مسيحيون في مكة المكرمة .. الرحلات والاستشراق في الجزيرة العربية


استقطبت شبه الجزيرة العربية اهتمام الكثير من الباحثين والرحالة من مختلف أرجاء العالم، وذلك لما تتميز به من خصوصيات عديدة أهمها وجود الأماكن الإسلامية المقدسة، واحتضانها العديد من كبرى حضارات العالم التاريخية، إلى جانب موقعها الجغرافي الذي يضعها في قلب العالم القديم وبجانب الطرق الرئيسية للتجارة.

وهناك مغامرون كثيرون راوَدَتْهم فكرة الوصول إلى مكَّة المكرَّمة والمدينة المنورة، وبالفعل وصل الكثيرون منهم، بَيْد أن غيرهم رجع بِخفَّي حنينٍ، وأمَّا الذين وصلوا فأكثرهم تعلَّم العربية، وتظاهر بالإسلام تيسيرًا للوصول، وبعضهم أسلم بالفعل وحسن إسلامه، والبعض ترك القرَّاء في حيرة من أمر إسلامه، وأما أسباب هذه المغامرات التي قد تكلف المغامِر حياته، فتندرج تحت أسباب عدَّة، أهمها رُوح المغامَرة التي اتَّصف بها الأوروبيون في القرون المنصرمة لتسجيل أسمائهم في سجل الأوائل، ومنهم من كان عميلاً للاستعمار الذي كان يُحاول أن يدرس جزيرة العرب، ولاسيَّما مكة والمدينة تمهيدًا لاستعمارها، ومنهم من كان يرغب في البحث العلمي والاجتماعي والاطلاع على عادات وتقاليد الشعوب، ومنهم من أراد أن يتحدَّى الآخرين بالولوج إلى الأرض التي حرَّمها الله على المشركين.

وكان مفهوم الترحال من أجل العلم والمعرفة تبلور منذ القرن السادس عشر الميلادي، ويهدف في الأساس إلى جمع المعلومات الجغرافية ودراسة عادات الشعوب وأحوالهم المعيشية والسياسية. وكان الرحالة الغربي يوصف بأنه رجل متحضر، لديه تصورٌ راقٍ للحياة وهو صاحب رسالة حضارية، يريد نشرها في أوساط الشعوب المتخلفة، وقد عكف على التجوال والترحل ليدون مشاهداته السياسية وأخبار المناطق التي يزورها لصالح الحكومات أو المؤسسات التي أوفدته.

وكان أدب الرحلات عند الغربيين يعد امتدادًا لحركة الاستشراق، «وهو جزء من تراث الإمبراطوريات الغربية المستعمرة، التي كانت ولا تزال تحرص على دوام مصالحها في البلاد الأخرى، فحتى الرحلات ذات الطابع العلمي الأكاديمي كانت مرتبطة بالسياسة أكثر من ارتباطها بالعلم والحضارة».

وكان أدب الرحلات «عظيم الفائدة، ولا يضاهى في تنوعه وتعدد مجالاته، على الرغم من الغموض الذي يكتنف دوافعه الحقيقية، حيث يلتقي في هذا المجال العلم بالأدب والفلسفة بالتاريخ والاقتصاد بالسياسة، وتشتمل كتب العلماء ورجال الدين والسياسية والعسكريين والمخبرين الذين زاروا المنطقة، على ركام هائل من المشاهدات والأبحاث الدقيقة، التي تتناول السكان والعمران والنبات والحيوان، وترسم الخرائط ومواقع المدن الأثرية، وتحدد الطرق ومواطن الثروات». ومن أسماء هؤلاء لودفيكو فارتيما، وجوزيف بيتس، ووليام جيفورد بالجريف وتشارلز دوتي وهاري سنت جون فيلبي، بالإضافة إلى بادييا يلبليش ونيبور وبركهارت وبيرتون.

