فصول مُصمتةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-05-29 09:31:18

أزدشير سليمان

مترجم وباحث سوري

دايجان ميلر

ترجمة: أزدشير سليمان 

 

الكتاب: "فصول مُصمتة: الصداقة بين هنري ديفيد ثورو ورالف والدو إيمرسون"  

المؤلف: جيفري. س. كرامر

الناشر: Counterpoint; Annotated edition

عدد الصفحات: 368 صفحة

تاريخ النشر:9 أبريل 2019

اللغة: الإنجليزية

الرقم المعياري الدولي: ISBN-13 : 9781640091313

تخيل: أنك قضيت حياتك برمتها كاتبًا متمردًا –شاعرًا هامشيًا، لم يبع كتابك النثري الأول سوى نسخ محدودة حتى أن ناشرك أرغمك على شراء النسخ غير المباعة، وقوبل كتابك الثاني بحرارة ومراجعات نقدية وفيرة لكنه احتاج لخمس سنوات لتُباع طبعته الأولى المكونة من ألفي نسخة، أن  مسيرتك التي بدا أنها  قد بدأت أخيرًا وأنت في حوالي الأربعين من عمرك أوقفها موتك عند عمر الـ44 تخيل أنك صارعت طوال حياتك لتترك أثرًا مثاليًا، ثم وفي جنازتك، يقضي مؤبنك، وهو بلا شك الكاتب الأشهر في أمريكا، النصف الأول من مرثيته المكونة من 7500 كلمة متحدثًا عن افتقارك للطموح، عن برودك الشخصي، عن الخيبة التي تسببت بها للأصدقاء والعائلة. كان بوسعه أن يخبر كل هذا الحشد أنك "بدلاً من التخطيط من أجل أمريكا كلها كنت قائد حزب التوت". هل يمكنك أن تدعو ذاك الشخص "صديق"؟

تلك الكلمات الختامية التي قالها رالف والدو إمرسون عن تلميذه السابق هنري ديفيد ثورو صعقت الجمهور لأكثر من 150 عامًا، وثبتت إلى حد كبير القصة التي روتها الأجيال التالية عن علاقتهما. تلك القصة التي مضت إلى حد ما على هذا النحو:

عندما عاد ثورو من الكلية إلى بلدته كونكورد في ماساشوستس ليبدأ حياته المهنية الأدبية وجدها مأهولة. إمرسون، الأكبر سنًا من ثورو بـ 14 عامًا، كان قد نال الإقامة قبل ذلك بسنوات قليلة. من كونكورد بالذات كان إمرسون قد أطلق كتابه "الطبيعة" (1836) العمل المؤسس للمدرسة الأمريكية المتعالية ولمسيرته المهنية. بمرور الوقت أفرغ ثورو حقائبه في العام 1837، حينها كان إمرسون بالكاد مشهورًا.

 كونكورد بلدة صغيرة الآن. كانت صغيرة جدًا في القرن التاسع عشر، ربما صغيرة للغاية بالنسبة لكاتبين يتمتعان بالموهبة والطموح (دون ذكر البقية الذين سرعان ما احتشدوا فيها: ناثانيل هوثورن، ويليام إيلري تشانينج، لويزا ماي ألكوت ووالدها برونسون). مع ذلك، كان ثورو وإمرسون أصدقاء لعشر سنوات يقضيان ساعات طويلة برفقة بعضهما يتبادلان الأفكار ومخطوطات العمل. على أرض إمرسون بنى ثورو مقصورته عند بحيرة والدن في 1845 وعاش هناك لسنتين شاحذًا مهاراته وكاتبًا مخطوطة كتابه الأول، الكتاب الذي أخفقت مبيعاته، "أسبوع في الكونكورد وأنهار ميريماك" (1849).

