًا لم ينج من هذه الغواية البائسة فحاول حرق مؤلفات دمُقريط الذي رأى فيها منافسًا كبيرًا لمثاليته. حتى الأديان السماوية، مرت على هذا المسلك الصعب في بعض حقبها التاريخية بالخصوص المسيحية في القرون الوسطى حينما خرجت من صلبها محاكم التفتيش المقدس التي أوكلت لها مهمة حرق الكتب التي رأت فيها هرطقة أو مروقًا عن الدين وأحكامه المقدسة. لم ترحم حتى البشر الذين ثبت عليهم هذا الخروج أو حتى شك فيهم أحدهم وأخبر عنهم المحاكم.

المرابطون في الأندلس لم يكونوا رحيمين بإخوانهم ولا بكتبهم. فقد فتشوا عن أي كتاب يمجد العقل فأبادوه. ولم يرحموا حتى مؤلفات ومكتبة ابن رشد، إذ أحرقوا جزءًا كبيرًا منها، عن جهالة وتسلط وجفاف في الفكر والعواطف. لماذا النار؟ ربما لأنها لا تترك أثرًا إلا خطوط الرماد التي تعقبها عملية التفتت والمحو النهائي. من هنا تبدو كلمة أوتودافي أشمل من فكرة حرق الكتب فقط.

وليس عبثًا أن يكون أصل الكلمة برتغالي، لأن البرتغال وإسبانيا كانا هما الفضاء الأمثل الذي تطورت فيه محاكم التفتيش التي دمرت كل بذرة للعقل والحرية. فكلمة "acto da f" ، وفي اللاتينية "actus fidei" و في الفرنسية "acte de foi" تعني فعل الإيمان المرتبط بالاحتفالية الشعبية التي كانت تشرف عليها محاكم التفتيش المقدس لحظة إعلان أحكامها ضد المارقين دينيًا. وشيئًا فشيئًا تطور المعنى ليصبح مقابلاً لتنفيذ أحكام الإعدام حرقًا في الهراطقة والمرتدين عن الكاثوليكية، حيث كان يُلقى القبض على كل من يجاهر بخروجه عن المسيحية في معناها الأكثر ضيقا، أو يرفض الانصياع للسلطات الدينية الرسمية، فتتكفل به محاكم التفتيش المقدس وتقوم بحرقه لتطهير روحه من الدنس.

وكان القس المعروف تاريخيًا، توماس دي توركيمادا، يرأس هذه الهيئة بحثًا عن الهراطقه، تمهيدًا لتجريمهم وتعذيبهم وقتلهم إن هم خالفوا الكنيسة الكاثوليكية. كان يسمى المفتش الأعظم. وكان من طرائقه حتى يرعب الناس، أن يعدم واحدًا على الأقل من كل عشرة أشخاص يَمْثلون أمام محكمته تعذيبًا وتمزيقًا أو حرقًا. قبل أن ينتهي معنى كلمة أوتودافي إلى معنى ضيق ولكن شديد الخطورة، فارتبط بحرق الكتب والمخطوطات في حفل عام يشهده الشعب والسلطات الدينية العليا كما حدث في مدن الجنوب الأندلسية بالخصوص طليطلة، مركز التسامح الديني بين اليهود والمسحيين والمسلمين، فتحولت فجأة إلى مساحة للجهل والرماد، ومحرقة كبيرة للفلاسفة وكتبهم بتهمة الهرطقة. فقد أحرق الكردينال أكزيمينيس عشرات الآلاف من المخطوطات الإسلامية.