وكانت رحلة المستشرق الدكتور كريستيان سنوك هور خرونييه إلى مكة المكرمة بين عامي 1884 و 1885 التي وضع خلالها كتابه الشهير (مكة) والذي يتكون من جزأين، تناول فيهما تصوراته عن حال المسلمين في الجزيرة العربية وجزر الهند الشرقية، التي عاش فيها مستشارًا للشؤون الشرقية والإسلامية لمدة 17 سنة. ومن دوافع سنوك في رحلته إلى الجزيرة العربية، «إذا عرفنا أن العصر الذي عاش فيه، كان عصر حمى التوسع الاستعماري وحمى «التبشير» في ظل حماية السلطة المستعمرة، وحمى الاكتشاف والريادة «وذلك باكتشاف أي مجهول عند الأوروبيين للفوز بالشهرة، كالنقوش والكتابات والآثار والمخطوطات وغيرها». وكانت من أبرز مهام سنوك وضع الخطط والتوصيات اللازمة للقضاء على الحركات المناهضة للنفوذ الهولندي، إذ كانت مكة المكرمة تنطوي على المحرك الرئيسي للثورة ضد الهولنديين في أندونيسيا من خلال الوافدين إلى الحج.

وكذلك من أهم دوافع رحلته التعرف على المؤثرات التي تدفع الأندونيسيين إلى الثورة والعصيان بعد قدوم حجاجهم من مكة المكرمة، وكان هؤلاء يشاركون بنشاط كبير في حركات التمرد على السلطات المستعمرة.

وكان للجانب الإيجابي من رحلة المستشرق الهولندي، إلى طغيان الجانب العلمي على الكثير من الدراسات، التي كتبها في رحلاته، وبالأخص في مجالات الفقه والأصول والحديث، الأمر الذي كان له أثر شامل على الحركة الاستشراقية في أوروبا. وكانت حياته في الشرق مكنته من أن يصير أكثر دقة وروية في أحكامه ومواضيعه، وساعده في ذلك تضلعه في اللغة العربية وبعض اللغات الأندونيسية.

ومن ضمن رحلات المستشرقين الرحالة المستشرق الفرنسي ليون روش الذي زار منطقة الحجاز عام 1842 متنكرًا تحت اسم عربي وزي إسلامي ليؤلف بعد ذلك كتابه عام 1884 الذي أسماه «32 سنة في الإسلام». وكان الهدف الرئيسي لرحلة روش، الحصول على موافقة شرعية من المراجع الدينية للفتوى التي صاغها الفرنسيون ليحتجوا بها ضد مقاومة الأمير عبد القادر الجزائري في الجزائر، وذلك بعدما تمكن، إثر تنقلات متعددة، من حضور مجلس العلماء في الطائف برعاية حاكم مكة المكرمة آنذاك.

وقد تعرض روش في رحلته إلى وصف الحالة السياسية والدينية السائدة في الدولة السعودية آنذاك، كما سجل وصفًا شاملاً للمظاهر البارزة في عدد من المدن والمواقع في منطقة الحجاز، اشتملت على كل من: ينبع البحر، وبدر حنين، والطائف، بجانب مكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة.

ومن الجوانب العلمية والتاريخية التي تتضمنها رحلات الغربيين إلى المنطقة، رحلة الرحالة السويسري بركهارت التي كانت أبرز الرحالة السويسريين إلى المنطقة. كان بركهارت، المعروف بـ«الشيخ إبراهيم بن عبد الله الشامي»، لم يكن الرحالة الأوروبي الأول الذي يزور المدينتين المقدستين في الجزيرة العربية، فإنه أول من كتب وصفًا دقيقًا لهما.

نشأ بركهارت في مدينة بازل (بال، في أقصى شمال غربي سويسرا) وسط عائلة تجارية غنية، عين بعد انتهاء دراساته في ألمانيا وإنجلترا، مندوبًا عن الجمعية البريطانية لتشجيع الاستكشاف في الأجزاء الداخلية لأفريقيا. وانتقل في ما بعد إلى منطقة الشرق الأوسط، فأقام في سورية لبعض الوقت بهدف إتقان اللغة العربية، ثم غادر إلى الأردن، وسجل أحد أهم إنجازاته بإعادة استكشاف البتراء، العاصمة السابقة للأنباط عام 1809 ، إلى جانب إمداد حكومته بالكثير من المعلومات المهمة عن الوضع السياسي المحلي في المنطقة.