خلال تلك السنوات أيضًا حدث أن برز ثورو من ظل إمرسون، سياسيًا (لعب ثورو دور الراديكالي بالنسبة لإمرسون الأرستقراطي) وأسلوبيًا (في غابات والدن طور ثورو صوتًا جديدًا متمايزًا تمامًا) وفلسفيًا (تفادى مثالية إمرسون نحو موقف أكثر تجذرًا في الحياة اليومية). ربما وكما هو متوقع، بدت علامات الإرهاق تظهر على صداقتهما نحو عام 1850 وحتى وفاة ثورو بعد 12 عامًا، كانت صداقتهما صعبة، موسومة بالخلاف والمشاعر الحادة التي بلغت ذروتها في التأبين الذي ألقاه إمرسون، والذي نًشر مؤخرًا في "أتلانتيك" والذي وطد الانطباع عن صداقتهما بوصفها عنيفة وقصيرة وأعقبها أعوام من النزاع.

ثمة بعض الحقيقة في هذه الصورة، لكن كتاب جيفري. س. كرامر الجديد، "فصول مُصمتة: الصداقة بين هنري ديفيد ثورو ورالف والدو إيمرسون" يملأ، للمرة الأولى، الفجوات البارزة، المظلمة والأساسية التي لا تكفي أبدًا لإفساد صداقة ثورو وإمرسون، مع أنها تسببت لكلا الرجلين بألم عظيم.

إحدى العلل التي صُورت بسببها صداقة ثورو وإمرسون بوصفها صداقة غير ناجزة إلى حد كبير هو الكم الهائل من المجلدات التي ألفها كلاهما. يوميات ثورو، على سبيل المثال، بلغت مليوني كلمة، بينما فاقت يوميات إمرسون ثلاثة ملايين كلمة. كلا الرجلين كتب عن الصداقة في دزينة من المقالات بطريقة سطحية تخللت كتبهما. ثم هنالك مجموعة الرسائل والذكريات والمتعلقات المؤقتة التي تحتاج للتدقيق، هذا فيما يتعلق بالمواد المنشورة فقط. أن تكون باحثًا سواء في ثورو أو في إمرسون أمر يتطلب سنوات من التفرغ، أن تكون طليقًا في كليهما أمر نادر، والمأخذ السابق على علاقتهما، بالضرورة، أمر متحيز. كرامر يتمتع بموقع يمكّنه، بوصفه المشرف على المقتنيات في مشروع غابات والدن في معهد ثورو لدى مكتبة غابات والدن، من رواية قصة ثورو، وهو نشر سبع طبعات عن كل شيء من والدن إلى أكثر حكم ثورو جدارة بالاقتباس. لكنه ليس غريبًا عن الإمرسونية أيضًا (هو محرر كتاب "إمرسون المُصغر" الذي أصدرته دار بنغوين 2014)، أحد الأشياء التي أدهشتني حالاً بصدد "فصول مُصمتة" هو البراعة المتأنية في الجزء الأكبر من العمل. حتى في عصرنا "ذو ميزة البحث الرقمي" والقراءة اللوغاريتمية فإن عمق ومدى بحث كرامر أمر مذهل: أكثر من 800 حاشية في كتاب يبلغ بالكاد 300 صفحة.

الأمر الثاني الذي أدهشني هو بنية الكتاب الغريبة.

يبدأ كرامر "فصول مُصمتة" بـ 100 صفحة من السيرة المزودجة لثورو وإيمرسون مجردة إلى حد كبير من الجدل أو التأويل. ليس ثمة سرد حقًا، ليس ثمة توتر أو تطور، لا التواء أو تصاعد أو أزمة أو حل أو مغزى. ثمة قليل من السياق، ليس هذا ترميماُ لعالم مضى. كما أن كرامر لا يتأمل في الحالات الجوانية لشخوصه. الكتاب، بدلاً من ذلك، تأريخ يقفز بخفة ووفق التسلسل الزمني من مصدر إلى مصدر. يلخص كرامر تقريبًا كل واقعة – ملاحظة ليديان إمرسون في 1837 أن زوجها قد اهتم مؤخرًا بثورو اهتمامًا شديدًا، ملاحظة يوميات ثورو في 1846 أن إمرسون لم يكن "ملائمًا لتأدية واجبه"، تذُكر إمرسون في 1878 بينما كان عقله يغيب أن ثورو كان أعز أصدقاءه، يمكنك أن تلاحظ تقريبًا كيف تُبنى كل واقعة وكل مصدر وكيف تنبثق كل جملة منهما. ثمة استدعاء غير محسوس للسيرة الذاتية، ما يذكر بأسلوب أبكر في كتابة التاريخ، أسلوب كان شائعًا في مطلع القرن العشرين حين كان التركيز السائد للمؤرخين الأمريكيين على الموضوعية والسلطة المهنية مُدّعم بشغف يُلغى فيه تقريباً كل شيء (لم يجر التحقق منه تجريبياً) باسم النقاء التأريخي.

