فضل العرب على الإنسانية في المجالات العلميةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-01-30 18:43:09

أ.د. عبد الله بن محمد الشعلان

قسم الهندسة الكهربائية - كلية الهندسة - جامعة الملك سعود - الرياض

كان العرب في جاهليتهم يعرفون شيئًا غير قليل من شئون الطبيعة والحياة والذي يعود أكثره إلى النجوم التي كانوا يعرفونها بأسمائها ويهتدون بها، كما كانوا يعرفون الأبراج ومطالعها والسحب ودلالاتها من ألوانها وكثافتها ومن سيرها واتجاهاتها وما إذا كانت ماطرة أم جدباء مثلما كانوا يبحثون في أحوال الرياح والعواصف ويسمون كل نوع باسمه كما كانوا يذكرون جميع ذلك في أشعارهم ويتحدثون عنه في ندواتهم وأسواقهم، ولعلنا لو أمعنا النظر في أشعارهم ولا سيما في المعلقات لوجدنا غير قليل من الحكمة والرشاد وبعد النظر والذوق الفني الرفيع في التشبيه والوصف والتعبير البديع مما يدل على إعمال الفكر قبل إطلاق الكلام على عواهنه. فمثلاً يجد المدقق في معلقة زهير بن أبي سلمى ولا سيما في أبياتها الأخيرة ما يدل على العقل المفكر والرأي السديد مثل ما يجد ذلك في معلقتي أمرئ القيس وعنترة وفي الخطبة الشهيرة لقس بن ساعدة التي يصف بعضهم ما جاء فيها بما يشبه أقوال الأنبياء.

هذه كانت حالة العرب من الناحية العلمية في العصور الجاهلية، فلما جاء الإسلام برسالته السماوية وبتعاليمه السمحة سواء ماورد في القرآن الكريم أم ما جاء في الحديث الشريف أو ما أتى به العلماء المهتدون والفقهاء المحدثون والأدباء والباحثون تبدل الأمر واختلفت الحال وتحررت العقول من الظنون والشكوك والأوهام وعكف كثير من هؤلاء على العلم والبحث والتنقيب عملاً بقول الله عز وجل في الحث على التأمل والتفكر والتذكر والتدبر والسير في الأرض والنظر في ملكوت السموات والأرض كل ذلك في آيات محكمات مشفوعة بتكريم العلم والعلماء، (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)، (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)، (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)، (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا). وكان ذلك أكبر حافز في الحث على العلم والبحث والتنقيب، ثم كان العصر الأموي حيث بدأت خيوط الفجر المشرق تضيء في سماء العرب وأخذت الدعوة إلى العلم والبحث والتنقيب فكان هناك من بدأ بنقل العلوم إلى العربية والانكباب عليها والعمل على تجويدها، ثم تلاه العصر العباسي عصر النقل والترجمة فأقيمت الدواوين واستقدم العلماء وأكرموا فانكبوا يبحثون وينقبون في أفضل الكتب العلمية اليونانية والفارسية والسريانية والهندية وفتحوا بذلك أبوابًا جديدة في العلم والبحث والتنقيب بما جددوه وجودوه وأتقنوه من علوم وفنون ومعارف.

والبحث العلمي عند العرب محيط خضم واسع ومترامي الأطراف من جزيرة العرب وبلاد الشام ومن العراق وما بين النهرين إلى شرقي آسيا وما وراءها حتى الأندلس والشمال الأفريقي وبقية الأصقاع التي فتحها العرب من جنوبي إيطاليا إلى صقلية وجنوبي فرنسا حيث ازدهرت في جميعها علوم العرب وذلك يحتاج إلى مجلدات ضخمة ودراسات طويلة ذلك أن معظم العلماء العرب كانوا جهابذة تحيط بالطبيعيات والرياضيات والطب والفلسفة والفلك إلى جانب ما برعوا فيه وبزوا فيه غيرهم من الأمم في مجالات الشعر والأدب.

