قراءة في كتاب «موت الناقد» للناقد رونان ما كدونالدالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2020-02-01 12:20:34

حليمة داحة

باحثة في سلك الدكتوراه، كلية الآداب – جامعة محمد الخامس- المغرب

الكتاب: "موت الناقد " 

المؤلف:  رونان ماكدونالد

المترجم: فخري صالح

الناشر: المركز القومي للترجمة    

عدد الصفحات: 304 صفحة

تاريخ النشر: 2014

لقد حاول الناقد ماكدونالد رونان في كتابه "موت الناقد" أن يعالج المسائل المتعلقة بمستقبل النقد ومصيره في ظل ظهور نقد ثقافي جديد حاول أن يبصم بصمته الثقافية داخل الحقل النقدي بوسائل جديدة عن ما كان يستهلك من قبل. وبالتالي أدى ذلك إلى طرح مجموعة من الأسئلة من قبيل : هل النقد فقد قيمته النقدية وصيته من طرف الناقد؟ ألم يعد الناقد هو الحكم الفيصل وآراؤه هي المهيمنة داخل الحقل النقدي؟ أم أن ظهور طرف آخر كفيل بذلك؟ أهو إعلان عن موت الناقد؟.

إن هذا كله ما تطرق إليه الناقد رونان ماكدونالد في هذا الكتاب بتقسيمه إلى أربعة فصول:

• ففي الفصل الأول تطرق الناقد إلى عنوان عريض أسماه قيمة النقد مستعرضًا أسماء الذين أسهموا في إبراز قيمته، ويستعرض في ذلك الروائي مارتن إيميس الذي يقول على لسانه أن عصر النقد استمر من 1948 إلى عام إصدار تي إس إليوت كتابه ملاحظات حول تعريف الثقافة Notes Towards a definition of culture .وإصدارف.ر. ليفيسF.R.LEARIS  كتابه "التقليد العظيم"the creattradition  .

إن  ما يلفت النظر هنا هو أن ارتفاع المد الحداثي وفيض النقد ساهم بشكل كبير في خلق تحول جذري. ويشير إيميس مرد ذلك إلى فعل قوى الدمقرطة التي كانت عبارة عن هرميات من الخبراء في مجال النقد.

ففي فترة السبعينيات والثمانينيات نجد تراجعًا في توزيع كتب النقد الأدبي الأكاديمي وانحصاره داخل المؤسسات الأكاديمية وانصباب عمل النقاد على إصدار كتب متخصصة وأبحاث للنشر في مجلات متخصصة، في حين نجد أن هناك أكاديميين من حقول أخرى حاولوا أن يطوروا مواهبهم ويبرزوا معارفهم في الأوساط العامة مثل: ريتشارد ودوكينزا وستيفن وهوكينج وسايمون شاما وأ.سي.غريلينج.

لم يعد الأمر محصورًا في الصحف الورقية بل تطور الأمر في السنوات الأخيرة بالانتشار المهول لنوادي الكتب والمدونات على الشبكات الالكترونية، بالإضافة إلى ذلك نجد أن الإعلام التفاعلي ساهم بشكل كبير في التعبير عن الآراء الخاصة للجمهور العام الذي أصبحت لديه القدرة على تقويم ما يستهلكه على الصعيد الثقافي، أما الناقد الذي كان يشرك الآخرين في انفعالاته الشخصية وحماسته حل محل الناقد المعلم باعتباره الحكم الموضوعي والناقد الخبير.

إن ذلك أدى إلى نشوب معارضات بين رافض ومؤيد، فهناك من يرون أن المراجعات التي تنشر على الشبكة سواء أكانت مدونات مستقلة أم ذات طابع خارجي تجاري تسويقي هي سلطة من سلطات القارئ، وهناك من يرونها انحطاط في الذائقة الأدبية.

هذا الصراع تم الرد عليه من قبل الروائية سوزان هيل؛ فهي كانت من أكثر الذين قاموا بالرد على ذلك تحفظا بقولها: "كيف يجرؤ واحد من هؤلاء الذين يمثلون السلطة الأدبية القوية على الشعور أنه أرفع مقامًا من مشتري الكتب وقرائها؟ من يظنون أنفسهم حتى يتصرفوا وكأنهم أفضل منا؟.

فظهور النقد الجديد في الآونة الأخيرة خارج الجامعة أدى إلى تطور كبير بسبب توفره على تقنيات خاصة بالقراءة المتفحصة الدقيقة للكلمات المطبوعة على الصفحة البيضاء التي تمتاز بالصرامة المنهجية مما جعلها في المتناول.

