مهارات فن الاتصالالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-01-30 18:53:27

أ. د. علي بن محمد العطيف

أستاذ الحديث والدراسات العليا المشارك بجامعة جازان

الاتصال الإنساني وسيلة للتعايش بين الأمم، وعامل من عوامل نجاح واستقرار المجتمعات بكافة أطيافه، وبه يتبادل الناس الأفكار والمعارف والمشاعر، وكذلك فإن نجاح المرء في الحياة يعتمد على مدى تمتعه بمهارات الاتصال.

وهناك بعض ممارسات الاتصال مما يحبه الناس وبعضها مما يكرهونه، بل وتؤثر فيهم سلبًا أو إيجابًا وهي تجارب ناجحة، لأنَّ قدوتنا فيها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

وهذه الأساليب لها شواهد من القرآن الكريم والسنة المشرَّفة ومن الواقع، منها:

1ـ الناس يكرهون النصيحة في العلن، ويعدون ذلك نوعًا من التعيير والتوبيخ:

النصح من أعظم الخير وأجمل المعروف، ولذلك فإنه مأمور به، وواجب على الأمة كل بحسب طاقته، وواجب بالخصوص على العلماء المشهود لهم بالخير والعلم.

وإن أعظم حديث يبين معنى النصيحة هو قوله صلى الله عليه وسلم: (الدِّينُ النَّصِيْحَة -ثلاثًا - قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)1.

ولا يختلف اثنان في أنَّ النَّصيحة في العلن يكرهها الناس، لأنهم يكرهون أن تبرز عيوبهم أمام غيرهم، ويعدون ذلك نوع من التجريح والفضيحة.

2 ـ لا تكن غليظ الطبع فتُكثر من لوم الناس ومواجهتهم بما يكرهون:

النَّاسُ يكرهون من يؤنب ويوبّخ في كل صغيرة وكبيرة، ومن غير تأنٍ ودون سؤال أو استفسار.

إن اللوم والتأنيب مُرُّ المذاق ثقيلٌ على النفس البشرية فحاول تجنبه حتى تكسب حُبَّ غيرك.

فمن الناس من هو فظٌّ غليظ القلب، ذو فظاظة وكزازة، لا يلذُّ إلاَّ بالمهاترة والإقذاع، فإذا خاطب الناس أغلظ لهم في القول، وحمل لهم في طيات كلامه كل خشونة وشدة وغلظة وقسوة، يجابههم بالعنف، ويواجههم بالتوبيخ.

   قال الله عز وجل في حق نبينا: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (2) وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:" إنَّ الرِّفق لا يكون في شَيء إلاَّ زَانَهُ وَلاَ يُنْزَعُ مِن شَيءٍ إلاَّ شَانَهُ "(3).

3ـ سلِّم بخطئك حين تخطئ فهذا دليل حكمتك ورجاحة عقلك:

إنَّ الاعتراف بالخطأ عنوان التواضع، وهو يزيل التحامل الذي يمكن أن يتولد في صدر الخصم أولاً، ومن ثم يخفف أثر الخطأ ثانيًا.

فحين ترى أنك على خطأ اعمد إلى التسليم به، ولن يزيدك ذلك إلا رفعة وعزًّا، وهو كفيلٌ بأن يجعل الخصم يقف منك موقف الرحيم السَّريع العفو، وعلى العكس من ذلك إذا أصررت على الدفاع عن خطئك.

4ـ البعد عن تفخيم النفس وتعظيمها، فهو بريد الكبر:

النَّاسُ يكرهون دائمًا من يترفع عليهم، ويتميز عنهم، وينسب الفضل لنفسه، فإذا حدث إخفاقٌ ألقى بالتبعة على الآخرين، وإذا حدث نجاحٌ نسبه لنفسه.

ومعنى ذلك أنَّ اهتمام الناس كُلٌّ بنفسه، هو الصِّفة المسيطرة على البشر، فإذا كنت تهتم بنفسك أولاً، ولا تحاول اجتذاب الآخرين بالاهتمام بهم، فكيف تنتظر منهم أن يهتموا بك إذن؟

إنَّ مما نعاني منه في حديثنا ومجالسنا، الإكثار من مديح النفس والدعاوى الفارغة، وإدراج ضمير المتكلم (أنا)، أو ما يقوم مقامه، كأن يقول: (في رأيي)، أو (حسب خبرتي)، أو (هذا ما توصلتُ إليه)، ونحو ذلك.

