وَهْم التكنولوجياالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-01-31 04:53:42

أ.د. يعرب قحطان الدُّوري

جامعة الشارقة، الإمارات العربية المتحدة

تكشفت مع موجة كورونا الثانية حقائق أثبتت للإنسان أن سنين حياته بين العلوم والمعارف والتكنولوجيا قد لا تنقذه في أحلك الظروف كما هو حاصلٌ الآن في زمن كورونا. بل يساوره الشك كثيرًا عما سلف من عمره وجهوده وتفاعله التكنولوجي في الحياة الفسيحة. لكن يبقى العقل هو الموجّه والمسيّر والمنقذ من العواقب السيئة نحو الحالة الأحسن ومن الصعوبة إلى اليسر. لكن إحباطه قد يصل بالإنسان إلى أدنى درجات اليأس والمرارة مما لا تعينه التكنولوجيا على مصاعب الحياة وهنا الجانب المظلم للتكنولوجيا. وقد يظن متوهماً وصوله إلى العلوم الكاملة كعلم مكتمل، لكنه يصطدم بحقائق قد لا تخطر بالبال بل يعجز عن مواجهة ما لم يتوقعه أبداً فيصل إلى مرحلة الانقطاع المطلق.

يعرّف وَهْم التكنولوجيا على أنه انحياز بشري يصيب به المثقفين والخبراء من العلماء والمهندسين والأطباء بدرجات متفاوتة، بل يراد بالوَهْم أنه كلما زاد تعمقه والخوض في التخصص أكثر فأكثر بدون فائدة أو منفعة في الأوقات العصيبة. وللوَهْم أنواع منها اعتقاد طالب العلم في التكنولوجيا معرفته الكبيرة جدًّا بالحقيقية. وكذلك التداخل لديه بين الاطلاع والتكنولوجيا. فمثلاً يكون البعض قد فهم واستوعب النانوتكولوجي وأدرك معناها وتطبيقاتها فيعقتد أنه عرف المادة، لكنه فهم الفكرة فقط بل يبدو حائرًا عندما يهمُّ بالتحضير التكنولوجي وتنفيده على أرض الواقع.

إن وَهْم التكنولوجيا أكبر من الجهل البسيط بل أخطر من الجهل المعقد. فالجهل المعقد يضر صاحبه فقط، بينما وَهْم التكنولوجيا يضرالمجتمع بأكمله. وتوجد عوامل عصرية تساهم بانتشار وَهْم   التكنولوجيا بسهولة أبرزها الظرف الطارئ على البشرية منذ مطلع 2020 حيث انتشر فايروس كورونا سريعًا ليعم جميع الكرة الأرضية، ويتبعها انتشار الإعلام عبر الفضائيات ومختلف مواقع التواصل الاجتماعي. وبالنتيجة أعتقد البعض المطلعين على العلوم والتكنولوجيا على قدر من المستوى والخبرة أن التكنولوجيا قادرة على مواجهة فايروس كورونا، وهنا تكمن المشكلة الحقيقية. لذا لا بد من مقترحات وجهود حثيثة لعقلنة المواجهة الحديثة والمفاجأة للبشرية عبر إدراك حقيقي لمرض وَهْم   التكنولوجيا ثم التفكير جديًا وبإرادة سياسية حقيقية بدءً من الفرد ثم المجتمعات ثم الدول لوضع حد للجهل الذي أصاب الإنسان بمرارة التكنولوجيا. حيث يعتبر الإنسان ذكي بالفطرة وفضولي بطبعه لاستكشاف ما حوله. بل يقع في ظن الخطأ بعد رؤيته للانجازات التكنولوجية أنه قد أصبح من عِلية المثقفين، متجاهلاً حقيقة الواقع المعاصر المحيط بنا بضرورة التبصر بعمق العقل للوصول إلى الحقيقة الصحيحة غير المزيفة.

فالجهل أقل ضررًا من وَهْم التكنولوجيا، لأن الجاهل يؤمن بأنه لا يعرف ويرغب بالتزود من العلم، ولكن واهم التكنولوجيا يعتقد يقينًا أنه يعرف كل شيء، بظاهر الأمور وباطنها متقمصًا دور المنتقد ومعتقدًا وصوله علم اليقين. أن حلم السير في الفضاء بين اللنجوم دون التفكير العميق قد يودي بصاحبه الواهم إلى الهاوية، ويبدو أن المجتمع حافل بالكثير من هذه الأمثلة، وبالنهاية نجد أنها مجرد أوهام تأخذها الريح إلى المجهول. والجلي في الأمر افتقار المجتمع إلى النقد البنّاء منساقاً وراء الشهرة فقط، فتطغى الأنا وينسى أنه ما يزال في بداية الطريق. لذا يظن واهم التكنولوجيا أنه يعرف الكثير من الأمور بل أصبح مثقلاً بها، وعندئذٍ وقع في الفخ جهلاً وعنادًا ومؤكدًا حقيقته كأحد الأمراض النفسية المجتمعية.