ولقد أسهم علماء العرب بجهد كبير في الحضارة الإنسانية والكشف العلمي فابتكروا نظريات علمية جديدة وصححوا ما في بعضها من أخطاء وطوروا الكثير منها، لقد كان لا بد من ظهور ابن الهيثم والبيروني وابن سيناء والخوارزمي والرازي والغافقي وابن يونس والكندي وابن رشد وابن زهر كي يتسنى ظهور لابلاس وفارادي ونيوتن ودالتون وآينشتاين وغيرهم، والأمة الإسلامية لم يُقدَّر لها الوصول لهذه المستويات إلا بوجود الدوافع والحوافز المختلفة التي أخذت بيد المبرزين والموهوبين من أبنائها، ففي مجال الترجمة بدأ العرب في خلافة الأمويين يأخذون بالتدرج ما عند الأمم الأخرى بالترجمة المنظمة فنقلت أفكار علماء اليونان المشهورين أمثال أبقراط وجالينوس وهيروغليس وإقليدس وأرخميدس وبطليموس، وبعد الترجمة بدأ عصر الإبداع العلمي للعرب يسطع بأسماء لامعة مثل الخوارزمي والفارابي وابن الهيثم وابن سيناء والبيروني والغافقي وابن ماجد وابن زهر والمقدسي وابن رشد والكندي وجابر بن حيان وغيرهم. ففي مجال الطب وهو المجال الذي أبدع فيه العرب في بداية نهضتهم العلمية الرائعة سواء على المستوى النظري أو العلمي اهتموا بدراسة الكيمياء والصيدلة والنباتات والبيئة بالإضافة إلى الجسم البشري ووظائف الأعضاء بل وفهم الأمور النفسية المتعلقة بالمرض وتأثيرها وذلك بعكس أمور السحر والشعوذة والتي كانت سائدة في أوروبا آنذاك، هذا ويكفي أن نقرأ كتابًا واحدًا من كتب الطب للرازي كان يشتمل على عشرين مجلدًا جمعت كل المعلومات الطبية التي كانت معروفة آنذاك، ولقد اعترف علماء الغرب أنفسهم بتفوق الرازي في الطب إلى جانب المنطق والهندسة وقد كانت مؤلفاته التي فاقت المائتي كتاب المرجع المعول عليه عند أساتذة جامعات الغرب حتى أوائل القرن السابع عشر الميلادي. وفي مجال الكيمياء كان هناك عالم عربي مبدع هو خالد بن يزيد بن معاوية الذي أوجد العلاقة بين الطب والكيمياء كأول رائد في هذا المجال، وفي الإطار نفسه يشير إلى أن المسلمين برعوا في تركيب الأدوية من عناصر كيميائية مثل الزئبق وغيره كما أدخلوا ولأول مرة السكر في تركيب الدواء المر لتحليته خاصة عندما يوصف ذلك الدواء للأطفال كما اكتشف الطبيب ابن جزلة في كتابه «المنهاج» فائدة زهر حجر أسيوس أو ملح البارود البحري في تركيب الكحل علاجًا يقوي البصر ويجلو العين ويذهب بسحابة القرنية. كما أن الرازي الطبيب العالم والمهندس المبدع كان له كتاب الأسرار الذي ترجم إلى اللاتينية وأصبح أهم مرجع في الكيمياء عند الأوروبيين، كما أن جابر ابن حيان كان من أعظم الأساتذة في هذا المجال حيث اتجه إلى اتباع المنهج العلمي والتحليل الفكري والبرهان الحسي واستعمال الأفكار الرياضية وقد تتلمذ على يديه علماء راسخون أمثال الرازي وابن سيناء والفارابي، وفي مجال الرياضيات والفلك يمكن اعتبار القرنين الثالث والرابع الهجريين (التاسع والعاشر الميلاديين) القرنين الذهبيين للرياضيين المسلمين الذين استطاعوا أن يقدموا خدمات للعلوم مثل تلك التي قدمها فارادي وأينشتاين ونيوتن وأيلر وجاوس وغيرهم، ومن هؤلاء العلماء الرياضيين الخوارزمي وثابت ابن قرة وعمر الخيام والكاشي وابن حمزة المغاربي وبهاء الدين العاملي، لذا كانت العقلية العربية كريمة معطاءة أفاضت بخيرها وعطائها على الدنيا بأسرها، وهذه المكتبات في العديد من الدول تكتظ بالمخطوطات العربية والعلمية والفلسفية والأدبية والتي تفصح عن روح البحث والابتكار والتجديد. ففي حقل العلوم الأساسية لمع العرب في الفيزياء حتى كانت كتب الكندي أساس مؤلفات بيكون وقصة الساعة التي أهداها الخليفة هارون الرشيد إلى الإمبراطور شارلمان والتي ظنوها ضربًا من السحر تدل على طول باع العرب في الفيزياء والميكانيكا. وبالنسبة للميكانيكا أو ما كان يعرف بعلم الحيل فقد طوره العرب إلى درجة عالية من الدقة والإتقان، وكان الهدف من وراء ذلك لهو الاستفادة منه وتوفير القوة البشرية والتوسع في القوة الميكانيكية والاستفادة من الجهد البسيط للحصول على جهد أكبر من جهد الإنسان والحيوان فاعتبره العلماء طاقة بسيطة تعطي جهدا أكبر أرادوا من خلاله تحقيق منفعة الإنسان واستعمال الحيلة مكان القوة والعقل مكان العضلات والآلة بدل البدن ومن ثم الاستغناء عن الطاقة الحيوية التي تعتمد على سخرة العبيد والحيوانات ومجهودها الجثماني لاسيما وأن الإسلام منع نظام السخرة في قضاء الأمور المعيشية التي تحتاج لمجهود عضلي كبير. كما حرم إرهاق الخدم والعبيد والمشقة على الحيوان بعدم تحميلهم فوق ما يطيقونه، لذلك اتجه العرب نحو تطوير الآلات والمعدات لتقوم عوضًا عنهم بهذه الأعمال الشاقة المرهقة.