يقول غوستاف لوبون: وكان أكزيمينيس يظن أنه بحرقه لقرابة مائة ألف كتاب ومخطوطة لأعدائه الدينيين سيكون قد أنهى حضورهم ووجودهم الذي دام أكثر من ثمانية قرون. ونسي أن للكتب ذاكرة حية حتى وهي تحت الرماد. ونجد في بعض المرويات الأندلسية أنه في عام 1500 أجبر المسلمون في غرناطة على تسليم الملايين من المؤلفات المزخرفة التي لا تُقدر بثمن، تمّ حرقها كليًا ولم تنفذ منها إلا بعض الآثار العلمية والطبية التي تمت ترجمتها والاستفادة منها غربيًا وشكلت لبنة أساسية لمجتمع المعرفة الذي نشأ على أنقاض ظلام القرون الوسطى. فقد انزلق معني الأوتودافي من الاتساع إلى الضيق الذي مس حضارة الحرف والورق ليتحول مع الزمن إلى حرب مجنونة ضد العقل، لأن الأمر يتعلق بالمنتَج الفكري، وحربٍ ضد الذاكرة، لأن الهدف من تحويل الأثر إلى رماد معناه منع الذاكرة من الحياة وتبادل المعرفة بين الأفراد والجماعات والأمم.

قانون كومستوك:

في عام 1915 أمريكا تنفس الكتاب وأصحاب المكتبات الصعداء مع وفاة متعصب آخر هو أنتوني كومستوك الذي أقام محارق لأطنان من الكتب على امتداد الولايات المتحدة لأسباب أخلاقية دينية. كان متشددًا لا يعترف بأي فكر مختلف عن فكره. وكان يملك يقينًا راسخًا مفاده أن الشيطان يسيطر على عقول الأدباء والكتّاب وأن رسالته الدينية في الأرض تنحصر في القضاء على هذا الرجس. عمل على استصدار قانون أقرّه الكونغرس عام 1872 يفرض إرسال نسخة إلى البريد من كل كتاب يصدر لمراقبته، وتقرر إدارة البريد بحسب تعليمات كومستوك حظر الكتاب أو السماح بتداوله، وظل قانون كومستوك ساريًا لعقود طويلة وأفادت منه الحملة المكارثية إلى أقصى الحدود، وبموجبه تم منع كتاب "عناقيد الغضب" لجون شتاينبك، وحظرت دائرة البريد كتاب "عشيق الليدي تشاترلي" في 1959.

لقد قمع كومستوك وصادر آلاف الكتب والمجلات، وتصاعدت نيران محارق الكتب في عهده حتى وصل وزن المطبوعات المحروقة في الساحات العامة إلى 120 طنًا، وما بين 1940 و1941 أحرقت الولايات المتحدة اعتمادًا على قانون كومستوك 600 طن من الكتب والمطبوعات الأخرى. وطال حرق الكتب كتّابًا أمريكيين في الحملة المكارثية، أمثال هاوارد فاست وجوزف ديفيز وليليان هيلمان وداشيل هاميت وجون شتاينبك وتيودور درايزر، كما تعرضت كتب جورجي أمادو وحتى ماريو فارغاس يوسا للحظر، وطالت محارق التشدد الأمريكية عام 2001 كتاب هاري بوتر إذ احرقت مئات النسخ منه في مدينة ألاموغوردو في ولاية نيومكسيكو في ساحة عامة على يد جمعية كنسية، بذريعة أن الكتاب يدفع الفتيان إلى تعلم السحر ويبعدهم عن المثل العليا، وأحرقوا معه بعض روايات ستيفن كنغ!.

رغم وجود إطارٍ دستوريّ  في الولايات المتحدة يحِد من فكرة حرق الكتب، إلا أن شخصيّات عامة وسياسية على مدار التاريخ الأمريكيّ دفعت إلى حرق الكُتب، حسب مقال في موقع The Daily Beast الأمريكي.

من بين هذه الشخصيّات الاختصاصي النفسي فريدريك ويرثام الذي أفتى بخطورة كتب «الكوميكس» الأمريكية على الأطفال، وصدّرها للشعب الأمريكيّ كعدو يستحق الحرق، فخرج الأهالي بصحبة الأبناء في ولاية أوهايو عام 1948 لحرق الآلاف من كتب «الكوميكس».

وخطت الإنسانية خطوات في اتجاه اقتناع أن الكتاب يُكافح بكتاب، ولا يُكافح بالحرق، إلا أن حوادث مُعاصرة تثبت أن الإنسانية على ما يبدو لم تقتنع تمامًا.

في بريطانيا، أقام ملجأً للنساء المُعنّفات محرقة رمزية لكتاب «50 ظلاً للرمادي» عام 2012، بدعوى احتوائه على جمل جنسية مسيئة، حسب موقع بي بي سي.