ففي الوقت الذي تدعو فيه الاتجاهات الشعبوية والمعادون للحداثة إلى العودة إلى كتابة الشعر كشعر قابل للفهم والاستخدام للأوزان التقليدية نجد أن المنظرين الأكاديميين يطالبون الشعر ونقد الشعر بتسديد ديونهما والالتفات إلى المناخ السائد في الجامعة والذي يهتم بالتنوع الاثني والنظرية ما بعد الحداثية. فكلما سعى الشعر إلى كسب صداقة الجامعة انسحب نقد الشعر واستقر في اللغة الأكاديمية ولم يعد جزءًا من الثقافة النقدية العامة التي تجذب القراء غير المتخصصين.

أما في الفصل الثاني فنجد الناقد يعرض لنا أسس القيمة النقدية لكلمة ناقد معرضا بذلك لمجموعة من المعاني التي لا تزال ثابتة، فمثلاً: في الانجليزية نجد أن كلمة ناقد تعني ذلك الشخص الذي يبحث عن العيوب أو يكثر من التذمر أو ينتقص من أفعال الآخرين، وهذه المرتبة نجد أن معجم أكسفورد للغة الانجليزية هو الذي يضع هذا المعنى على رأس قائمة معاني الكلمة .

لذا ارتبط معنى النقد بالنوع القوي العنيف وبالسلبية باعتباره شخصًا سلبيًا كسولاً لا يتحمل المسؤولية، فالمعاني التي أعطيت له جعلت توماس ديكر يدمج هذه المعاني معا في معاني مسرحيته "أخبار من جهنم" قائلاً: " خذوا حذركم من النقاد إنهم مثل الأسماك يعضون أي شيء خصوصًا الكتب"، كما ارتبطت كلمة critical بحالة طارئة حرجة وcritique بصيغة من صيغ المساءلة الفلسفية.

وبالتالي فإن الشعر والفنون من وجهة نظر أفلاطون تعيق المواطن عن إدراك الحقيقة وتحقيق الفضيلة وتأخذه إلى أرض الخداع والوهم والعاطفة.

لقد شكل عصر النهضة بداية جديدة لكونه فتح أبوابا واسعة للمثل الفنية الكلاسيكية العليا، وقد كان لودوفيكو كاسيتلفيترو أهم ناقد في عصر النهضة من خلال تعليقاته وشروحه على كتاب الشعر، إذ اشتغل على وحدة المكان والزمان عند أرسطو باتخاذه نوعًا دراميًا يتسم ببنية شديدة الصرامة محكمة القواعد، فالمعيار الكلاسيكي بذلك كان معيارًا فعليًا ثابتًا في الحكم على الأعمال الفنية لأنه وفر وسيلة للناقد ليكون قاضيًا في محكمة الاستئناف التي تستند إلى مجموعة من المعايير التي يمكن التحقق من صحتها، وبذلك تكون الأحكام والتقسيمات التي أطلقها كتاب المقالات في منتصف القرن الثامن عشر لها أهمية كبيرة لازدياد أعداد الجماهير الجديدة المتعطشة لسماع الآراء المطلعة العارفة في حقول الثقافة والفنون.

وقد كان الفيلسوف الألماني ألكسندر بومغارتن هو الذي أنشأ مصطلح علم الجمال، أما الفلاسفة البريطانيون نجدهم في الفترة نفسها لم يتبنوا مصطلح بومغارتن مثل: شافتسبري وهتيشسون وبيرك وكاميس وهيوم، فرغم امتلاك كثير منهم من الأفكار عن الجمال والذوق إلا أن النقطة المحورية في نقاشهم تركزت حول الجمال في الفن لا الطبيعة.

وبذلك تزامنت كتابات الرومانسيين النقدية في تطوير نظرية الفن التي تهدف إلى الكشف عن غايته وقيمته وتدافع أيضًا على خاصية الموضوع والشكل في الشعر، وقد كان بيرسي بيش شيلي من أبرز المدافعين عن الشعر بتطويره لفكرة قوة راديكالية لأزمة التحرر الروحي والاجتماعي؛ فالشعر في نظره عنصر تكويني ذات ضرورة لولادة الأفكار الثقافية والعادات والتقاليد.