ومن الصناعات أيضًا صناعة الورق التي كان للمسلمين الفضل في نشرها على مستوى العالم آنذاك فلولا الورق الإسلامي حسب توصيفه لما تقدمت العلوم ولا نشطت حركة التدوين ولولاها لما دارت مطابع أوروبا ابتداءً من القرن الخامس عشر مما أدى إلى توسع العلم بصورة عامة لسهولة الحصول على الكتاب بسبب توفر الورق الصالح للكتابة، كما استتبع ذلك تطوير للخط العربي القديم الذي كان يكتب على الرقاق بهيئة غير متكلفة خالية من الجمال والإتقان.

كما أن العرب برعوا في صناعة الأسلحة البارودية والنارية واعتبر ذلك أعظم أنجاز علمي عسكري وصلت إليه الأمة وأنه لولا الأسلحة النارية التي طور العرب ذخائرها ومدافعها في العصور الوسطى لما ظهرت القنبلة الذرية في العصر الحديث. وفي هذا يورد مقولة لفرنسيَّيْن هما رينو وفافيه يقولان فيها أن العرب هم الذين استخرجوا قوة البارود الدافعة أي أن العرب هم الذين استخرجوا الأسلحة النارية، ولأن هذه الصناعة ظهرت على يد مسلمي الأندلس في أواخر الحكم الإسلامي لجنوبها في مملكة غرناطة فإنها سرعان ما تسربت إلى الشمال الأسباني ثم إلى جنوب فرنسا وألمانيا.

وفي حقل الرياضيات نبغ كثيرون لعل من أشهرهم الكاشي واضع أسس الكسر العشري والخوارزمي الذي ظل كتابه (الجبر والمقابلة) منهلاً ثرًا ومعينًا لا يغيض لعلماء الغرب ردحًا من الزمن حتى ليصح أن يقال أن الخوارزمي يعد واضع ورائد علم الجبر. ومن هؤلاء أيضًا ثابت بن قرة وابن حمزة ومحمد البغدادي والطوسي الذي ألّف في الرياضيات ولا سيما في الهندسة وحساب المثلثات. وظهر في العرب أعلام من الجغرافيين منهم الإدريسي الذي ألّف كتابًا في الجغرافيا يُعد أعظم وثيقة علمية وجغرافية في القرون الوسطى، وفي ميدان البحار ظهر منهم أحمد بن ماجد الذي استرشد به المستكشف البرتغالي فاسكو دي جاما وهو في طريقه لكشف رأس الرجاء الصالح عام 1498م، كذلك تُرجم كتاب القزويني «آثار البلاد وأخبار العباد» إلى اللاتينية ولقبه الأوروبيون بـ «بلين العرب» نسبة إلى بلين اللاتيني الذي له كتاب تاريخ الطبيعيات. أما كتب المعاجم الجغرافية التي كان العرب المسلمون سباقين اليها فقد انتقل تأثيرها إلى أوروبا حين خرج أول معجم جغرافي أوروبي بعنوان «معجم أوتيليوس» في القرن السادس عشر الميلادي في حين كان أول معجم إسلامي هو معجم البكري الأندلسي الموسوم بـ «معجم ما استعجم». كما أن العرب يرجع لهم الفضل في استكشاف واستخدام البوصلة حيث كان التجار المسلمون المتجهون إلى شرق آسيا يستعملونها على سفنهم ثم انتقلت من خلالهم إلى التجار الصينيين، ومنهم إلى رحالة أوروبا بعد ذلك.

ان الحضارة الإسلامية لأعظم حضارة في العالم تبنت خصائص ثابتة ومعالم بارزة منها الأخلاق والنزعة العلمية والتلازم بين العلم والعمل وانطلاقًا من الدعوة الصريحة التي يوجهها القرآن الكريم إلى العلم وابتكار وسائله عن طريق تفعيل الحواس المرتبطة بالعقل عند الإنسان، كان التلازم في مسار الحضارة الإسلامية بين الإيمان والعلم، ولذا فإن أوروبا لا تستطيع إنكار فضل العرب في هذه الحضارة حيث تبنى الأوروبيون المناهج العلمية التي ابتكرها العلماء المسلمون، كما أن فضل العرب لا على أوروبا وحدها، بل على البشرية جمعاء ذلك لأن العرب الذين أقاموا دولة عظيمة مترامية الأطراف امتدت من المحيط إلى الخليج لم يكونوا كغيرهم من الشعوب التي انسابت من جوف آسيا في العصور الوسطى لتهدم وتخرب وإنما صاحب العرب الأمن والاستقرار أينما حلوا فقد نشروا مبادئ ومثلاً وقيمًا عليا مثل التسامح والإخاء والمساواة فتحولت أقطار العالم الإسلامي في ظل رعايتهم إلى مراكز علمية ومنارات فكرية يشع منها نور العلم والمعرفة.

وبعد فهذا فيض من غيض من فضل العرب المسلمين على الإنسانية في الميادين العلمية، فالعقلية العربية كريمة معطاءة أضاءت بمشاعل هديها النَّـيِّرة وأفاضت بإسهامات ابتكاراتها الخيّرة على الدنيا بأسرها مقدرة أن رسالتها لا تقف عند حدود محيطها الذاتي بل تتعداها إلى الواجب الأسمى نحو المساهمة في تشييد الحضارة الإنسانية وترسيخها. 


عدد القراء: 9167

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-