الحرب وحريق الكتب:

ومع أن التدمير أثناء الحرب قد يحدث بسبب خطايا الإهمال أو الخطأ، حيث تقع المكتبات ضحايا عندما تضل القنابل طريقها أو تحتل القوات العسكرية مباني مكتبة، وقد بدأ توظيف التدمير العمدي للمكتبات والموارد الثقافية الأخرى بوصفه واحدًا من استراتيجيات الحرب في القرن العشرين في أثناء الحرب العالمية الأولى، عندما محا الألمان مكتبة الجامعة في لوفين ببلجيكا وعلى مدى ستة أيام من أعمال الحرق والنهب وأخذ الرهائن والإعدام، دمرت القوات الألمانية المدينة القروسطية ومكتبة تضم 230 ألف مجلد بما فيها مجموعة ضمت 750 مخطوطًا قروسطيًا وأكثر من ألف كتاب مطبوع قبل العام 1501.

ولم يختلف الأمر كثيرًا في الحرب العالمية الثانية فقد كان الشعار مرفوعًا وقتها "أن الحرب لا يمكن أن تُشن ضد مقاتلي دولة العدو فقط، بل يجب أن تسعى إلى تدمير الموارد المادية والفكرية الكاملة للعدو". هكذا أصبح التدمير أكثر تنظيمًا عن الماضي، وصار العنف الذي يستهدف الموارد والمؤسسات الثقافية جزءًا محوريًا من الخطة العامة لفرض السيطرة.

في باريس وحدها دمرت القوات الألمانية في الأيام الثلاثة الأولى لسقوطها 723 مكتبة واحرقت نحو 1.108.797 كتابًا. في ألمانيا بالمقابل، أحرقت غارات الحلفاء معظم المكتبات الألمانية العريقة ونفائسها وفقدت مكتبة برلين وحدها أكثر من مليوني كتاب.

وفي إيطاليا وإسبانيا حرق الفاشيون أيضًا الكتب. ولم يختلف عنهم الاتحاد السوفياتي في تدمير كتب معارضيه ومكتبات البلدان التي احتلها. أما الحرب العالمية الثانية فكانت كارثة كبرى على اليابان، فبالإضافة إلى مئات الآلاف من البشر كان المكتبات ضحية القنبلتين النوويتين اللتين ألقيتا على هيروشيما وناكازاكي. بينما استهدفت مكتبات طوكيو بغارات مقصودة وأحرقت تمامًا.

في عام 1940 قصفت ألمانيا مكتبة هولين هاوس (لندن) ودمرتها بشكل كامل تقريبًا.

جوزف غوبلز، كاره الكتب الخطير، نظم في 1933 المحرقة النازية الكبرى للكتب. وفي عام 1967 أحرق الشعراء الكولومبيون من جماعة ناديستا، رواية "ماريا" لجورج ايزاك وهم على اقتناع تام بضرورة تدمير الماضي الأدبي للأمة.

وتشير بوابة الأهرام الإلكترونية، إلى أن 70 ألف ألمانيّ اجتمعوا في أحد ميادين، ليشهدوا محرقة كبرى لآلاف النسخ من الكتب، والتي كان من بينها كُتب ألمان، لكنهم في وجهة نظر زعيم الطلاب النازيين «معاديين للروح الألمانية» ومن ثم يجب التصدي لهم.

إلا أن الحادث لم يكن وحده في سلسلة حُمى هولوكست الكتب النازية، فالألمان بعدما أعدوا قوائم سوداء للكتب غير الألمانية، خرجت حوالي عشرين مدينة ألمانية في محارق مشابهة لمحرقة ميدان برلين تكرر نفس الحادثة.

وحتى لحظتنا هذه لا يزال التدمير المتعمد للكتب يمارس بأشكال شتى بهدف إلغاء الآخر أو نفيه نفيًا تامًا من الذاكرة التاريخية. لكن الكتب، رغم هشاشتها وعجزها عن دفع البلاء عن نفسها، تنتقم أحيانًا ولا تنسى حارقيها، فها هو سافونارولا الراهب المتشدد في إيطاليا، الذي أقام محرقة عظيمة وسط فلورنسا وأحرق الكتب والتماثيل واللوحات ينتهي به الأمر إلى الإعدام وتحرق جثته، ويشرب من نفس الكأس التي جرعها للكتب.