لقد كان رسكن مدافعًا متحمسًا عن كلية الفن وأهمية الحقيقة في الحياة لكونه واجبًا خلقيًا، أما في نهاية القرن التاسع عشر نجد ظهور اتجاه جديد عرف بـ"الحركة الجمالية "أسسه والتر بايتر الذي طور فيه عقيدة الجمال التي ألهمت جيلاً بكامله في مقالاته كما في كتابه "دراسات في تاريخ النهضة 1973 " .

أما في الفصل الثالث فنجده عنونه "بالعلم والحساسية"، إذ قبل البدء في الدخول في تفاصيل موضوع هذا الفصل يطرح الناقد تناقضًا جوهريًا بين الطبيعة الفعلية للجامعة وروح الأدب الحقة باعتبار العقل الأكاديمي بطبيعته  يكون حذرًا متشككًا منظمًا بدقة يبحث دائمًا عن الثغرات والعيوب وذو طبيعة تنافسية وهو فوق ذلك واع بما تفعله الحقول الأكاديمية الأخرى.

ففي بداية القرن العشرين نجد أن فرع الدراسات الانجليزية بدأ يكتسب الهيبة والاحترام باعتباره موضوعًا أكاديميًا، فمن خلاله يتم إيجاد معايير يمكن من خلالها فحص القيمة والتأكد منها. ولم يكن باستطاعة الناقد أن يمتحن الطلبة ويرفع رأسه عاليًا بين العلماء ويجلس معهم إلى الطاولة نفسها إلا إذا كان مقتنعًا بفكرة باتير عن قوة التجربة وكثافتها.

علاوة على الأكاديميين والصحفيين نجد مجموعة ثالثة في نقد القرن العشرين متمثلة في الشعراء والروائيين وكتاب المسرح الذين عززوا عملهم الإبداعي بالكتابة النقدية؛ كان لهم أثر كبير في تلقي الأعمال الأدبية المفردة بل حتى على نشر التقاليد والأعراف النقدية والجمالية، حيث نجد أن في العقود الأولى من القرن العشرين كان التجريب والتجديد في الفنون التي أطلق عليها اسم الحداثة بحاجة إلى شراح ومنظرين ليدافعوا ضمنيًا أو صراحة عن العقيدة الفنية الجديدة مثل كبار الحداثة: تي .إس .إليوت وفرجينيا وولن ودي إتست لورنس وإزرا باوندا باعتبارهم نقادًا ومراجعي كتب نشيطين.

ففي الوقت الذي سعى فيه الشعراء الحداثيون مثلتي.إس. إليوت وإزرا باوند إلى تثمين عملية التحقق وتقويتها والتخلص مما هو عادي وتافه وغير ضروري وزخرفي وذو طبيعة وصفية بدأت النظرية النقدية في التطور ووضع فروع لها للدراسة الأكاديمية لكونها نظرية تسعى إلى توفير أسس معرفية ومنهجية لتلك الدراسات. ويذكر الناقد شخصيتين رئيسيتين أساسيتين في الدراسات الانجليزية في فترة ما بين الحربين: آي .إي ريتشاردس وتلميذه وليم إمبسون؛ فريتشاردس اللذان  نجدهما سعيا مثلهما مثل الحداثيين إلى نبذ الصيغ التجارية من التسلية والمتعة والاعتماد على ردود الفعل العادية المستهلكة لكونهما أخذا عن الشكلانيين الروس تحليل الخاصيات الأدبية للأدب.

إن هذا الأمر جعل الناقد يطرح تساؤلات عن ذلك من قبيل: كيف يمكن للقصيدة أن تنفصل عن القوى الاجتماعية وتعمل في الوقت نفسه كدواء شبه روحي يعالج آثار المكننة والتغريب الذي تسببه الحياة الحضرية؟ كيف يمكن للشعر أن يكون مستقلاً تمامًا ويكون قادرا على التجدد في الحال؟.

لقد كان الأكثر شهرة وتأثيرًا في هذه الصيغة النقدية الناقد الكندي نورثوب فراي وذلك في كتابه المشهور "تشريح النقد" الذي قام فيه بتحليل التاريخ الأدبي الذي امتاز بالطابع التصنيفي المتحرر من حكم القيمة الذي به يمكن فهم الأعمال المفردة، بالإضافة إلى ذلك فقد قام بدراسة تفصيلية لفئات تصنيفية وأنماط تخص صيغا أدبية مثل: الكوميديا والرومانسية والتراجيديا والمفارقة الساخرة لتوافقها مع دورة الفصول: الربيع والصيف والشتاء مثله مثل النقاد الجدد، لكنه رفض الصيغة النقدية التي تعتمد على التاريخ أو السيرة أو الأفكار التي تدور حول السلوك الخلقي أو المرجعيات التي تشير إلى العالم الواقعي، وقام بالتركيز على نقل الأعمال الأدبية بوصفها أيقونات متصلة معزولة إلى تأسيس علاقة تربطها عبر التاريخ وهي ذات طابع نصي وسردي ومؤسسة على الأنماط البدائية الأسطورية.