وأقبح منه: أن يفخم نفسه أكثر من ذلك، فيأتي بضمير الجمع كأن يقول: (هذا رأينا)، أو (هذا ترجيحنا)، أو (هذا ما توصلنا إليه)، ونحو ذلك من العبارات الفجَّة، التي تنم عن غرور ونقص(4).

5 ـ لا تُركِّز على السلبيات دون الحسنات:

ومثاله القريب: علاقة المرأة المسلمة بزوجها المسلم، والتي يمكن أن يُعممَ مغزاها في كل قضايا التعامل.

يقول صلى الله عليه وسلم:"لا يَفْرَكُ مؤمنٌ مؤمنةً إن كره منها خُلقًا رضي منها آخر"(5).

قال النووي: "يَفْرَك بفتح الياء والراء وإسكان الفاء بينهما؛ قال أهل اللغة: (فَرِكَهُ) بِكَسْرِ الرَّاء يَفْرُكُهُ إِذَا أَبْغَضه (وَالْفَرْك) بِفَتْحِ الْفَاء وَإِسْكَان الرَّاء الْبُغْض".

يقول سعيد بن المسيب: "ليس من شريفٍ ولا عالمٍ ولا ذي فضلٍ إلا فيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تُذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثر من نقصه ذهب نقصه لفضله، ولا تذكر عيوب أهل الفضل تقديرًا لهم".

   والرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا المثل الرفيع، فيذكِّر بفضل الأنصار، لأنَّ البَشَرَ بِطَبعهم يَنسون الحسنات.

قال صلى الله عليه وسلم: "أوصيكم الأنصار فإنهم كرشي وعيبتي، فقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من مُحسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم"(6).

6ـ النَّاسُ يكرهون من لا ينسى الزَّلاَّت:

النَّاسُ يبغضون من لا ينسى زلاتهم، ولا يزال يُذَكِّر بها متى ما وجد لذلك فرصة، ويمُنّ على من عفا عنه، فالناس يكرهون ذلك الإنسان الذي يُذَكِّرُ بأخطائهم ويعيدها عليهم مرةً بعد مرةٍ.

والله عز وجل يقول: "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين".

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة"(7).

فالذي يذكر ويعيد الأخطاء يزكي نفسه من حيث يشعر أو لا يشعر، ويكرهه الناس ولا يحبون الاجتماع به والارتياح إليه.

7ـ احذر من النقد المباشر، ولا تواجههم بما يكرهون:

من المهم أن نحاول فهم الآخرين، وفهم أنماط شخصياتهم، ونتلمس لهم الأعذار حين تقصيرهم، فهذا أمتع من النقد المباشر، فطبيعة البشر تأبى ذلك.

ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، ومن ذلك ما ورد في قصة القوم الفقراء والذين جاؤوا وكانوا كلهم من مُضَر، وتأثر الرسول صلى الله عليه وسلم لما لهم من الفقر فقام وخطب الناس، ثم قال: "تصدق رجلٌ من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع تمره، فجاء رجلٌ من الأنصار بِصُرّة كادت تعجز يده عن حملها، بل عجزت، وقدمها للرسول صلى الله عليه وسلم فاستهل وجهه وقام الناس وتصدقوا فأصبح عنده كومة من الصَّدقات، وفرح الرَّسول صلى الله عليه وسلم فقال: "من سَنَّ في الإسلام سُنةً حسنةً ..." الحديث(8).

إنَّ النَّقد المباشر مؤشر الانهزامية والضَّعف، ورِقَّة الدِّين والعقل، بخلاف ما إذا تريث وتأنى، فإنَّ ذلك أدعى للقبول وعدم التعصب(9).

فاحذر من النقد المباشر الذي لا تكسب منه سوى إيغار الصدور، وتبديل الصديق عدوًا.

والنقد المباشر له صور، منها:

- العجلة وعدم التريث، وإبداء الرأي مباشرة وبسرعة، كل ذلك دونما نظر في العواقب، أو مراعاة للمصلحة.

وهذا الصَّنيع مما يتنافى مع الحزم، ومما يعرض صاحبه للزَّلل والخطأ، فلا خير في الرأي الفطير، ولا الكلام القضيب(10)، والعرب تقول: "الْخَطَأ زَادُ الْعَجُول"(11).