ألف بركهات كتابين (الرحلات في الجزيرة العربية) 1822 و(ملاحظات عن البدو السعوديين) 1829، تضمنا وصفًا دقيقًا ليس لأسلوب حياة البدو والتطور السياسي للجزيرة العربية فحسب، بل أيضًا معلومات تفصيلية عن كل ما تحتوي عليه المدينتان المقدستان وتصويرًا شاملاً للوضع الداخلي والخارجي للكعبة المشرفة.

ويؤكد الدكتور ديونيسيوس أ. اجيوس الأستاذ بقسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة ليدز، أن سيطرة مدينتي جدة وعدن على مفاتيح التجارة في البحر الأحمر خلال القرن السادس عشر، شجع المستكشفين البرتغاليين على الاستيلاء على هاتين المدينتين والقضاء على الحركة التجارية من شرق أفريقيا والهند والصين.

وكان الهدف الرئيسي وراء الحملات الاستكشافية للبرتغاليين الذين كانوا يتنافسون مع المماليك في مصر على السيطرة على طرق القوافل الشرقية، ومع البنادقة الإيطاليين (من مدينة البندقية) في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط. ومن خلال الرحلات الاستكشافية للبرتغاليين في مدن البحر الأحمر، أمكن التعرف على الخبرات الإسلامية الكبيرة والدراية بالتيارات والشعوب والموانئ البحرية. وساهمت كتابات الرحالة في رفع مستويات المهارات الملاحية بين القرنين الحادي عشر والخامس عشر، بعدما كانت المصادر العربية صامتة عن شرح هذه المهارات، ولم يكن معلومًا حينها أن الملاحين المسلمين متمرسون في التقنية الملاحية باستخدام البوصلة والخرائط.

ومن ضمن الرحلات إلى الجزيرة العربية رحلة الأميرال الفونسو دي البوكرك البرتغالي الذي أبحر إلى البحر الأحمر وخطط لاحتلال المدينة المنورة للاستيلاء على تابوت النبي محمد(صلى الله عليه وسلم) والمطالبة بفديته معلنًا أن ثمنه هو كنيسة بيت المقدس لكنه فشل في مساعيه.

وهناك أيضًا رحلة غريغور داكودرا البرتغالي عام 1516، وارتشيبالد فوردر البريطاني الذي جاء إلى شبه الجزيرة العربية ودعا الناس بكل صراحة إلى المسيحية، وحاول أن يبيعهم نسخًا من الإنجيل. لكن كان الجانب الاقتصادي هو أحد جناحي الهدف الاستعماري مع الجانب السياسي، إذ تميز القرن السابع عشر بالصراع بين البرتغاليين وبين شركتي الهند الهولندية والبريطانية، وأخذت كل من الشركتين تسعى لإقامة علاقات تجارية مع حكام اليمن والجنوب العربي. وقد استطاع بعض التجار الأوروبيين إنشاء مراكز تجارية مختلفة على بعض السواحل اليمنية والخليجية خصوصًا بعد أن عرف الأوروبيون مشروب القهوة.

فقام جودريان ببعثة إلى صنعاء مثلاً، وكذلك القبطان الهولندي بيتر فان دي بروك، وهنري ميدلتون وغيره، وكلهم كتبوا وسجلوا ملاحظاتهم وما شاهدوه في الجزيرة العربية واليمن.

وكانت أهداف الرحالة جميعًا لم تخرج عن رصد أوضاع الجزيرة العربية السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية، لذا نجد أول من زار الأراضي المقدسة، وأعطى تقريرًا عن رحلته ومشاهداته هو الأسباني باديا لبلي الذي تنكر تحت اسم علي بك العباسي، وحتى روسيا كانت لها أطماع في المنطقة، إذ أرسل القيصر الروسي، أولريخ جاسبر سيتزن، الذي قام برحلته إلى الجزيرة العربية، واستطاع أن يدخل مكة ليحصل على لقب حاج، وبعدها ذهب إلى اليمن وقتل هناك عام 1811.

وتستمر الرحلات مثل رحلة السير ريتشارد برتون عام 1853 الذي كلف بدراسة المنطقة الواقعة بين مسقط وبلاد الحجاز، وجيرالد ليتشمان عام 1909، وجون فيليبي الذي أسلم، وسماه الملك عبد العزيز آل سعود باسم عبد الله.

