مطلع القرن العشرين (الزمن الجميل)الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-05-28 19:36:41

محمد ياسر منصور

موسكو

مطلع القرن العشرين (الزمن الجميل)

قصة تاريخية

بقلم: كات كامبور*

ترجمة: محمد ياسر منصور

ظهر نبأ (اغتيال جان جوريس) الذي نشرته الصحافة الباريسية في اليوم التالي، في السبت الأول من أغسطس. وفي عصر ذلك اليوم، أصدرت الحكومتان الألمانية والفرنسية الأوامر بالتعبئة العامة، والتي طُّبِّقَت في ظهر اليوم التالي. وفي ذلك المساء، في باريس وفي المدن الفرنسية قامت مجموعات من الشبَّان من الجنود الاحتياطيين ومن جميع الطبقات باتباع طريق المحطات تحييهم جموع المدنيين وتشجعهم: سيعود الصبيان الصغار سريعًا ومنتصرين. وكثيرون يستقبلون آفاق الحرب دون خوف، بل يُعزُّون أنفسهم: ها هي أخيرًا الفرصة قد حانت لانتقام البلاد من البلد الذي حاصَرَ باريس (40 سنة) في الماضي والذي سَرقَ مقاطعتين في الشرق.

في اليوم نفسه، بَثَّت العمليات الفرنسية تكذيبًا قالت فيه: إن اغتيال جوريس لا يُنسَب إلى الحركة الوطنية المتطرفة. وخوفًا من ردود الفعل الانتقامية، ولكي لا يتم التعرُّض لأي خطر، غادَرَ "ليون دوديه"، (47) سنة، غادَرَ باريس إلى تورين مع أخيه الأصغر لوسيان. وإذا كان ليون قد أَنكرَ عَلانيةً كل مسؤولية عن موت جوريس، فإنه لم يذرف الدموع عليه. فبينما كان جان جوريس يحاول يائسًا وضع خطة للسلام، بين فرنسا وألمانيا كان ليون دوديه ومساعدوه في العمل الفرنسي يُؤجِّجون نيران الحرب. ومنذ زمن طويل، كان ليون يَصِف جوريس بالتهديد وبالفردية التي يجب "استئصالها". لكنه كان يقول الشيء نفسه عن الكثير من الآخرين! فالجواسيس الألمان في كل مكان، يَدلُّون ليون وزملاءه على مُريديهم المُثيرين للقلق، فهذا التحالف غير متوقع بين أرستقراطيين قدامى يخشون من الديمقراطية المنتصرة والتجَّار القلقين الباحثين عن كِبَاش للفداء والرؤوس الملتهبة الباحثة عن الشَّغب. ولم يكن ليون يحسب أي حساب لِردّة الفعل؛ بل على العكس، كانت حياته في هذا الاضطراب الذي كان يمده بالنشاط. فسرعان ما بَدأ مع روايته "لي مورتيكول" (1894) التي يهاجم فيها صديقًا لعائلته، وهو مُرشِده ونَاصِحه "جان ـ مارتان شاركو"، كما يهاجم مهنة الطب التي كَرَّس نفسه لها. وعَبر السنين وَشَى شيئًا فشيئًا بجميع مَن وَجَد نقصًا في وطنيتهم حسب رأيه: فلم يعد هناك رجل سياسة مرموق في نَظَره، ولا صناعي كبير بِمَأمَن منه، فكان ليون يُضايقهم ويُزعجهم ويشعر بالفخر وهو يرى ضحيَّته تنهار. وفي الوقت الحاضر، وبينما الأمة توجِّه أنظارها القلقة نحو الشرق، كانت اتهاماته بالخيانة المعمَّمة وباللجوء إلى العدو التوتوني (الجرماني) بدأت تبدو في مَحلّها وحتى مُنذِرة بالخطر.