- الشدة في العتاب وقلة التغاضي عما يصدر من الأخطاء مما يسبب الفتور والجفوة.

والعاقل اللبيب صاحب الخلق الكبير هو الذي لا يعاتب إخوانه عند كل صغيرة وكبيرة، ولا يعين الشيطان عليهم، بل يلتمس لهم المعاذير ويحملهم على أحسن المحامل فهو مما يعين على استبقاء المودة واستجلابها، ودليل على سمو النفس وشفافيتها وهو مما يرفع المنزلة ويعلي المكانة، فإذا كان هناك ما يستوجب العتاب عاتبهم عتابًا لينًا رقيقًا.

قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: (من لم يعاشر الناس على لزوم الإغضاء عما يأتون من المكروه، وترك التوقع لما يأتون من المحبوب: كان إلى تكدير عيشه أقرب منه إلى صفائه، وإلى أن يدفعه الوقت إلى العداوة، والبغضاء أقرب منه أن ينال منهم الوداد وترك الشحناء)(12).

8 ـ الفت النظر إلى الأخطاء تلميحاً وبكُلِّ لباقةٍ:

الناس جميعًا يكرهون أن ينتقدهم غيرهم، إلا أننا كثيرًا ما نفعل أفعالاً تستدعي الانتقاد، فإذا وددت انتقاد الغير وكان هناك موجبٌ حقيقيٌ لذلك، فكيف نفعل؟

لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم أسوة حسنة، حينما قال لعبدالله بن عمر رضي الله عنه: "نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل"(13)، فنجد أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم عالج ذلك بكل لباقةٍ وحكمة، فقدم المدح والثناء قبل لفت النظر إلى الخطأ.

إنَّ المقصود بالانتقاد والتوجيه هو إصلاح الغير مع ضمان عدم إثارة البغضاء في قلبه، ولهذا كان على المنتقد أن يلجأ إلى التلميح ما بال أقوام، ومن طرفٍ خفيٍ.

 9ـ تكلَّم عن أخطائك أولاً، وقدٍّم اقتراحات مهذبة:

افعل هذا، ولا تفعل ذاك لا تعطي نتيجةً طيبةً كقولك: (أليس من الأفضل أن تفعل هذا؟) أو (أليس من الأفضل أن لا تفعل ذاك؟) ذلك أن الأمر الجازم صعبٌ على النفس أن تتقبله، وحتى لو تقبله الرجل الذي توجه إليه الأمر فإن توجيهك ذلك له يُبقي في نفسه جرحًا غائرًا يطول قبل أن يندمل، أما الاقتراح (المهذب) فهو مستساغٌ لا يشعر المرء تجاهه بغضاضةٍ، فينفذه راضياً محتفظًا بكرامته وتقدير نفسه.

10ـ لا تعامل الناس باستعلاء:

الناس يكرهون من يعاملهم باحتقارٍ واستعلاءٍ مهما كان هذا الإنسان.

روى هارون بن عبدالله الجمال، فقال: (جاءني أحمد بن حنبل بالليل، فدقَّ علي الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: أنا أحمد، فبادرت وخرجت إليه فمساني ومسِّيته فقلت: حاجة أبي عبد الله؟ قال: شغلت اليوم قلبي. فقلت: بماذا يا أبا عبدالله؟، قال: جُزتُ عليك اليوم وأنت قاعدٌ تُحدِّث الناس في الفيء (الظل) والناس في الشمس بأيديهم الأقلام والدفاتر. لا تفعل مرة أخرى، إذا قعدت فاقعد مع الناس).   

إنَّ التعالي على الناس مرتعٌ وخيم، ودليل السّفه ورقة العقل والدين، وإلا فالكريم العاقل يرفع من شأن الآخرين ولا يترفع أو يتعالى عليهم.

قال ابن المقفع: (تَحَفَّظْ في مَجلسك وكلامك من التطاول على الأصحاب، وطب نفسًا عن كثير مما يعرض لك فيه صواب القول والرأي مداراة، لئلا يظن أصحابه أن دأبك التطاول عليهم)(14).