وهناك دواتي تشارلز الذي التحق بقافلة الحجاج عام 1876 ويُعدُّ كتابه (رحلات إلى الصحراء العربية) من أفضل كتب أدب الرحلات لما تضمنه من مواد علمية مهمة، والليدي آن بلنت الإنكليزية وزوجها ويلفرد بلنت في رحلتهما إلى الجزيرة العربية للبحث عن الخيول العربية الأصيلة وقد سجلت مشاهداتها في كتاب بعنوان (الحج إلى نجد مهد العنصر العربي) 1881 والإيطالي كارلو غوارماني الذي ركز دراسته على شراء الخيول العربية، ونشر كتابًا بعنوان (شمال نجد رحلة من القدس إلى عنيزة في القصيم) (1866). وجوليوس أوتنغ الألماني الذي قام برحلته إلى الجزيرة العربية عام 1883، وحصل خلالها على آلاف النقوش الآرامية والنبطية واللحيانية ونشرها.

كانت لهؤلاء الرحالة إسهامات في التعريف بتاريخ الجزيرة العربية على الرغم من أن أكثرهم جاء لغايات سياسية بحتة، ولا شك في أن القيمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لتلك الرحلات لا تقدر بثمن، لأنها تؤرخ لحقبة زمنية اكتنفها الغموض، كما أن الأعمال التي قاموا بها وصبرهم على مناخ الجزيرة العربية، إضافة إلى فقدان الدولة الأمن والأمان كانت سببًا في فقدان بعضهم حياته، كل ذلك يجعلنا نحترم الجهود بصرف النظر عن تلك الأهداف التي جاؤوا من أجلها.

ويقول د. عبدالله إبراهيم العسكر في محاضرة في نادي الطائف الأدبي في 1423 هـ ونشر موجزًا لها في جريدة الرياض: إن الناظر فيما كتبه الرحالة الغربيون عن الحجاز، يجد كمًّا هائلاً من المعلومات الثرية، والملحوظات الجيدة، والتحليل العميق لشؤون المعاش والحياة. والحق أن نتائج تلك الرحلات قد أثرت في الفكر العلمي حول تلك البلاد. وليس من المبالغة في شيء القول إن ما كُتب عن الحجاز، والأماكن الدينية فيه، يُعد من أكثر مما كتب عن أي جزء على وجه الأرض. بل إن ما كُتب عن مكة المكرمة والمدينة المنورة في كافة المجالات يربو مئات المرات على ما كُتب عن المدن الأخرى في الجزيرة العربية برمتها.

استغرقت عمليات سفر الغربيين وترحالهم في جزيرة العرب قرابة أربعة قرون. بدأت من نهاية القرن التاسع الهجري - الخامس عشر الميلادي، وانتهت في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري - العشرين الميلادي. أما ما بعد ذلك من رحلات فإنها تدخل في باب العمل الرسمي، إذ تحدها قيود ومواثيق واتفاقيات رسمية لا تدخل في باب الرحلات. مثل البعثة الاستكشافية العلمية بقيادة كونزاك ريكمانز المتخصص في اللغات السامية، التي قصدت وسط جنوب الجزيرة العربية عام 1371هـ - 1951م بدعم حكومة المملكة العربية السعودية وموافقتها. ضمنت البعثة إلى جانب كونزاك ريكمانز كلاًّ من: جاك ريكمانز المتخصص في التاريخ الحميري والسبئي، والحاج عبدالله فيلبي المؤرخ والسياسي المعروف، وفيليب ليبنز الخبير في تخطيط الرسوم وتصوير النقوش القديمة.

أو مثل اللجنة العلمية التي أسندت لها حكومة المملكة العربية السعودية إعداد دراسة شاملة عن مدينة الطائف، من أجل تنميتها وتطويرها. فقام ثلاثة علماء في تخصصات مختلفة بإعداد تلك الدراسة، ونشرت في كتاب عام 1413هـ - 1992م. والثلاثة هم: هاينز غاوبه، ومحمد شرابي، وغونتر شقايترز.

تتميز رحلات الغربيين إلى بلاد الجزيرة العربية ومدنها في القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين - السادس عشر والسابع عشر الميلاديين بكونها ذات طابع فردي، ويكتنف أهدافها الغموض، وكانت في مجملها تتصف بالخطورة، ولكن نتائجها لا تخلو من الفائدة العلمية.