عبر زجاج سيارته تأمَّلَ الليل المضطرب، وبينما كان يغفو إلى جانبه أخوه لوسيان في نوم متقطع، شَعَرَ ليون بأنه مُمزَّق، وقَلِق. ومن الصعب تَصوُّر أن هذا الأربعيني الذي يسافر في هذه المركبة المعتمة هو أحد المحققين السياسيين الأكثر جَدَلاً في فرنسا. فَبِشارِبه المشعث الذي يشبه مِقوَد الدراجة، ووجنتيه الممتلئتين وكرشه الذي يزداد اتساعًا، كان ليون يظهر بمظهر الساذج. وكان في حديثه يتشبَّه بالشعراء المُحبِّين. وكانت الكلمات تنساب تحت ريشته، وأحيانًا بسخاء، وأحيانًا بقسوة كقسوة المراهقين، في مقالاته الناقدة وفي افتتاحياته وفي رواياته المتواضعة والتي يصرّ على تأليفها. لكن لِنُدرِك جيداً القوة والحيوية المَحضَة لدى ليون، يجب رؤيته في بيئته الطبيعية، على المنبر، أمام العامة. عندما يدفع سامعيه ويحرِّضهم من خلال خطاباته وإقناعه، فيجعلهم في حالة من الحماسة التي تبلغ حدود الحمَّى الساخطة، عندما يُقنعهم بوجود مؤامرات يهودية أو تهديدات اشتراكية وبإمكان عودة المَلَكيِّة، وها هنا تبرز قوة الكلمات، القادرة على سَلب لُبّ الرجال وحَثِّهم على الخوف والبغضاء. وليون دوديه هو أيضًا مَن يناضل في الساحة في أثناء العديد من المبارزات الناتجة عن تهكماته التي لا ترحم واتهاماته الخطيرة. لكن هذه الحياة التي لا يلجمها شيء ولا يكبحها شيء لم تكن من دون نتائج، نتائج تُثقِل كاهله الآن، بينما هو في طريقه إلى بيت العائلة في أورليانز. لقد تغيَّر جمهور العامة، وهو يعرف هذا، وما كان البارحة عملاً وطنيًا قد يصبح غدًا عملاً خائنًا، بِجَرَّة قلم من زميل صحفي. وهو الذي كان يوجد دائماً في قَلب الحَدَث، يرى أنه من الغَبَاء والمَسكَنة الابتعاد عن العاصمة في مثل هذا الوقت. بينما الحرب على الأبواب.

ثمَّة بَريق خاطِف، وضَجَّة صفائح حديدية، إنها آخر انطباعات ليون قبل أن يُقذَف خارج سيارته. لقد صَدَمت سيارته سيارة شحن تسير في الاتجاه المعاكس. سَقطَ ليون أرضًا في حفرة وظلَّ مذهولاً بينما كانت دماؤه تسيل من جرح كبير في الرأس. ولوسيان الذي انسحب مُصابًا بِخُدوش طفيفة سارَعَ نحو أخيه المنهك القوى. ولحسن الحظ، اقتربت سيارة بعد لحظات: إنها أميرة بروغلي، وهي شقراء مثيرة، معروفة بِطَيشها في طبقات المجتمع الرفيعة، والذَّاهبة إلى قصرها في وادي دولا لوار. وهكذا حُمِلَ الأخوان دوديه وسائقهما في سيارة الليموزين الخاصة بالسيدة وتمَّ إيصالهم على جناح السرعة إلى ارتناي، وهي ضَيعة صغيرة ترقد بين التلال وحقول القمح في منطقة بوس، على بُعد (20) كيلومترًا عن أورليانز. وبينما كان الدكتور نوديه يستعد للالتحاق بِفَوجِه والذهاب إلى الحرب، رأى مجموعة الجرحى على بابه. ويا لسخرية القَدَر، فهذا الطبيب الشاب، الذي على وَشك المشاركة في نزاع عالمي سيؤدي إلى مذبحة بَشعة، عليه أن يُعالِج جرحاً في جمجمة شخص في منتصف العمر، يتدلَّى كرشه أمامه، ومقالاته وخطاباته تُحيي آفاق الحرب وأبعادها وممزوجة بالحماسة العمياء! وبعد تطهير الجرح، ثم إغلاقه باستخدام (22) قطبة أَعلَنَ نوديه أنه يجب الانتظار بعد الآن. وفي اليوم التالي، غادَرَ الدكتور ارتناي مع رجال آخرين من القرية وارتحلَ نحو العاصمة، حيث سَتقلُّهم القُطُر نحو الشرق، نحو الألمان، وأَمَلهم أن يحرزوا النصر. أمَّا ليون فَدَخلَ في غيبوبة، وبينما كان الآباء والأمهات عبر أوروبا يُودِّعون أبناءهم بشجاعة، كانت أُسرة ليون تسهر عليه وتُصلِّي من أجله ليستعيد وَعيه. وعلى الرغم من تشخيصات الأطباء المشؤومة، انتهى الأمر إلى استفاقة ليون من غيبوبته بعد مضي أكثر من ثلاثة أسابيع على الحادث...