النازية وحرق الكتب:

"حرق الكتب" يشير إلى طقس حرق الكتب. حيث كانت تنفذ في سياق العام وكان هذا الحرق للكتب نابع من معارضة للمواد الثقافية والدينية أو السياسية. في العام 1933 بدأ جوزف غوبلز وزير التنوير الشعبي والدعاية النازية بمحاولة لجلب الثقافة والفنون تماشيًا مع الأهداف النازية. وكان طلاب الجامعات الألمانية من بين طليعة الحركة النازية منذ وقت مبكر.

بعد الحرب العالمية الأولى كثيرًا من الطلبة الألمان وبشكل معاكس لإعلان جمهورية فايمر 1919-1933 وجدوا في الاشتراكية القومية وسيلة مناسبة للتعبير عن سخطهم السياسي وعدائهم.

في 6 أبريل أعلنت جمعية الطلبة الألمانية النازية وعلى مستوى الدولة "حملة ضد الروح الغير ألمانية" والتي أسفرت عن حملة "تطهير" أدبية عن طريق الحرق. وقد قام طلبة الجامعات بخطوة ذات في 10 مايو 1933 بحرق 25000 مجلد من الكتب "الغير ألمانية" وقد أنذر هذا بحقبة من الرقابة والسيطرة الثقافية من قبل الدولة، وقام طلبة يمينيون بمسيرات حملوا فيها المشاعل بأربع وثلاثين بلدة جامعية "ضد الروح الغير ألمانية". وفي طقوس دعت المسؤولين النازيين وأساتذة وعمداء وقادة طلاب الجامعات إلى مخاطبة المشاركين والمتفرجين. وقد قام الطلاب بالاجتماع ورمي الكتب "الغير مرغوب فيها" في النار وسط احتفال وجوقة تعزف وما يسمى بـِ "قسم النار".

من بين الكتاب الذين أحرقت كتبهم من قبل قادة الطلبة كتّاب  اشتراكيين معروفين كـ "برتهولد بريشت" ومؤسس المفهوم الشيوعي كارل ماركس ونقاد "البرجوازية" مثل الكاتب المسرحي النمساوي أرتور شنيتسلير وكذلك "كتاب أجانب فاسدين" مثل الكاتب الأمريكي أرنيست همنغوي. كما التهمت ألسنت اللهب كتابات الألماني توماس مان الحائز على جائزة نوبل وأعمال الكاتب أريك ماريا ريمارك الأكثر مبيعًا في ذلك الوقت "الصفة الغير متزعزعة للحرب ثم الكل شيء هادئ على الجبهة الغربية والمنظرين الذميمين للنازية وغيرهم من الكتاب المدرجين على القوائم السوداء الأمريكيين جيك لوندون وثيودور دريزر وهبلبن كيلر والذي كان إيمانها بالعدالة الاجتماعية قد شجعها على تمجيد المعاقين والمسالمين. ومن ضمن الذين احرقت أعمالهم مثل فرانس فيرفل وماكي برود وشتيفان تسفايغ. وقد أحرقت الجموع كتابات لشاعر القرن التاسع عشر الألماني هاينرش هايني والذي كتب في عام 1820 "حيث يحرقون الكتب سوف تُحرق أناس بنهاية المطاف".

وألقى زعيم الطلاب النازي خطابًا مليئًا بالكراهية قبل أن يبدأ بنفسه بإلقاء أول مجموعة من الكتب في النيران المشتعلة وهو يقول: "ها أنا ألقي في النار كل ما هو غير ألماني. ما نفعله هو التصدي للروح غير الألمانية". وكل ذلك تم بمباركة الزعيم  النازي أدولف هتلر الذي احتفظ لنفسه بالسلطة المطلقة بعد وصول النازيين للحكم مطلع عام 1933 ليبدأ بعدها رحلة السيطرة على العقول.

