قُبْطان أبوللو أحمد زكي أبو شادي: مِنْ رُوّاد الحَداثة والتّجديد في الشّعر العربيّالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-01-31 06:24:57

د. سمير حاجّ

أكاديميّ وناقد أدبيّ – فلسطين

أحمد زكي أبو شادي (1892-1955) شاعرٌ سَبَقَ عَصْرَهُ، في رؤيته للشعر ورسالة الشاعر في المجتمع، ورأى بنفسه مُدافعًا عن الشعر والشعراء.  كان "طائرًا يغنّي في غير سربه" في دعوته إلى السموّ بالشعر العربيّ وبالشّعراء، أدبيًا واجتماعيًا وماديًا.  وبسبب نزعته الرومانسية الثائرة دعا إلى محو تسعة أعشار الشعر، حصرًا ما نعته بـ"شعر النّفاق".  كما دعا إلى الانفتاح على الشعر الأوروبي، واستلهام التراث وتوظيف الأسطورة.  آمن أبو شادي   أنّ الشعر معنى لا مغنى، فقد انزعج من شعر البلاغة، أو ما أسماه "أدب الرنين الموسيقيّ"   الخالي من العمق والفلسفة.  قال "إنّ الشعر شعور، ومردّ الشعور إلى العقلين: الواعي واللا واعي، وهذان كثيرًا ما يتلاقيان، وعندما يتلاقيان، كثيرًا ما يغرّد الشعر بأنفس روائعه".

غادرَ مِصْرَ إلى أمريكا عام 1946، ولسانُ حاله يهتفُ مع أبي تمام:

سأصرفُ وجهي عن بلادٍ غدا بها

                                            لساني معقولًا وقلبي مُقْفلًا

لم ينلْ أبو شادي، في العالم العربيّ ما يستحقه من تقدير، وما يليق به شاعرًا وناقدًا. ربطته علاقة متينة بالباحث والمستشرق الألماني كارل بروكلمان. في العام 2005 كنت طالبًا زائرًا على معهد الاستشراق في جامعة لايبزغ الألمانية، زرت خلالها معهد الاستشراق في جامعة "هالة" Halle ،  وعلى باب المعهد الخشبي  الأنيق،  استوقفتني رسائل  مطرّزة بالعربية، إلى المستشرق بروكلمان من مجمع اللغة العربية  في القاهرة، ومن إيليا أبي ماضي. كما علّقت على الباب نفسه رسالة ممهورة بتوقيع أحمد زكي أبي شادي، مؤرّخة في الأوّل من يناير 1950، ومبعوثة من عنوانه في نيويورك 681 Madison Ave , New York   21,N.Y .U.S.A   كتب فيها نصّا وحرفًا «عزيزي الأستاذ بروكلمان، تحيّتي إليك مع تهنئتي بالعام الجديد،  ثمّ شكري لرسالتك المؤرخة 12 نوفمبر الماضي. وسأكون سعيدًا بإهداء ديواني الجديد (من السّماء-From the Heaven )،  إليك بمجرّد  صدوره . وترى من مقال الأميرة نجلا أبي اللمع معلوف (زعيمة أديبات العربية في القارة الأمريكية) الذي نشرته جريدة (الهدى) بتاريخ 19 ديسمبر الماضي، أنّ عناية خاصّة موجّهة إلى إصدار هذا الديوان وستقيم أكاديمية الشعراء الأمريكيين  The  Academy of American  poets برئاسة Karl Sandburg أمير شعراء أمريكا مهرجانًا خاصًا بذلك، سيشترك فيه العديدون من أدباء العربية والمستشرقون. وأبلغت أنّ دعوة خاصة ستوجّه إليكم نظرًا إلى منزلتكم الرفيعة في عالم التأريخ والأدب. وقد حُدّد مبدئيًا تاريخ المهرجان في 30 أبريل 1950. وسيلقي الشاعر ساندبرج ترجمة تحيتي للزملاء بالإنجليزية، وهي قصيدة أسميتها "نشيدٌ لم يتمّ". وأنتهز فرصة الكتابة إليكم لأضمّ هذه الرسالة على نماذج من النبذ الأدبية التي تنشر من قلمي هنا، ألا وهي "السآمة من الأدب" و"العمل الأدبي" و"تراجع وذكريات" وقد ظهرت جميعًا في جريدة (الهدى)، ومقال "حافظ وشوقي" وقد ظهر في جريدة الإصلاح. وأختتم بتكرار أطيب الأمنيات لصحتكم وسعادتكم. المخلص أحمد زكي أبو شادي».

هل عرف أبو شادي آنذاك، بعيدًا عن نظريات السّرد، أهمية المثاقفة والتواصل مع الآداب العالمية، ومع المستشرقين والباحثين والمترجمين للأدب العربيّ. وهل استشرف ما تقوله نظريات الأدب، أنّ الناقد "وسيط هام" بين الكاتب والمتلقّي.