11ـ احترم آراء الآخرين، ولا تقُل لأحدٍ: أنت مخطئ:

إنك قد تفحم محاورك، وتعجزه عن الجواب، لكنك ولا شك لا تقنعه، بل احفظ عليه ماء وجهه، ولا تلجئه إلى الخطأ والخطل، وظلمه وإساءة الظن بك.

إنَّ قِلَّة المراعاة لمشاعر الآخرين داء قلبي خطير، ولهذا كان الرجل النبيل، ذو المروءة والأدب، هو من يراعي مشاعر الآخرين فلا يؤذيهم بكلمة ولا يجرح مشاعرهم بإشارة أو نحوها، بل يحفظ عليهم كرامتهم وماء وجوههم.

قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: (خَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: عَشْرُ سِنِيْنَ، فَمَا ضَرَبَنِي، وَلاَ سَبَّنِي، وَلاَ عَبَسَ فِي وَجْهِي)(15).

قال ابن المقفع: (اعدلُ السِّير أن تقيسَ الناس بنفسك، فلا تأتي إليهم إلا ما ترضى أن يُؤتى إليك)(16) .

وفي الحديث الصحيح: (من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأتيه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليحب أن يأتي للناس الذي يحب أن يأتي إليه)(17) .

12ـ الناس يحبون من يُصحح أخطائهم دون جرح مشاعرهم:

من الناس من إذا رأى أو سمع ما يشين – ولو في نظره – بادر إلى تكذيبه، وتفنيد قوله، إما تصريحًا، أو تلميحًا، أو إشارة باليد أو العين، أو يهمز من بجانبه، ليشعره بأن هذا المتحدث مخطئ أو مبالغ في قوله، أو...

وهذا العمل من العجلة المذمومة، ومن إساءة الظن بمن يتحدث، وهو مما ينفي كمال الأدب والمروءة.

بل ينبغي أن تَحفظ له كرامته وحظه من الانبساط والمحادثة؛ ولا يبادر إلى تخطئته، وإن رأى في حديثه وجهَ غرابة فلا يستعجل الحكمَ عليه بالخطأ أو الفسق أو الكفر.

13ـ حاول تجنب الجدال والخصومة قدر استطاعتك:

إنَّ الجدال والمراء والخصومة داء عقيم الفائدة وهو دأب كثير من الناس سواء في أحاديثهم ومجالسهم أو في مطالبهم وخصوماتهم، فتراهم يتجادلون، ويتمارون عند كل صغيرة وكبيرة لا لجلب مصلحة ولا لدرء مفسدة ولا لهدف الوصول إلى الحق والأخذ به وإنما رغبة في اللَّدَدِ(18) والْخُصومة وحباً في التَّشَفي من الطرف الآخر.

قال الإمام النووي: (مما يذم من الألفاظ: المراء، والجدال، والخصومة): (... والخصومة توغر الصدر، وتهيج الغضب، وإذا هاج الغضب حصل الحقد بينهما، حتى يفرح كل واحد منهما بمساءة الآخر، ويحزن بمسرته، ويطلق العنان بعرضه.

ثم قال: قال بعضهم: ما رأيت شيئًا أذهب للدين، ولا أنقص للمروءة، ولا أضيع للذة، ولا أثقل للقلب، من الخصومة.

والخصومة: مبدأ الشر، وكذلك الجدال، والمراء، فينبغي أن لا يفتح عليه باب الخصومة إلا لضرورة لابد منها، وعند ذلك يحفظ لسانه وقلبه من آفات الخصومات)(19).

وفي الحديث: "إذا أراد الله بقوم سوء نزع منهم العلم وأودع فيهم الجدل"(20).

وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان مُحِقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه"(21).

14ـ افهم الناس، واظْهِر اهتمامك بهم أكثر من اهتمامك بنفسك:

من خلال التأمل فإن أكثر مشاكلنا سواء الأسرية أو الاجتماعية أو المؤسسية منشأها سوء التفاهم، وسوء التفاهم منشأه من قصور إما في صاحب الرسالة أو فيمن تلقى الرسالة، أعني قد يتكلم المرء فيخطأ في التعبير، أو أن من يتلقى الكلام هو من يفهم الكلمات بشكل خطأ، فينشأ من هذا سوء الفهم، يؤدي بدوره لضياع الوقت والجهد والمال والأرواح!!

وحتى لا نقع في هذا الخطأ عليك أن:

1) تستمع، بدون مقاطعة.

