الفلسفة والأدب ابن رشد في عين كيليطوالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-05-29 07:01:21

د. أحمد السعيدي

أستاذ مشارك، جامعة ابن زهر، المغرب

توصف علاقة الفلسفة والأدب بأنها ممتزجة امتزاجًا معقدًا بتعبير فكتور هوغو، فأفلاطون تعرّض للشعراء في جمهوريته، وخصص تلميذه أرسطو كتاب "فن الشعر" أو (البويتيكا (POETICA) للحديث عن الشعر وأنواعه عند اليونان قاصد المسرح.. وقد بدأ الفصل بينهما ابتداءً من القرن الثامن عشر زمن دنيس ديدرو (1784م) الذي يعترف بذلك الفصل في قوله: "كان الحكيمُ فيما مضى فيلسوفًا وشاعرًا وموسيقيًّا. لقد انحطَّت هذه المواهب بانفصالها عن بعضها عن بعض، دائرة الفلسفة ضاقت، والشعر أفتقد الأفكار، كما افتقدت الأناشيد القوة والعزم، والحكمة التي حُرمت من هذه الأعضاء لم تعد تُسمِع الشعوب بالسحر ذاته." (بم يفكر الأدب: 23.) وازداد هذا الفصل مع كانط وهيجل وكروتشه.. ورغم هذا، فالفلسفي حاضر في الأدب والعكس صحيح من خلال استعمال الفلاسفة والمفكرين للأدب في تفسير رؤاهم ونظرياتهم من أفلاطون إلى غاستون باشلار، ومن هوميروس إلى دريدا.. فيما استعمل الأدباء الفلسفة في إبداعاتهم، فيما سمّي بالأدب الفلسفي كما نجد عند التوحيدي والمعري وابن طفيل وغوته وفولتير وهولدرلين وسارتر وكافكا وبورخيس وأمبرتو إيكو وجوستاين غاردر صاحب كتاب "عالم صوفي"، ونديم الجسر صاحب كتاب "قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن." هذا ما جعل بيار ماشيري يقول: "الفلسفة ليست سوى أدب، كأنها ستجد حقيقتها النهائية في الأدب." (بم يفكر الأدب: 19.) فإذا كانت الفلسفة تتكئ على العقل والمنطق والبرهان للوصول إلى الحقيقة، فالأدب يستعمل التعبير والعاطفة والخيال.. والغاية يمكن أن تكون جمالية فنية (الفن للفن)، أو وظيفية (الأدب الملتزم).

مهما يكن، تبقى صلة الأدب بالفلسفة كما ذكرنا سلفًا معقدة، وتتجه حسب بعض الدارسين اليوم ومنهم الفرنسي ماشيري إلى التقارب والاتصال كما كانت من قديم.

وسترصد السطور الآتية صلة الفلسفة بالأدب من خلال نظرة الناقد المغربي المعروف عبدالفتاح كيليطو إلى الفيلسوف الشهير أبي الوليد ابن رشد، الذي خصّه بحيز هام في كتاباته الأدبية. ومن المعلوم أن ابن رشد حظي باهتمام بالغ في الغرب وعند المثقفين العرب والمغاربة، فخصَّه الدكتور محمد عابد الجابري بمؤلفات وبحوث كثيرة منها "المثقفون في الحاضرة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد"، وألّف عنه الدكتور محمد بنشريفة كتابًا خاصًا بعنوان "ابن رشد الحفيد: سيرة وثائقية".. وغيرهما كثير.

بين ابن رشد وكيليطو

ولد عبدالفتاح كيليطو سنة 1945م، أي بعد وفاة ابن رشد (595ه/1198م) بحوالى سبعة قرون ونصف. ومن نقط الائتلاف بين الرجلين الأصل الأندلسي، وسُكنى المغرب مدة من الزمان، والكتابة والتأليف وهذا هو الأهم، والاحتكاك بمصادر الثقافة الغربية.. أما التفرّد فيتجلّى أولاً عند ابن رشد في مشاركته أي معرفته الموسوعية (الفقه والفلسفة والطب والفلك..)، وتخصص كيليطو بالأدب، وثانيًا في كون ابن رشد أُحاديَ القلم إذ لم يكتب إلا بالعربية، وحتى شروحه وتلاخيصه على أرسطو تمت باستعمال ترجمات للمترجمين حنين بن إسحاق ومتّى بن يونس، في حين تميّز كيليطو بإتقانه ثلاثة ألسنة هي العربية الفرنسية والألمانية وتأليفه بالأُولَيَيْنِ.