بعد حملة حرق الكتب تلك كان أغلب المفكرين والعلماء ورجال الأدب والفن قد شدوا الرّحال إلى العواصم المجاورة مثل، باريس وبراغ ومناطق عديدة في سويسرا بحثًا عن مكان آمن للعيش.

حينها علت حكمة هاينريش هاينه التي قال فيها: «حيث تحرق الكتب ينتهي الأمر بحرق الرجال».. وكانت نظرته عميقة وبعيدة، ولهذا كُتِبت حكمته تلك كشاهد أبدي في قلب تلك الساحة التي شهدت أول محرقة كتب في التاريخ المعاصر. حتى لا ينسى الألمان ما حدث، ويكررون التجربة كما كررناها نحن.

جوزيف ستالين لم يكن أقل قسوة ووحشية في ملاحقة واعتقال وقتل الكتاب والشعراء. والرئيس الصيني ماوتسي تونج أطلق حملة كبيرة لتدمير الثقافة الصينية، حيث أمر بإحراق الكتب ومنعها للقضاء على «الذاكرة الجماعية لأيديولوجية وليبرالية البورجوازيين الصغار».

يقول الكاتب كينيث بيكر وهو سياسي بريطاني شغل منصب وزير التعليم في حكومة مارجريت تاتشر إن التوجه نحو التخريب والترهيب يعود إلى فترات طويلة سابقة.

«خلال الحرب العالمية الأولى، عندما انتقدت صحيفة ديلي ميل هربرت كتشنر، القائد الأعلى للجيش البريطاني، بسبب فشله في إمداد الجنود البريطانيين في فرنسا بالذخيرة، اعتقد كثير من الناس أن التهجم على ضابط بريطاني كبير أمر غير وطني، وأحرقت أعداد من الجريدة علنا في سوق الأسهم في لندن».

في أيام الملك تشارلز الأول (1600-1649) والحرب الأهلية الإنجليزية، كانت السلطات تقطع آذان وأنوف الكتاب المعارضين للنظام الحاكم.

إحراق الكتب الدينية كان في الحقيقة حيلة سياسية أو شخصية للتخلص من بعض الأشخاص غير المرغوب فيهم. في القرن الـ19 نشر الأكاديمي في جامعة أكسفورد جيمس فراود (1818-1894) رواية عن رجل دين مسيحي تخلى عن عقيدته وارتبط بعلاقة غير شرعية مع امرأة متزوجة. لكن هيئة الجامعة استغلت الكتاب وأمرت بإحراقه في ساحة الجامعة أمام جميع أعضاء هيئة التدريس والطلاب وفصلت الكاتب من عمله في الجامعة.

وبعد مرور 50 عامًا على الحادثة أرسلت جامعة أكسفورد دعوة لجيمس فراود، وكان قد بلغ 74 سنة من العمر، للعودة إلى الجامعة ومتابعة عمله كأستاذ للتاريخ.

ملك بريطانيا إدوارد السابع (1841-1910) أمر بإحراق رسائل والدته الملكة فيكتوريا إلى خادمها الاسكتلندي الخاص جون براون وخادمها الهندي مونشي.

ورثة الكاتب البريطاني الشهير تشارلز ديكينز (1812-1870) أحرقوا كل ما وقعت عليه أيديهم من كتابات تشير إلى علاقة ديكنز مع عشيقته إيلين تيرنان.

الروائي والشاعر توماس هاردي (1840-1928) أحرق كل دفاتر ملاحظاته ومراسلاته خوفًا من اكتشاف مغامراته النسائية.

وإذا كان هناك ما يبرر لجوء بعض الكتاب والمفكرين إلى التخلص من بعض تراثهم الشخصي لسبب أو لآخر، إلا أنه لا يوجد ما يبرر قيام نظام ديني أو سياسي بالتخلص من أعمال أدبية أو فكرية أو رسمية قد تشكل دليلاً تاريخيًا يوثق مراحل معينة، كما فعل البريطانيون عندما حاولوا إخفاء الوثائق التي تثبت عمليات التعذيب التي ارتكبوها في دول مثل كينيا.

 


عدد القراء: 5332

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-