وتجنب أن تبادره بقولك (الزبدة)، أو (الخلاصة)، أو (هات من الأخير).

وبراعة الاستماع تكون: بالأذن، وطرف العين، وحضور القلب، وإشراقة الوجه(22).

  قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "لِجَلِيْسِي عَلَيَّ ثَلاَثٌ: أَن أَرْمِيه بِطَرْفي إِذَا أَقْبَلَ، وَأَن أُوسِّعَ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ إِذَا جَلَسَ، وَأَن أُصْغِي إِلَيْهِ إِذَا تَحَدَّث"(23).

2) حاول أن تفهم وجهة نظر الشخص المتكلم، وإن لزم الأمر أسأله عما يعنيه بكل هدوء وأدب.

3) بعد أن ينتهي الشخص المتكلم من كلامه، اختصر كلامه بقولك: (ما فهمته من كلامك.. كذا وكذا)، فإن أجاب بنعم، فمعناه أن فهمك لكلامه صحيحًا.

4) استمع دون أن تجهز ردًّا، بل ولا تظن بأن عليك أن ترد عليه مباشرة، فكر قليلاً ثم أجب، وإن لم تحصل على رد أو إجابة أخبره بكل بساطة أنه لا يحضرك ردٌّ أو شيء في هذه المسألة.

15ـ كُن في خدمة الناس وقضاء حوائجهم:

إنَّ النَّاسَ يُقدِّرونَ من يَسعى فِي حَاجتهم ويَشْفَعَ لَهُم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أحب الناس إلى الله عز وجل أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرورٌ تدخله على مسلم، تكشف عنه كربًا، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولو أن تمشي مع أخيك في حاجته أحبُّ إليَّ من أن تعتكف شهرًا)(24).

لقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، والميل إلى من يسعى في قضاء حاجاتها ولذلك قيل:

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم

                              فَطَالَما استعبد الإنسانَ إحسانُ

وأولى النَّاس بالكسب هم أهلك وأقرباؤك ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)(25).

16ـ قَدِّم خَدماتٍ للآخرين قبل أن تُطْلبَ منك:

إِنَّ النَّاسَ يشيرون بالبنان لمن يعمل ويخدم ويقدم للآخرين لأنه يأسر قلوبهم بفعله، ويكفينا في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وَعَلَيَّ جَمْعُ الْحَطَبِ)، أليس هو القائد؟، إذن لماذا لم يكتف بالإشراف والتوجيه على أصحابه، بل كلف نفسه مثلهم أو يزيد؟

إنه الأدب والخلق الرفيع الذي وصفه ربه بقوله: "وإنك لعلى خلق عظيم".

17ـ نادِ الناس بأحب أسمائهم، وتعرَّف على أنسابهم:

كان صلى الله عليه وسلم ينادي أصحابه بأحب أسمائهم، عن أنس بن مالك: "كان النبي يدعو أصحابه بكناهم إكرامًا لهم واستمالةً لقلوبهم، ويُكنِّي مَن لم يكن له كُنية، فكانَ يُدعى بما كناه له. ويُكنِّي أيضاً النساء اللواتي لهُنّ أولاد، واللّواتي لم يلدنَ. ويُكنِّي الصبيان فيستلينُ به قلوبهم"!.

قال: (يا أبا عمير ما فعل النغير؟)(26) وأبو عمير طفلٌ صغير.

18ـ ابعث في الآخر رغبةً جامحةً في أن يفعل ما تريد منه:

وهي أن تشعر الإنسان بمحبة الأمر حين تعطيه إياه وكان ذلك هو دأب الرسول صلى الله عليه وسلم فكان يشوق الناس لما يأمرهم به، فلما أراد أن يُسيّر جيشاً قال: (لأعطين الرَّاية غداً رَجلاً يحبه الله ورسوله)(27) فسار كلُّ فردٍ يتمنى ذلك.

إذا أراد إنسانٌ أن يصرف شخصًا عن طبع سيئ مثلاً فمن الخطأ أن يقف موقف المرشد الناصح في الوعظ، فتِّش عن رغبةٍ يود هذا الشخص بلوغها ثم اربط تلك الغاية بالإقلاع عن هذا الطبع السيئ، وستجده ينصرف عنه فعلاً؛ طمعًا في الوصول إلى الغاية لا تأثرًا بصواب رأيك ابتداءً. (ولا يُفهم من هذا التقليل من شأن الوعظ).