اشتهر أمر ابن رشد الفيلسوف زمن الدولة الموحدية، حيث عكف بإيعاز من الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف على شرح كتب أرسطو التي فُقد بعضها في أصوله اليونانية. وقد تعرض ابن رشد لمحنة زمن المنصور الموحدي تجلّت في إحراق كتبه ونفيه قبل العفو عنه، ولم يلبث إلا قليلاً حتى توفي ودفن بمراكش، ثم حُمل جثمانه إلى قرطبة مسقط رأسه ليدفن من جديد فيها.

وقد تحدث عبدالفتاح كيليطو عن ابن رشد في مؤلفاته مثل: "لسان آدم" (1995م)، و"لن تتكلم لغتي" (2002م)، و"الأدب والارتياب" (2007م)، وأورد اسمه في عنوان كتابه "من شرفة ابن رشد" (2009م).

يوم في حياة ابن رشد

يستدعي كيليطو قصة للكاتب الأرجنتيني بورخيس (1986م) نشرها في كتابه "المرايا والمتاهات" بعنوان "بحث ابن رشد". هذا النص يتوقف فيه عند تلخيص فيلسوف قرطبة لفن الشعر لأرسطو، والوهم الذي وقع فيه حين اعتبر التراجيديا مديحًا والكوميديا هجاءً. تتكون القصة من ثلاثة مشاهد هي:

- ابن رشد في مكتبه عاكفًا على تحرير كتابه "تهافت التهافت" الرادّ فيه على كتاب الغزالي "تهافت الفلاسفة"، وقد "استوقفته كلمتان مريبتان وردتا في بداية فن الشعر هما: تراجيديا وكوميديا. لقد عثر عليهما سنوات من قبل في الكتاب الثالث من الخطابة؛ بيد أن أحدًا، في مضمار الإسلام، لم يخمّن معناهما. تعب دون جدوى.. والكلمتان اللغزان تتكاثران في نص فن الشعر ولذا كان تلافيهما مستحيلاً." (ص66) كان ابن رشد يجهل اللغتين اليونانية والسريانية، وقد تُرجم حنين بن إسحاق أو ابنه إسحاق بن حنين فن الشعر إلى العربية من السريانية. ليس ابن رشد مطالَبًا بترجمة الكلمتين، صنع ذلك المترجم متّى بن يونس الذي اعتقد أنهما تعنيان المديح والهجاء. لكن ابن رشد لم يستوعب أن الأمر يتعلق بالمسرح لا بالشعر كما عرفه العرب. ولّى وجهه شطر المشرق وشطر القصيدة العربية في مختلف أطوراها ليفهم الشعر بدلالته اليونانية.

- مشهد ثان عبارة عن فرصة ضائعة لفهم المسرح اليوناني، حين رأى ابن رشد أطفالاً يلعبون، والحقيقة أنهم يمثّلون "كان أحدهم واقفًا على كتفيْ الآخر، يمثل المؤذن بصورة بارزة: عيناه مغمضتان جيدًا، وهو يتلو "لا إله إلا الله". أما الصبي الذي كان يحمله ولا يتحرك فكان يمثل الصومعة. وكان الآخر راكعًا على ركبتيه في الغبار، يمثل جماعة المؤمنين. استمر اللعب وقتًا قليلاً، فقد كان كلهم يريد أن يكون المصلين أو الصومعة." (ص67). تحقق مشهد التمثيل –حسب بورخيس- أمام ناظريْ ابن رشد، لكن لم يدرْ بخلده أن المشهد فيه حلّ لإشكال الكلمتين الملغزتين: التراجيديا مأساة، والكوميديا مَلهاة، أي المسرح لا الشعر.