 والعبرة ليست بعدد الشهادات العلمية والتدريبية والخبرات العملية بقدر ماهية التجرد الحقيقي للرسو على ساحل العلم والتكنولوجيا. وعلينا عدم الانسياق وراء الوَهْم ولا تجعل عدوك بداخلك، فمحاولتك الشخصية هي القضاء الحقيقي على الوَهْم وبداية صادقة في طريق الوعي والعلم للنجاة من طوفان الجهل والوصول بسلام إلى الحياة السليمة المستفادة من العلم والتكنولوجيا.

في الواقع معظمنا لا يملك فهم وَهْم التكنولوجيا فهمًا عميقًا لكيفية استثمار عمل الأجهزة اليومية، ومع ذلك نفترض فهمنا لها بنسب متفاوتة بما يعود على البشرية بالنفع على أكبر عدد ممكن من الناس. حيث يعتمد الإنسان بالكامل على الذاكرة والتأني، وعلى تمييز الأنماط ونفاذ البصيرة. يضاف إلى ذلك أن معظم معرفتنا مستوردة من خارج أجسامنا، من المحيط والبيئة كمصدر قوة. حيث تمكننا المعرفة بطريقة سير العالم بمجرد تقليب النظر فيما يحيط بنا، والتوصل إلى استنتاجات دون الحاجة إلى رؤية كاملة.

فمع ازدياد حجم وتعقيد المجتمع، تتطور القدرات المعرفية ويتقاسم العمل المعرفي كسمة للتعاون العلمي في البحث العلمي. وأن ما ينطبق على تكنولوجيا الاتصالات والذكاء الاصطناعي وغيرهما ينطبق على مصاعب انتاج لقاح لفايروس كورونا، أهو فشل معرفي أم تباطؤ تكنولوجي أم عجز إنساني. فلو لم يكن بإمكاننا الاستفادة من معارف الآخرين والتعاون الحقيقي فيما بيننا، لما استطعنا النجاح وهذا هو حثيث البشرية اليوم بعد قرابة السنة على تفشي فايروس كورونا. وقد يكون الوَهْم من منتجات النضج الثانوي.

 نصل إلى أهمية أكبر للتكنولوجيا وهي التفكير التكنولوجي بإعتباره الوجه الآخر للذكاء الفردي والمجتمعي والرسمي، والذي يقود تفسير قدرتنا على التبني الصحيح لأفكار رائدة لتلبية حاجيات أساسية. فرض فايروس كورونا نفسه واقعياً ليحفّز المختصين وصنّاع القرار لتسخير التكنولوجيا لإيجاد لقاح ناجع وناجح وفعّال في أقرب فرصة لإنقاذ البشرية، ما يجعله تحدي حقيقي لترويض التكنولوجيا وإلا لا فائدة منها في ظرف عصيب تمر به الكرة الأرضية كلها. حيث يعتبر الوَهْم مخرجًا للكثير من الحقائق البائسة، بل أن أفضل طريقة لتغيير الوضع هو تبني استراتيجية تساعد على إدراك المساوئ وتشخيصها تماماً ما يدفع المخططون والمفكرون إلى التسليم بنقص معرفتهم. عندئذٍ يتحطم الوَهْم ، وبعدها يبدأ الطريق سالكاً سليماً لبناء علمي وتكنولوجي حقيقي مفيد ونافع لتفعيل العقل وإغناء المعرفة وتثبيت التواصل بين الإنسان والتكنولوجيا. أما علاج وَهْم التكنولوجيا فيتم عبر إدراك كامل لوجود هذا الوَهْم ثم العمل لاكتساب التكنولوجيا ووسيلة ذلك هو دماغ الإنسان الكبير في قدراته بسبب عمله الجماعي مع فريق عمل لعقول أخرى.

يقودنا الوَهْم التكنولوجي إلى فقدان التركيز والتحليل، في حين أن ما تقدمه تكنولوجيا العصر المفتقرة للثقافة الصحيحة عبارة عن ديكور أكثر منها إلى وسائل نافعة وبالتالي يزيد آفة النسيان الذي يرافقه عوق الإنسان. ويدرك العالم العامل يقينًا أنه كلما تبحر في موضوع ما سيقابله كم هائل من المعلومات التي يجهلها، وسيعرف عاجلاً أم آجلاً أن وَهْم التكنولوجيا قد طال الإنسان أساس العمران قبل أي شيء آخر. ونقولها بتواضع أنها رحلة العلم والمعرفة والتكنولوجيا فربما تكون يوماً عند حسن ظن مخترعها الإنسان الذي طالما خيب أمله في زمن كورونا.


عدد القراء: 2931

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-