19ـ فَن البراعة في الحديث:

إنَّ النَّاسَ لا يريدون منك أن تتحدثَ عن تَجاربك وخبراتك، فلهم خبرات أيضًا، وخير مُحدِّثٍ هو من يستمع بشغفٍ إلى الآخرين، اسأل مقابلك سؤالاً ودعه يتحدث في تخصصه أو ما يتقنه، بذلك يشعر بالامتنان لك وتظفر بصداقته سريعًا، إذا أتحتَ له فرصة التحدث عن تجاربه وظللت مصغيًا له باهتمامٍ، إنَّ الاستماع المشغف هو أعلى ضروب الثناء الذي يمكن أن تضفيه على محدثك، فالناس يحبون من يفتح لهم المجال لتحقيق ذواتهم.

20ـ قدّر غيرك تفز بتقديره لك، ولا تظهر الملالة من حديثه أو جلوسه:

إنَّ التقدير من الغَير غِذاءٌ للنَّفس كما هو الطَّعام للجَسد، بل إنَّ النَّفس أرهف حساسيةً وأجلّ شأنًا؛ قد يصوم المرء وينقطع عن الطعام والشراب، أما عن حاجته إلى تقدير الغير له فلن يستطيع.

إذًا... لماذا لا ندع الآخرينَ يختزنون في ذاكرتهم أنغامًا حُلوةً وكلماتٍ محببةٍ عن تقديرنا لهم وشعورنا بأهميتهم؟

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم الناس لجلسائه، فقد كان يعطي كل واحدٍ من جلسائه نصيبه، ولا يحسب جليسه أنَّ أحدًا أكرم عليه منه(28).

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "أعزُّ الناس عليَّ جليسي، الذي يتخطى الناس إليَّ، أما والله إنَّ الذباب ليقع عليه فيشق عليَّ! "(29) .

   قَالَ الأَحْنَفُ بنُ قَيْسٍ: "لَو جَلَسْتُ إِلَى مِائَةٍ لأَحْبَبْتُ أَنْ أَلْتَمِسَ رَضِى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُم"(30).

وَقِيْلَ للأَوْزَاعِيّ: "مَا إِكْرَامُ الضَّيْف؟ قَالَ: طَلَاقَةُ الوَجْهِ، وَطِيْبُ الْكَلَامِ"(31).

 21ـ تكلم فيما تظن أنه يسر محدثك:

إذا أردت إدخال السرور إلى قلوب الناس حدِّثهم فيما تظنهم يودون الاستماع إليه أولاً، وبذلك تستدرجهم إلى التحدث، والحديث الشيِّق اللذيذ فتصغي إليهم بشغف، ويعتبرونك مُحَدِّثاً بارعاً تستطيع جلب مسرتهم.

قَالَ الْحَسَنُ البَصْرِيّ: (إذا جالستَ فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تعلم حسن القول، ولا تقطع على أحد حديثه)(32).

وَقَالَ أَبو عَابِد: "للمحدث على جليسه السامع لحديثه أن يجمع له باله، ويصغي إلى حديثه، ويكتم عليه سره ويبسط له عذره"(33).

وَمِنَ التَّكَلُّمِ فِيْمَا لاَ يَسُرّ:

1 - الحديث بِما لا يناسب المقام: فإنَّ هذا مِمَّا لا يَسُرُّ مُحدثك:

عن علي رضي الله عنه قال:(حدثوا النَّاس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله)(34).

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (ما أنتَ بِمُحَدِّثٍ قوماً حديثاً لَا تَبْلُغُهُ عُقُولهُم إلَّا كَانَ لِبَعْضِهِم فِتْنَةً)35.

ومن هنا: كان من الأهمية بمكان أن يتعرف المرء على أحوال الناس، وأن يراعي عقولهم.

ومن الحديث بما لا يناسب المقام: الحديث عند من لا يرغب الاستماع.

   قال البيحَانِي:(وإذا رأيت من جَلِيْسِكَ الإعْرَاضَ عَنْكَ أَو الاشْتِغَالَ بِأَمْرٍ آخَر فَلا تُكَلِّمْهُ وَلاَ تُكَلِّفْهُ الاسْتِمَاعَ إِلَيْكَ).