- مشهد ثالث يلتقي فيه ابن رشد على مأدبة عشاء مع رحّالة يدعى أبا القاسم يتحدث عن مشاهداته في الصين ومنها "أشخاص يدقون على الطبل ويعزفون العود، عدا خمسة منهم أو عشرين على وجوههم أقنعة من لون قرمزي يصلون وينشدون ويتحاورون: يعانون الأسْر، ولا من رأى سجنًا؛ ويمتطون فلا يبصر الفرس؛ ويتقاتلون بيد أن السيوف كانت من قصب؛ ويموتون ثم ينهضون قيامًا بعد ذلك." (67). مجانين وحمقى! هذا ما ذهب إليه المستمعون، لكن أبا القاسم أضاف أن الأمر يتعلق بالتمثيل (الخيال عند العرب والمسرح عند اليونان). لسان حالهم يقول: الحكاية لا تحتاج إلى أشخاص كثيرين يكفي متحدث واحد، هذا ما ترسّخ في الحكاية العربية. وزاد تأويل الدراسين العرب –ومنهم د. علي الراعي- الأمر تعقيدًا، حيث فسّروا الخيال بخيال الظل أو مسرح العرائس، في حين أنه يعني التمثيل، وتوجد أدلة كثيرة منها مثلاً عزم الشاعر دِعْبل الخزاعي على هجاء أحد الممثلين في العصر العباسي، لكن الممثل أجابه بقوله: "والله لإن فعلت لأخرجن أمك في الخيال." أي سأجسد شخصية في التمثيل، فتراجع دعبل عن هجائه.

من شرفة ابن رشد

ينطلق كيليطو من حلم يتضمن عبارة قالها ابن رشد في الحلم لا الحقيقة وهي: "لغتنا الأعجمية." (الأدب والارتياب: 59). كيف للغتنا، أن تكون في الوقت نفسه أعجمية؟! العبارة فيها كما يقول البلاغيون إرداف خُلفي، فاللغة إما لغتنا، أو هي لغة أجنبية. لا يمكن أن تكون في ذات الآن لغتنا ولغة أجنبية.

يقول كيليطو: "إذن لغتنا الأعجمية، لغتنا غير العربية! وابن رشد هو الذي قد يكون تلفّظ بهذه الأعجوبة.. ليوصل من خلال عبارة لغتنا الأعجمية أربعين رسالة: الشك، الفرح، السخرية، التحفظ، الإعجاب، التهكم، التبخيس، الاعتزاز، المرارة، السخط، اللامبالاة، إلخ." (ص60).

وذهب كيليطو في تفسير عبارة ابن رشد مذاهبَ منها:

* أن القصد بالعبارة "لغتنا نحن الفلاسفة؟ نحن الفلاسفة، نتكلم لغة أرسطو." (ص70) وهي لغة غير متاحة لجميع متكلمي العربية، ولها اصطلاحاتها ومفاهيمها المتمنّعة على غير الفلاسفة، هي لغة داخل لغة، واللغة كما يراها ابن جني "أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم."

* يمكن أن تعني العبارة أن "اللغة العربية، بالنسبة إليه، تهدّدها "اللغة الأعجمية". لا يقول "لغتنا"، لاحظوا هذا جيدًا... يرى أن الناس حوله يفضّلون التواصل بتلك اللغة. يعتبرون التكلّم بالعربية عيبًا! ويتابع أن ممّا يضاعف من شناعة هذا الوضع أن العربيّة لغة القرآن وكلام أهل الجنة." (ص71). ويستحضر هنا كلامًا هامًا لابن منظور صاحب معجم لسان العرب ذكره في مقدمته -وغالبًا لا تقرأ مقدمات المعاجم- يذكر فيه سبب وضعه المعجم: "إنني لم أقصد سوى حفظ أصول هذه اللغة النبوية وضبط فضلها، إذ عليها مدار أحكام الكتاب العزيز والسنة النبوية؛ ولأن العالِمَ بغوامضها يعلم ما توافق فيه النيةُ اللسانَ، ويخالف فيه اللسانُ النيةَ، وذلك لِما رأيتُه قد غلب في هذا الأوان، من اختلاف الألسنة والألوان، حتى لقد أصبح اللحن في الكلام يعد لحنًا مردودًا، وصار النطقُ بالعربية من المعايب معدودًا، وتنافس الناسُ في تصانيف الترجمانات في اللغة الأعجمية، وتفاصحوا في غير اللغة العربية، فجمعتُ هذا الكتاب في زمنٍ أهلُهُ بغير لغته يفخرون، وصنعته كما صنع نوحٌ الفلكَ وقومُه منه يسخرون، وسميته  لسانَ العرب.." كأنّ ابن منظور يتحدث عنّا، وعن التفاصح بغير العربيّة في عصرنا، وعن تحوّل العربية إلى لغتنا الأعجمية! لن نجد عبارة ابن رشد في أي من كتبه، لأنها ببساطة عبارة لم يقلها ولم يكتبها، لكنها تصوّر حال العربية اليوم بيننا، بل هي عبارة تردد كل يوم وكل حين، غربة العربية بيننا، ذلك ما قصده ابن رشد في الحلم، وذلك ما قصده كيليطو لأنه مرآة لما يدور في لا وعيه أو في وعيه.