إن هذا الأمر جعل فراي ومكانته تتراجع بشكل كبير رغم كونه من كبار نقاد القرن العشرين لأن محاولته في تحديد طبقات تحتية أسطورية مفترضة للأدب تعد محاولة غير عصرية في المناخ النقدي الراهن الذي يفضل الاهتمام بالتاريخ السياسي الذي يقيم خلف الأسطورة الأدبية على النقيض مما يسعى إليه عمل فراي ، إلا أنه رغم ذلك فقد كان كتاب تشريح النقد واحدًا من أكثر الأعمال النقدية الأكاديمية أهمية واحترامًا في زمنه.

إن الاتجاه الذي نتحدث عنه هنا هو النقد الخلقي الذي يركز في أغلبه على الرواية؛ إذ الرواية الواقعية في هذه الحالة لم تكشف عن العملية الخلقية بصورة مجردة بل كشفت عن الحياة الاجتماعية وما تحققه بكل ما يتضمنه ذلك من معضلات وتسويات وخصوصيات. بحيث كانت الرواية في نظر الناقد الأمريكي ليونيل تريليغ قوة اجتماعية تقدمية سعت للتغلب على العقائد الجامدة المتصلبة والتعصب ونمت الشعور بالمواطنة والسماحة والكرم الخلقيين.

وفي الفصل الرابع والأخير من الكتاب يبرز لنا الناقد النقلة النوعية والتطور الذي عرفه النقد على مستوى الدراسات الثقافية، الأمر الذي أدى إلى تسميته باسم صعود الدراسات الثقافية؛ فمنذ 1970 بدأ النقد في الجامعات يتخذ مسارًا مختلفًا خارج المؤسسة الأكاديمية.

فالأشياء والموضوعات الثقافية لا تكتسب معنى في صميم ذاتها بل في سياق خطابات معينة تمثل شبكات من اللغة والأفكار التي تربط الفرد بالمجتمع وتقيده وتحصره في الوقت نفسه في عملية التمثيل؛ أي الحقيقة. بالإضافة إلى ذلك أن أنظمة وسلطات الحقيقة تكون مسيجة بإحكام من قبل أصحاب السلطة وذلك للحفاظ على سيطرتهم وهيمنتهم وتأثيرهم. إذ الخطاب هو القوة والقوة هي الخطاب .

فإذا كانت الأشكال الفنية الاحتفالية مفضلة بسبب كشفها عن الهويات الهجينة المختلطة فالدراسات الثقافية تفضل الاستهلاك والتدمير وذلك بإعادة النظر في التصنيفات المؤسساتية والمصادرة من قبل التقاليد والمواضعات المرئية مزيلة الحدود بين الأدب والتاريخ والجغرافيا.

لكن هناك إشكالات تطرح نفسها: إذا كانت الثقافة تشمل الممارسات الإنسانية جميعها فمن أي زاوية يمكن  تعيين حدودها بحيث يستطيع المرء أن يقول شيئًا مهمًا بخصوصها؟ كيف يمكننا تشخيص شيء نحن متورطون فيه ومشتبكون معه بصورة لا فكاك منها؟ كيف يمكن أن نخرج أنفسنا من حدود الثقافة لنتمكن من تفحصها؟ بأي درجة من درجات الموضوعية؟.

إن هذه الإشكاليات يحاول الناقد إبرازها بقوله: "بما أن الدراسات الثقافية هي حريصة بشدة على التخلص من قيود المؤسسة والتمييز المتفق بشأنه من حقول البحث والمعرفة فإنها تتحول في النهاية إلى حقل منيع تمامًا  يصعب اختراقه أو تمييزه؛ لذا من المستحيل مساءلتها لأنها ترفض المساءلة".

وبذلك يكون الاهتمام العام بالثقافة الشعبية في الصحف والمجلات منذ الثمانينات صادرا بفضل أشخاص مثل: سوزان سونتاغ  وبولين كيل.