2 - الخوض فيما لا طائل منه:

إنك لو أجلتَ النظر في مجالس النَّاس، وأصخت السَّمع لأحاديثهم لوجدت أنَّ جُلَّ حديثهم واهتمامهم إنما هو بطرح قضايا باردة، وبطرق موضوعات تافهة، تَنِمُّ عن همم دانية، وعقول خاوية، لا تخطب المعالي، ولا تنشد الكمالات، بل تدور حول الصغائر والسفاسف والمحقرات.

فما لهذا رُكبت الألسنة في الأفواه، ولا بهذا تقدر نعمة اللسان وموهبة البيان(36).

22ـ امتدحِ النَّاس فيما يُجيدونهُ:

اختر شيئًا جميلاً فيهم وحدّثهم عنهُ ولن تُعدمَ ذَلِكَ الشَّيء الْجَمِيْل. فالناس يختلفون ويتفاوتون، ولكنه لا يمكن إلا أن تجد شيئًا جميلاً في كل فردٍ منهم، فالناس يحبون أن تمدح الناحية الجميلة فيهم.

23ـ النَّاسُ يُحبونَ الشُّكْرَ وَالتَّشْجِيع:

وإن كان الأصل في المسلم أنَّه يعمل العمل ابتغاء رضا الله ولا ينتظر شكر الناس، ولكن ذلك طبعٌ في البشر وذلك لا بأس منه شرعًا.

روى أحمد والترمذي: «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» (37).

وكذلك قوله ومن هنا: كان من الأهمية بمكان أن يتعرف المرء على أحوال الناس، وأن يراعي عقولهم: (اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الآخِرَهْ فَأَكْرِمِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَة)(38).

وكذلك حديث: (مَن صَنَعَ إِلَيْكُم مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ... )(39) الحديث.

24ـ ابتسم للناس، يبتسمون لك:

إنَّ قسمات الوجه خيرُ معبِّرٍ عن مشاعر صاحبه، فالوجه الصبوح ذو الابتسامة الطبيعية الصَّادقة خير وسيلةٍ لكسب الصَّدَاقة والتَّعاون مع الآخرين، قال صلى الله عليه وسلم في الحث على البشر والتلاطف: (تبسمك في وجه أخيك صدقة)(40).

25ـ تهادوا تحابوا:

الهدية قد تكون بسيطةً جدًا في قيمتها ولكنها تُدخل سرورًا وتُظهر مدى الاهتمامِ بالمهدى إليه، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن المصطفى صلى الله عليه وسلم: (تهادوا تحابوا)(41).

وفي رواية عنه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الهدِيَّةَ تأخذُ بالسَّمْعِ وَالبَصَرِ وَالقَلْبِ"(42).

26ـ دع الغير يظنُ أن الفكرة هي فكرته:

لأن الناس تجفل في الغالب ممن يملي عليها أفكاره، الناس تفضل أن تتصرف طبقًا لأفكارنا وعلى سجيتها، وكم هو مزعج أن يفرض الغير آرائهم علينا خاصة إذا كانت خاطئة، أو مرجوحة.

إذن اجعل الشخص الآخر يشعر أنك بحاجة إلى فكرته … قدّم له المقترحات واتركه يفكر بالنتائج بنفسه، إذا أردت أن تكسب روح التعاون عند الآخرين فاجعل الشخص الآخر يحس أنَّ الفكرة هي فكرته؛ فالرجل العاقل إذا أراد أن يتصدر الناس جعل نَفْسَه خلفهم.

27ـ تفهَّم عواطف الآخرين، واستثر عواطفهم النبيلة وارض لهم ما ترضى لنفسك:

كما أنَّ لك عاطفة تسوقك في كثيرٍ من الأحيان إلى اتخاذ موقفٍ معينٍ، أو تبني رأيٍ خاصٍ، فإن للآخرين عواطف أيضاً، وكما يسرك بأن يراعي الآخرين عاطفتك، فإنهم يسرهم أن تراعي عواطفهم بنفس المقدار.