على بُعد مئات الكيلومترات عن بيت الأسرة، حيث أسرة دوديه تعتني بابنها المُصاب ليون وتنتظر الأخبار من باريس، كان "جان ـ بابتيست شاركو" البالغ من العمر (47) سنة يقف على متن سفينته، ويُصدر الأوامر بتغيير وُجهة الرحلة، فَبدَلاً من الإبحار نحو إيسلندا عادت السفينة إلى شيربورغ. وبعينيه السوداوين وقامته النحيلة وشاربه الكَثّ ولِحيَته المدبَّبة بعناية، كان جان ـ بابتيست يتمتع بالصرامة والسيادة.

لقد عَلِمَ لِتَوِّه أن بلاده قد دخلت الحرب: وعليه وعلى رجاله العودة إلى وطنهم. إنهم يُشكِّلون مجموعة من المرشحين لرتبة القباطنة، وأفراد الطاقم مَدعوُّون الآن للدفاع عن فرنسا؛ أمَّا سفينتهم وهي الشهيرة المسمَّاة "بوركوا ـ با؟" فقادرة بالتأكيد على حماية السواحل الفرنسية، بعد أن اقتحمت جليديات القطب الجنوبي العنيفة وزوابع المحيط الأطلسي التي لا تَرحَم. "الشرف والوطن" ذلك هو شعار المركب، ولم تُثِر هاتان الكلمتان قَطّ مثل تلك الانفعالات لدى كل منهم. لكن كان يدور في مخيِّلة كل منهم تَوَجُّه نحو الجنوب نحو فرنسا ونحو قارَّة على وَشَك السقوط في الفوضى. لم يستطع جان ـ بابتيست مَنع نفسه من إلقاء نظرة إلى الوراء نحو مياه القطب الشمالي التي لن يتمكن هذا الصيف من الإبحار فيها. وعادت به الذكرى دون شَكّ إلى أول بعثة له، عندما زارَ جزيرة جان ماين المُقفِرة الموحشة، في المحيط المتجمد الشمالي؛ وكان ذلك في العام (1902)، وكان عمره آنئذٍ (35) سنة عندما اقتحمَ العالَم الغريب والساحر في القطبين، إنها منطقة عذراء، حيث تتجابه القوى الطبيعية المنفردة والواسعة في آن معًا، والمثيرة للدهشة والمخيفة. وما زال جان ـ بابتيست يشعر حتى نهاية أيامه أن تلك المناطق والأجواء الخيالية ما زالت تناديه. في حين أن الهوَّة تزداد اتساعًا بين مياه الجنوب وبينه، فيتساءل في نفسه عمَّا إذا كان سيتمكن يومًا من السير في دروب تُخوم الأرض.