إذ من خلال هذا كله جرى تسطيع الأشكال الفنية جميعها الرفيعة والشعبية على أيدي الدراسات الثقافية وتحويلها إلى أنظمة من العلامات الثقافية، فالدراسات الثقافية تلقى عادة الظروف التي تميز كل عملية للخلق والإبداع للتعبير عن أشكال الممارسة الاجتماعية الأخرى، وهذا ما يميز الثقافة كصناعة والثقافة كفعل بين الإنتاج والاستهلاك، فالهويات الجنسية والعرقية والوطنية والأدوار الاجتماعية جميعها هي بالأساس مشكلة مبنية ومنجزة في حدود الثقافة السائدة، إذ لا يمكن بهذا أن ننظر إلى الآثار الصبغية الفردية مثل الروايات والمسرحيات كإبداعات فردية.

ففي عام 1958 كتب وليامز مقالته الشهيرة "الثقافة هي العادي" التي يشير من خلالها على المخاطر التي انطوى عليها هذا العمل، فهذا كله جعل المرء يتعاطف معه لاندفاعاته القوية من أجل دمقرطة الفنون وتخليصها من قبضة أساتذة الجامعات والأشخاص المتأنقين من أبـناء الـطبقات العليا . لكن ردة فعل الموقف النخبوي من الفنون في المجتمع أدى إلى تمزيق الهالة التي تحيط بهذه الفنون ودحض الادعاء لكونها تحتاج إلى معالجة خاصة بها، الأمر الذي سيؤدي إلى فقدان قيمتها كشيء ثمين ومميز ومختلف، هذه النتيجة أدت إلى طرح مجموعة من التساؤلات: إذا كانت الفنون شيئًا كاذبًا لما اهتم الجمهور بها؟ لما ينبغي أن يحظى الفن أو الأدب باحترام واهتمام أكبر من أي صيغة من صيغ التسلية؟ ولما ينبغي أن يحل الناقد منزلة عليا كمعلق ذي سلطة ومرجعية؟.

لقد كانت الفنون التي سجنت في متحفية الحروف والصور الاستعارية تنشقت هواءً نقيًا جديدًا من خلال وضعها في سياق التاريخ لكون ويليامز شك تمامًا بما يدعى بالفكرة الماركسية المبتذلة وأن الثقافة عنده تعكس مصالح الطبقات والفئات المهيمنة، فالثقافة يعدها موضعًا يمكن أن تتم فيها مقاومة السلطة أو تعزيزها.

وفيما بعد نجد إيجلتون تلميذ وليامز في جامعة كامبردج يتبنى مجموعة من ممارسات فوكو والقناعات السائدة في الدراسات الثقافية بخصوص مركزية السياسة والإيديولوجية وكلية الوجود واحتمالية حكم القيمة إلى تاريخ النقد بوصفه مؤسسة، إذ يصر بصورة لافتة على انخراط الثقافة المؤكد في السياسة، ففي كتبه الأخيرة أوهام الحداثة وما بعد النظرية ينتقد غياب الاهتمام بنظرية ما بعد الحداثة بالقضايا السياسية.

لكن فيما بعد نجده يعارض أنصار ما بعد الحداثة الذين يرون أن الحقائق كلها مجرد تصورات ثقافية، فالحقيقية إذن فقدت قوتها الدافعة وأصحاب المواقف الراديكالية في السياسة أمكنهم التوقف عن القول. لذلك نجد في كثير من حقول الإنسانيات كلامًا كبيرًا عن نهاية هذه النظرية بعضه مصحوب بتنهيدة ارتياح والآخر بصرخة سعادة، إذ إن انفتاح هذه النظرية الثقافية على أسئلة الجماليات يثير في عمقه نشوء علاقة جديدة متناغمة بين نظريات النقد وأسئلة القيمة، فبالرغم من أن النقد أصابته حالة من التشتت والتوسع الهائل خلال السنوات الأخيرة إلا أننا في الوقت نفسه نجد أن بعض الجماعات مارست نقدًا تقويميًا خارج الجامعات.

ومن هنا يمكن الـقـول إن هـذا الكتاب حاول أن يـتطرق لكل الجوانب سواء الـتاريخـية أو الاجتـماعية أو الـثـقـافـية التي أدت إلى تـراجع النـقـد الأكاديـمي في ظـل ظهور مد جديد للنقد الثقافي  والإعلان بكل ثقة عـن موت الناقـد.


عدد القراء: 4026

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-