مهما بدا الناس عتاةً قساةَ القلوب غير رحماء، فإن طبيعتهم الإنسانية هي التي تسود آخر الأمر، إنهم ضعفاء، إنهم يطلبون التعاطف معهم، بل والعطف عليهم، فإذا قلت لمحدثك: إني لا أوجه إليك اللومَ، إذ إنني سأفعل مثل ما فعلت، لو كنتُ مكانك. فإن هذا كفيلٌ بضمان انجذابه إلى جانبك، واستلالِ كل حقدٍ أو تصورٍ كان من الممكن أن ينشأ بينكما، إذا كنتما مختلفين على أمرٍ من الأمور.

إن استثارة العواطف النبيلة في قلوب الآخرين طريقة ناجحة في كسب الناس إلى وجهة نظرك، كما أنها لن تؤدي إلى مضرَّةٍ لو قُدِّر لها الفشل.

 

الهوامش:

1 - رواه مسلم (1/74)، برقم (55)

2 - سورة آل عمران، الآية 159.

3 - رواه مسلم في صحيحه (564)

4 - في أصول الحوار، ص75.

5 - رواه مسلم (2672.(

6 - رواه البخاري (3799).

7 - مسلم (1077).

8 - مسلم (1017).

9 - روضة العقلاء لابن حبان، ص 216.

10 - الرأي الفطير: هو الذي لم ينضج، والكلام القضيب: هو المرتجل. زهر الأدب (1/154).

11 - مجمع الأمثال للميداني (1/431).

12 - روضة العقلاء، ص 72.

13 - أخرجه البخاري (1070)، ومسلم (2479).

14 - الأدب الصغير والأدب الكبير، ص 134.

15 - أخرجه البخاري (5691)، ومسلم (2309).

16 - الأدب الصغير والأدب الكبير ص 73.

17 - أخرجه مسلم (1844).

18 - قال ابن حجر: الألد بالشديد الخصومة لأنه كلما أخذ عليه جانب من الحجة أخذ في آخر أو لإعماله لديدية وهما جانبا فمه في المخاصمة. وقال أبو عبيدة في كتاب المجاز في قوله قوما لدا واحدهم ألد وهو الذي يدعي الباطل ولا يقبل الحق. انظر فتح الباري (13/181).

19 - ينظر: الأذكار، ص 329-330.

20 - رواه الترمذي في سننه (3253)، وقال: حسن صحيح، وابن ماجة (48)، والحاكم في المستدرك (3674)، وقال: صحيح على شرطهما.

21 - أخرجه أبو داود (4800)، والترمذي (1993)، وقال: حديث حسن، وابن ماجة (51).

22 - اكيف تحاور للدكتور طارق الحبيب، ص 21.

23 - عيون الأخبار (1/306).

24 - أخرجه الطبراني في (الأوسط) (6026)، وأبو الشيخ في (التوبيخ والتنبيه) (97)، وقال الألباني حسن لغيره، في صحيح الترغيب والترهيب برقم 2623.     

25 - سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني برقم (285).

26 - البخاري (5778)، ومسلم (2150).

27 - البخاري (3111)، ومسلم (1442).

28 - دلائل النبوة لأبي نعيم، ص 555.

29 - عيون الأخبار (1/307)، وبهجة المجالس (1/45).

30 - بهجة المجالس (1/45).

31 - روضة العقلاء، ص 161-162.

32 - المنتقى من مكارم الأخلاق، ص 155.

33 - زهر الآداب (1/195).

34 - أخرجه البخاري في صحيحه (127).

35 - أخرجه مسلم في المقدمة من صحيحه (1/11).

36 - خلق المسلم، ص 77.

37 - رواه أحمد برقم (11584)، والترمذي رقم (2081)، وقال الألباني صحيح الإسناد.

38 - البخاري برقم (3796)، ومسلم (4775).

39 - أخرجه أبو داود في سننه (1672)، والنسائي (2348)، وأحمد (5365)، والحاكم في المستدرك (1502)، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

40 - رواه مسلم، رقم1418

41 - أخرجه البخاري في الأدب المفرد (594)، وأبو يعلى في المسند (6148)، والطبراني في الأوسط (7240)، قال الحافظ ابن حجر في التلخيص (3/69-70): "إسناده حسن ".

42 - أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق (361).


عدد القراء: 3631

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

التعليقات 1

  • بواسطة رقية نبيل من
    بتاريخ 2021-02-12 20:13:05

    جزاكم الله كل خير وبارك في علمكم ، من أمتع وأنفع ما قرأت

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-