بَدأَ صيف العام (1914) هادئًا، وكان جان ـ بابتيست على عِلم طَبعاً بالإشاعات والتوترات. حتى في القاعات المعزولة لِليَخت النادي الباريسي "يَخت كليب"، وحتى بين الجدران السميكة لدهاليزه المَكسيَّة بالغبار، حيث يُمضي أجمل وأروع أوقاته يُنظِّم مشاريعه وخططه العلمية، ويَعدّ لِسَبْر أغوار القطب الشمالي، كانت الاضطرابات الوشيكة الحدوث تنزلق لتأخذ مكانًا لها في جميع المحادثات. وظهور المكتشف الشهير، الذي قاد أول بعثة إلى القطب الجنوبي قامت بها فرنسا في العام (1903)، ثم بعثة أخرى في العام (1908)، ما زال يُثير نَظَرَات الإعجاب والهَمَسات الخافتة، بَين أعضاء النادي كما بَين الزوَّار، والجميع يُريد حاليًا معرفة رأيه حول أفضل خَيَار بالنسبة لفرنسا. ومع ذلك، فالسياسة، ورؤساء الوزارات الأجانب، والخلافات الإقليمية، والذخائر، وتحركات الجنود، لم يكن هذا كله ميدان عمله. وفي الواقع، كان جان ـ بابتيست ينتظر تلك البعثة الصيفية على متن السفينة "بوركوا ـ با؟" كفرصة لِلتهرُّب، ولو مؤقتًا، من كل تلك الوَساوِس القاريِّة. إنه يعرف اليوم أن بعثة أخرى إلى القطب الجنوبي بَعيدة المَنال: فهو قد أصبح عجوزًا جدًا، وحتى إنه مُتعَب للغاية حتى يُعَرِّض نفسه لمثل ذلك الامتحان. لكن ما زال هناك الكثير الواجب اكتشافه، والمياه المتجمدة بين ايسلندا وغرينلاند أَراضٍ خصبة، وليست فقيرة، بالنسبة إلى عالِم بمثل شهرته. فمنذ سنتين، وبفضل حكمة السِّن، كَرَّسَ نفسه لوظيفته الجديدة ومهامه الجسيمة كقبطان لسفينة ـ مدرسة، على متن مركب ما زال حيًا بعد رحلات مكوكية حتى المحيط المتجمد الجنوبي أو القطب الجنوبي. وقبل سبع سنوات عُدَّت السفينة "بوركوا ـ با؟ " أَنبل السفن وأَسرعها بين السفن ثلاثية الصواري في مجابهة تَحدِّي القطب الجنوبي. وجان ـ بابتيست لم يبخل على سفينته: البالغ طولها (40) مترًا وَزِنَتها (460) طنًا، وهيكلها المَمشوق القَوام المصنوع كله من البلوط، والذي يحمل على متنه شبكة معقدة من الحبال والعوارض والصواري والأشرعة. وفي الأجواء الصافية، كانت السفينة تُبحر بسرعة سَبع عُقَد بوساطة محرِّك بخاري قوَّته (550) حصانًا، وتُبحر بسرعة (11) عقدة وتَمخُر عُباب البحار بوساطة أشرعتها. ولمَّا كان جان ـ بابتيست يَصرّ على التمكُّن من مقاومة الظروف القاسية جدًا لاستكشاف القطب الجنوبي، وهي أقسى بثلاثة أضعاف لدى استخدام سفينة عادية ولها الوزن نفسه. وجان ـ بابتيست فَخُورٌ خاصةً بِمُخبِريه على متن السفينة، المملوءين بفرش القِشّ ومواد الاختبار والمكتبة، الحاوية على نحو (2000) مُؤلَّف أدبي وعلمي.

السفينة "بوركوا ـ با؟ " مُلكٌ له، فهي التي حقَّقت له وهو مُراهق الحُلم الذي أَرَّقه طوال الليل وهو طفل. وجان ـ بابتيست يجد نفسه مغتبطًا ومطمئنًا في آن معًا لرؤيته هؤلاء البحَّارة الشبَّان يتلقَّنون مهنتهم على مَتن المركب الذي حَمَلَه خلال بعثاته. ورجاله الذين خاطروا بحياتهم لِيُشارِكوه حُلمه، أصبحوا دائماً يُشكِّلون قلب المشروع وروحه. إنه يسهر عليهم وكأنهم أولاده. غير أنه عندما سمِعَهم يُطلقون صيحات الفرح لدى سماعهم نبأ الحرب، وتغمرهم السعادة للمجد الذي سينالونه، كان جان ـ بابتيست بعيدًا عن هذا كله. لقد نَسُوا جميع أحلامهم في الاكتشاف. وغادروا المختبرات ومراكز الملاحظة من أجل عائلاتهم، بَل لِخَوض الحرب. الشَّرف والوطن... وربما كانوا على حق، وربما آن الأوان لِلتخلِّي عن حُلم القطب الشمالي...

في الوقت الحاضر، السفينة "بوركوا ـ با؟" تمخر عباب البحر نحو فرنسا ونحو فُرَص العنف الجديدة تجاه رجال آخرين. وأمام حماسة تلاميذه، شَعَرَ بالقلق والحَذَر والتخوُّف و..... نَعم، لقد شَعَرَ في قرارة نفسه بأنه عجوز.