أما رحلات الغربيين في القرون اللاحقة فهي رحلات ذات طابع ديني/ تبشيري، أو ذات طابع عسكري، أو ذات سمة سياسية رسمية، أو جاءت لأغراض علمية واستكشافية. وفي العموم نظر الرحالة الغربيون إلى الأماكن التي زاروها من منظورهم الخاص، لذا أوردوا بعض الملحوظات التي قلما أثارت انتباه الرحالة العرب الذين زاروا الأماكن نفسها.

ولو بحثنا في سبب شغف الغربيين ببلادنا لوجدناه باختصار شديد يتلخص في كون القرن العاشر الهجري - السادس عشر الميلادي قد شهد اندفاع البرتغاليين بأساطيلهم إلى بحار العالم، ومنه طبعًا البحار المحيطة بالجزيرة العربية، مما أدى إلى نوع من المغامرة والصراع بين الدول الأوروبية. وكانت الدول الأوروبية في صراع سياسي واقتصادي وتجاري مع الدولة العثمانية التي تمثل المسلمين، فرغب بعض ساسة أوروبا ومثقفيها معرفة المزيد عن بلاد الحجاز، الذي يُشكل واسطة العقد في الفكر الديني لدى الدولة العثمانية.

كل هذا دفع الدول الأوروبية إلى إقامة علاقات سياسية مع بعض الدول الإسلامية، ثم تم تأسيس شركات تجارية غربية في سوريا ومصر، وأصبح لبريطانيا، على سبيل المثال، جالية ذات أهمية في حلب. وفي عام 1042هـ/ 1632م أنشئ كرسي اللغة العربية في جامعة كمبردج Cambridge، وبعد ذلك التاريخ بعشرين سنة طبع الكتاب المقدس بعهديه باللغة العربية. وفي مطلع القرن الثاني عشر الهجري - الثامن عشر الميلادي تُرجم القرآن الكريم لأول مرة إلى اللغة الإنجليزية، وكذلك ثم الشيء نفسه لبعض الكتب الأدبية العربية مثل (ألف ليلة ليلة)، وتبادلت أوروبا وبعض دول المشرق السفراء منذ عام 1080هـ - 1669م، ومنذ ذلك الوقت أصبح الشرق والدول العربية على الخصوص محط أنظار دول الغرب وشعوبه.

والتطور المثير هو كون السفر من أوروبا إلى الهند، تاج المستعمرات البريطانية فيما بعد، أصبح ميسورًا عبر البلاد العربية، كما أن للدعوة السلفية التي ظهرت في نجد أهمية كبيرة، وخصوصًا ما ترتب عليها من نتائج سياسية بالغة الخطورة. ثم اندفاع نابليون بونابرت نحو الشرق وحملته على مصر عام 1213هـ - 1798م، كل هذا استقطب اهتمام الغربيين بالمنطقة.. وما عاد القرن الثالث عشر الهجري - التاسع عشر الميلادي يحط رحاله حتى أصبح السفر والترحال للبلاد العربية، ومنها جزيرة العرب، من الأمور المطلوبة للسياسة، والجاسوسية، والتبشير والسياحة.

لهذا نستطيع أن نُجمل أهداف الرحالة الغربيين إلى جزيرة العرب ومنها الحجاز فيما يلي:

1 - الهدف الديني: لا ريب أن حركة الاستشراق وحركة الكشوف الجغرافية خرجت أول ما خرجت تحت نظر الكنيسة وسمعها. وكان الهدف الديني وراء إنشاء أقسام اللغة العربية وكراسيها في جامعات أوروبا. لهذا كان مُعظم من دخل مكة المكرمة أو المدينة المنورة إنما دخلهما لأغراض دينية، منها وضع مقارنة بين النصرانية والإسلام، كما فعل لودفيكو دي فارثيما Ludvico di Varthema الذي ألف كتابًا عنوانه (اتيناريو ltinario) ونشره عام 916هـ - 1510هـ. وكانت انتصارات البرتغاليين واكتشافهم رأس الرجاء الصالح عام 904هـ - 1498م دافعًا جعلهم يحاولون مهاجمة ديار الإسلام، مثل ما حاول أحد أمرائهم وهو الأميرال الفونسو دي البوكيرك Albuquerque المتوفى عام 921هـ - 1515م الذي أبحر إلى البحر الأحمر من أجل أن يحتل المدينة المنورة. ويستولي على خزائن القبر النبوي.