ترحيل ابن رشد

في سنة 1199م حُمل جثمان ابن رشد من مراكش إلى قرطبة ليدفن من جديد، ويسوق كيليطو شهادة ابن عربيّ في كتابه "الفتوحات المكّية": "ولمّا جُعِل التابوت الذي فيه جسده [ابن رشد] على الدابّة، جُعِلت تواليفه تعادله من الجانب الآخر. وأنا واقفٌ ومعي الفقيه الأديب ابن جبير، كاتب السيّد أبي سعيد [الأمير الموحدي]، وصاحبي أبو الحَكَم عمرو بن السَّرّاج الناسخ، فالتفتَ أبو الحكم إلينا وقال: ألا تنظرون إلى مَنْ يعادِلُ الإمام ابن رشد في مركوبه؟ هذا الإمام، وهذه أعماله- يعني تواليفه! فقال ابن جبير: يا ولدي. نِعْم ما نظرتَ! لا فُضّ فوك! فقيّدتها عندي موعظة وتذكرة." ويرى كيليطو أن وفاة ابن رشد جاءت بعد "حياة حافلة، حياة من الأمجاد والعزة قبل المحنة في السنوات الأخيرة، والنفي، العامة وهم يطردون ابن رشد بسفالة من جامع قرطبة، ثم بعد ذلك، وبمثل فجاءة المحنة، استعادة الحظوة، متبوعة عن قريب بوفاة الفيلسوف." (لسان آدم: 64). ويرصد بذكاء استجابات شهود الحدث؛ فالناسخ أبو سعيد "هو من لاحظ غرابة المشهد. هو على الأقل من لفت انتباه أصحابه إلى حال توازن الجثة (هذه الإمام، وهذه أعماله". أما الأديب ابن جبير فقد أحس حيرته ملاحظة الناسخ وأربكته، لأنها استرجعت مشاركته في امتحان ابن رشد، وهجائه له بأبيات منها:

الآن قد أيقَنَ ابنُ رُشدِ         أنَّ  تواليفَهُ  تَــوالــــــــــفْ

يا ظالماً نفسَه تأمـــــلْ         هل تجد اليوم من يوالـــفْ

أما الراوي "ابن عربي من جهته، فلا يقول شيئًا، لكنه يقيّد عبارة ابي الحكم الجميلة؛ يلتقطها ليتَّعظ بها وأيضًا ليرويَها ويبلِّغها." (ص65).

ما دلالات ترحيل ابن رشد؟ في منظور كيليطو أن ترحيله ترحيل للفلسفة من الشرق إلى الغرب، حيث سيستقبل وستترجم كتبه إلى العبرية واللاتينية، وستشكل مادة أساسًا في النقاش الفسلفي حتى القرن 16م. ويختم كلامه بمقطع من رواية "يوليس لجيمس جويس نقرأ الحكم الآتي (بخصوص شكسبير): الرجل العبقري لا يرتكب أخطاء، أخطاؤه إرادية وهي بوابات الاكتشاف." (ص67).

هذه إذن مقتطفات من صورة فيلسوف أندلسي في عين ناقد مغربي معاصر، سعى إلى رتق الفتق بين الفلسفة والأدب، فكلاهما علْمان يوظفان الكلمة واللغة والتعبير للوصول إلى حقيقة ما، قد يقع لهما الاتصال أو الانفصال، ولعل الغاية واحدة: اكتشاف الإنسان وما يحيط به..

المراجع المعتمدة:

• بيار ماشيري، بم يفكر الأدب؟ تطبيقات في الفلسفة الأدبية، ترجمة جوزيف شريم، المنظمة العربية للترجمة بدعم من مؤسسة محمد بن رشاد آل مكتوم، بيروت، 2009.

• عبدالفتاح كيليطو، الأدب والارتياب، دار توبقال، الدار البيضاء، 2013.

• ــــــــــــ ، لسان آدم، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال، الدار البيضاء، 2001.

• ــــــــــــ، لن تتكلم لغتي، دار الطليعة، بيروت، 2002.

• ــــــــــــ، من شرفة ابن رشد، دار توبقال، الدار البيضاء، 2009.


عدد القراء: 2706

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-