بينما كانت السفينة "بوركوا ـ با؟ " تصل إلى فرنسا، كانت هناك امرأة وحيدة في شقَّتها الفاخرة رقم (171)، في شارع لابومب، في القطاع السادس عشر. وكانت تحميها من أشعة شمس ما بعد الظهر ستائر سميكة من المخمل والتي لَولاها لَدَخَلت الشمس إلى كل الغُرَف من النوافذ الكبيرة المزدوجة. وكانت المرأة بِلا حِراك في ذلك الظل الخفيف، وتجهل أن باريس تحوَّلت إلى إعصار من النشاط. لكن إذا كان التوتر والتورية قد سادَا الشارع، فإن صمتًا ضاغطًا يجثم على صدر هذه المرأة الملتفَّة بثوب أسود. كانت "جان هوغو" تسمع الآخرين يتغنون دائمًا بجمالها. وَجَدِّها فيكتور، خَلَّدها مثل "جان أوبان سك" المخلوقة الفاتنة والساحرة التي أعادت البريق إلى عَينَيّ الكاتب العجوز من جديد. فهي لم تعد تحسب عدد المرَّات التي جَلَسَت فيها أمام الرسامين والمصورين. وعندما بَدَأَت تكبر، كان جمالها يزداد. وشعرها الكستنائي السَّميك وعيناها الزرقاوان البرَّاقتان زادوا من عدد مُعجَبيها عندما أَوشَكَت على سن المراهقة. وأصدقاء أخيها جورج ـ وهم ليون دوديه، فيليب برتلو، جان بابتيست شاركو ـ كانوا جميعًا يبدون إعجابهم بها. وكانت هذه الاهتمامات تسحرها كما كانت تسحر أي فتاة أخرى. لكن من يراها اليوم في هذه الغرفة المعتمة، بينما العالم يُسارِع نحو الحرب، لن يرى سوى ظِلّ بريقها ورونقها الماضي. إن ذلك الجَمَال الفَتي الذي كان يحظى بالإعجاب أثناء الأعياد السعيدة جداً، المُقامَة في أفخم قاعات باريس في مطلع القرن العشرين قد خَلَّفَ الآن امرأة تبلغ من العمر (45) سنة وتُفكِّر باهتمام وذات شعر رمادي. وقامتها التي كانت في الماضي مثار إعجاب بفضل انسجامها وتناسقها أصبحت متثاقلة الخطوات، ونظراتها المفعمة بالحيوية قديماً أصبحت نظرة فارغة.

إنها تبدو مُرهَقة. ففي بداية أبريل، دَفَنَت زوجها الثالث، ميشيل نيغربونت، بعد زواج دام ثماني سنوات. ومَوت الحب الكبير في حياتها ترك لديها شعورًا بالعزلة الكاملة. لقد التقت به عندما كانت ما تزال شابة لدى أسرة دولسبس: إنه ميشيل ابن المهندس الشهير لقناة السويس والذي كان تزوج أم ميشيل، وهي وارثة غنية يونانية ـ مصرية. وكانت جان قد أمضت سهرتها كلها وهي ترقص مع ميشيل، وكان آنذاك تلميذًا في الكلية الحربية في سان ـ سير. وثمة شعور مباشر جمع بينهما، لكن أم جان كانت ترسم لها أهدافًا أخرى: فهي تريد تزويجها من فتى مُتحدِّر من أسرة فرنسية كبيرة، صِهر ذي علاقات وجذور أصيلة. لذا تم توجيه جان نحو صداقة ثم زواج مع ليون دوديه. وكان ليون لا يخرج عن إطار الدوائر الخاصة نفسها المقتصرة على شُبَّان أسرة هوغو وصديقهم المشترك، جان ـ بابتيست شاركو. والتحالف بين هذين الاسمين الكبيرين على صعيد الأدب هوغو ودوديه قد بُوِركَ كاتحاد مُظفَّر لسلالتين جمهوريتين كبيرتين. لكن لا الزواج ولا ولادة ابن لم يُعزِّزا زواج هذين الزوجين. فانفصلا بالطلاق بعد بضع سنوات. لقد وَجَدَت جان الراحة إلى جانب صديق طفولتها جان ـ بابتيست شاركو، الذي ما زال يحبها عن بُعد. وشَرَحَت له أن قلبها مُلكٌ لشخص آخر. وعلى الرغم من هذا الاعتراف، أَصَرَّ على رغبته في الزواج منها، على أمل أن يكفي حبه وعاطفته ليغمرهما. وقد انهارَ هذا الزواج أيضًا: ذلك أن الغياب المتكرر لهذا المُكتَشِف وَسَّعَ الفجوة التي تفصل بينهما منذ البداية. وفي سن الـ(36) فقط عَثَرَت على الضابط الشاب الذي كانت قد التقت به قبل سنين طويلة.

* كات كامبور مؤرخة أمريكية شابة واعدة. ومنذ عهد قريب دافَعَت عن أُطروحتها في التاريخ في مدينة يال. وإن "مطلع القرن العشرين" هو أول كتبها، ونُشِرَ في آن معًا في نيويورك وباريس. ويندرج حَصرًا ضمن إطار المدرسة الروائية. المدرسة التي لا تنسى أن التاريخ هو قبل كل شيء مصنوع من القصص.

 

المصدر:

مجلة LIRE (الفرنسية) ـ العدد (378) ـ سبتمبر (2009)م.


عدد القراء: 7955

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-