2 - الهدف السياسي: كانت الدولة العثمانية تمثل تهديدًا لدول أوروبا، وكنائس أوروبا، ولكن ذلك التهديد زال في القرن الثاني عشر الهجري - الثامن عشر الميلادي، ومع هذا رأت تلك الدول إن من صالحها دراسة وضع البلاد العربية، التي تخضع للعثمانيين. خصوصًا منطقة مهد الإسلام، فتقاطر الرحالة الجواسيس إلى الحجاز، وكتبوا تقارير عن أوضاع البلاد والعباد، كما فعل الرحالة الأسباني دومينجو باديا لبليخ Domingo Badia Y Lebich، الذي كان يعمل لصالح نابليون، وأصبحت رحلات الغربيين بمثابة توظيف قدراتهم لخدمة السياسة الغربية ضد الدولة العثمانية.

3 - الهدف الاقتصادي: تميز القرن الحادي عشر الهجري - السابع عشر الميلادي بالصراع بين البرتغاليين من جهة والبريطانيين وحلفائهم من جهة أخرى، فأخذت كل جهة تُقيم علاقات مع بلدان المشرق العربي، وهي البلاد التي تنتج البن، أو يمر عبر أراضيها إلى أوروبا. ثم عمدت تلك الدول إلى إرسال الرحالة لأغراض تجارية، ولإعداد تقارير عن الوضع الاقتصادي، وحالة الموانئ العربية على البحر الأحمر.

4 - الهدف العلمي: لا يشك أحد أن نهضة أوروبا على العلم، وبعض العلم مصدره من الشرق ومن العرب على وجه الخصوص. وكانت تدور في أذهان الأوروبيين فكرة البحث والتقصي لأجل العلم، لذا أرسلوا الرحالة يجوبون أقطار الجزيرة العربية من أجل هذا الهدف. ومن يتفحص كتابات بعض الرحالة أمثال: العالم الدنماركي كرستين نيبور Carsten Neibuhr أو تشارلز مونتاج داوتي Charles Montage Doughty يدرك على الفور مقدار الجهد الذي بُذل من أجل العلم والمعرفة.

ولابد في هذا السياق من الإشارة إلى جهل الرحالة الغربيين الأوائل ببلدان الجزيرة العربية، وهم في بعض هذا معذورون، ذلك أن أعمال الجغرافيين والرحالة المسلمين لم تترجم إلى اللغة اللاتينية، وهي لغة العلم والثقافة في أوروبا، إلاّ في القرن الثالث عشر الهجري - التاسع عشر الميلادي، وبهذا لم يتمكن الرحالة الغربيون الذين زاروا الجزيرة العربية قبل ذلك التاريخ من الاطلاع على ما كُتب عن الجزيرة العربية.

مُعظم الرحالة الغربيين الذين زاروا مدن الحجاز، وخاصة الساحلية منها، أو المدن المقدسة فيها، يتفقون مع قول شهير قاله لورنس يصف مناخ جدة: «إن جدة لم تشهد هبوب النسيم منذ سنين» ومع هذا كان لورنس T.Lawrence وغيره معجبًا بفن العمارة الحجازية، وشبهها بالطراز الإليزابيثي. لقد حاول الرحالة الغربيون التغلب على مشكلة الحر في جدة وغيرها من مدن الحجاز، فعمد مثلاً الصحفي الشهير جيمس باكنجهام James Silk Buckingham إلى اصطحاب شبكة يلتف بها ويغمس نفسه في الماء كلما شعر بوطأة الحر.


عدد القراء: 9467

التعليقات 1

  • بواسطة فيصل جعاره من سوريا
    بتاريخ 2019-12-31 17:00:39

    يعود الفضل في تعريفنا بجوانب هامة من جوانب تاريخنا الى المستشرقين . هذا الفضل يشمل الناحيتين : الإيجابية والسلبية . يجب على المتخصصين المهتمين العرب الكبار العمل على إيجاد إطار ، آلية ، الخ لترتيب وفهرسة كافة الكتب والمجلات والأعمال الاستشراقية

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-