ثار أبو شادي على التخلّف الذي أحدق بالشرق، وتألّم لحال الشعراء فيه. كما بهر بالاهتمام الذي يحظى به الشعر في أوروبا وأمريكا. إنّ صرخة أبي شادي عن حال الشعر والشعراء العرب، قبل حوالي سبعين عامًا، ما زالت صرخة في وادٍ، فما من سميعٍ، كيف لا ومعدّل القراءة السنوية للفرد العربي في أيامنا لا يتجاوز ربع صفحة، إضافة إلى فتات العيش من الأدب، وألم الكتابة ومعاناة النشر والتوزيع.  

أبو شادي شاعر وجدانيّ مجدّد، ذو حسّ مرهف، شعره خفيف الظلّ، رشيق الأسلوب، عميق التأمّل، مسكون برومانسية شلي وكيتس.. يطير مثل فراشات مزركشة، نفثات يراعه تقطر سلسلا، تشمّ فيها ضفائر الحبّ والجمال، وعبق الزهور وفوح الياسمين و"أنفاس الخزامى"، وهو القائل:

أيّ عطرٍ فاقَ أنفاسَ الخُزامى

                              في  حَــنــان يملأ  الروحَ  سلامــا

لا  يراهــا  غَيْرُ  من  كانت  لــه

                              روحُــهــا  أو  من  يحاكيها  غـرامـا!

تجــذب  الـنّـحــلَ  إلى  أكــوابـهــا

                             وهي سكرى ترشفُ الشّهد المُداما!

كان صاحبُ "الشفق الباكي" قبطانَ جماعة "أبولو" التي شكّلت منذ عام 1932، مِدْماكًا في حداثة وتجديد الشعر العربيّ، وتحرّره من تقاليد الشعر القديم والترصيع اللفظيّ، لكنّ مجلتها أفلت عام 1934. تفاءل أبو شادي بذوق شعراء المهجر العرب في أمريكا، ودافع عن الشعر المنثور ورأى فيه "طاقة إبداعية تُعْليه إلى مرتبة الشعر المنظوم"، واستخدم الشعر الحرّ "الذي تمتزج فيه البحور بالأوزان.

هذا الرومانسيّ في أشعاره، "أبو الشّاديات" كما نعته الشاعر المهجريّ نعمة الحاج، كان ناقدًا ثوريًا جارحًا وجريئًا، يراعه لا يعرف المهادنة والرتوش و"مسح الجوخ"، فقد دعا إلى اجتثاث ومحو ما أسماه "شعر النّفاق"، الذي يتبعُ للسلطان. هذه الأفكار الرومانسية الثورية، والملتزمة بالهمّ الاجتماعيّ الإنسانيّ، طرحها في كتابه النقديّ (قضايا الشعر المعاصر)، فيقول "وأمّا أنّ هناك شعرًا للنفاق، فهذا أيضًا صحيح، وهذا وصفٌ ينطبق على الكثير من الشعر العربيّ، الذي يطأطئ للطاغوت ويُشريه النفوذ، فيمتهن الكرامة الإنسانية، ويقف ضد حقوق الشعب، ويناوئ المثل العليا". (ص32)

رفض أبو شادي الفصل بين المؤلف والنصّ، ما يسمّى وفق رولان بارط "موت المؤلف"، فالنصّ والكاتب صنوان لا جدار بينهما، وشعر النفاق في قاموسه مرايا وظلال لشخصية الكاتب، وكما يقول "ومن الخطأ أن تظنّ أنّ الأثر الأدبيّ شيءٌ وشخصية الأديب شيءٌ آخر، وأنّ أدب الصنعة والنفاق، يمكن أن يعيش مستقلاً وينسى أمر صاحبه، فتاريخ الإنسانية ضد هذه النظرية تمامًا، وهذا هو "البحتري" الشاعر المشهور تُنوسِيَ الكثيرُ من شعره الذي أملاه النفاق" .. هذه الطفرة والثورة جعلته يطلق  نظرية  "محو الشعر" المنافق  من ديوان الشعر العالميّ،   فيقول "وقياسًا على ذلك، لا بد لنا من أن نمحو من الوجود تسعة أعشار الشعر العربيّ بل والفرنجيّ أيضًا..."، هذه الأفكار المتطرّفة آمن بها أبو شادي، ودعا إليها من منظور حفاظه على الشعر ونزاهة الشاعر،  ورسالته الملتزمة  بالناس والمجتمع،  وكما يقول: "وصفوة القول: إنّ شعر النفاق والتسلية قد جنى على الأدب العربيّ،  كما جنى على الذوق النقدي، جناية السطحية والجهل والأهواء عليها، وهذه حالة مرضية،  يجب علاجها على ضوء الآداب العالمية، بِرًا بمواهبنا وتراثنا المجيد". (ص36)

كان أبو شادي في أشعاره رومانسيًا حتى النّخاع، الفنّ في قاموسه "تعبيرٌ خلّاق"، والشعر الخالد في نظره، هو الذي تحسّ الإنسانية بإخلاص الشاعر فيه، فجاء شعرُهُ تمجيدًا للحياة واحتفاءً بها. وكان مخلصًا لرسالته، التي غرست في الشعر العربيّ براعم التجديد والانفتاح على الآداب العالمية الإنسانيّة، في زمن ولا أصعب!.


عدد القراء: 4332

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-