مقاربة كهذه – في حد ذاتها- ليست غريبة كليًّا بالرغم من قدمها، ويمكنك أن تجد الكثير من الكتب الحالية التي كتبها أكاديميون وهواة تتمتع ببنية مشابهة. الغريب هو الطريقة التي يثّني بها كرامر ثم يثّلث بحثه التجريبي في الجزء الثاني "هنري ديفيد ثورو" والثالث "رالف والدو إمرسون" الذي يتألف حصريًا من مادة كرامر المقتبسة مرتبة حسب التسلسل الزمني. يبدو الأمر كما لو أن هوامشه المستفيضة ليست كافية – فيعطي الجمهور أرشيفًا غير مقيد.

هذا عمل من أجل القراءة البطيئة المتكررة: سيقتبس كرامر من أحد المصادر في المقطع الأول من السيرة الذاتية (كما عندما كتب إيمرسون عن نقيصة "ثورو" القديمة المتمثلة في التناقض اللامحدود") ثم يستنسخ كامل المقطع المعني في الجزء الثاني أو الثالث ("هنري ثورو يرسل إلى ورقة موسومة بخطئه القديم المتمثل بالتناقض اللامحدود"). لكني أقدر هذا.  بطء وتكرار مماثلين هما ما يمنح الكتاب معناه وقوته، وتلك الحركة الخفية تأتي من رصف كرامر المتأني للمصادر بعضها فوق بعض. بأسلوبه الشبيه بالمد والجزر، بالماء المنحدر، يمحص الكتاب ببطء ويبوب ويعيد تشكيل فهمنا لكل رجل.         

 إحدى أكثر القراءات الخاطئة الشائعة لثورو مثلاً هي أنه كان مبغضًا للبشر وأنه فر من المجتمع إلى الطبيعة حقدًا على كل ما هو بشري. لكن ما يكشفه كرامر هو شخص واع بشدة للطريقة التي يًنظر إليه بوساطتها، وكيف أن غلظته الخاصة تحرق الآخرين: "أنا أفقد أصدقائي" كتب ثورو في 1851 "بسلوكي السيء معهم، بتقديري السيء لهم، بإهانتي لهم وتقليلي من شأنهم". كانت الصداقة بالنسبة لثورو مضنية، "اقتران أرواح"، "جحيم مُشع تُستنفذ فيه كل النقائص"، عملية تصقل كل شخص وتصّيره نسخة أفضل من ذاته.

تطلبات كهذه مرهقة طبعًا وهي قادت الناس بعيدًا عن ثورو، الأمر الذي حطم قلبه: "فعليًا ليس لدي صديق. أنا بعيد جدًا عن كل الأشخاص الحقيقيين، ومع ذلك خبرتي بالصداقة حقيقية جدًا ومشجعة حتى أنني أجد نفسي أحادث الصديق المثالي في بعض الأحيان". لم تكن الغابات أيضًا، بالنسبة لثورو، نقيض المجتمع "ألا يعزز وجود صديق ما جمال المنظر الطبيعي مثل غزال أو أرنب بري؟". ما تقترحه السيرة متعددة الطبقات التي كتبها كرامر دون أن تناقش الأمر بشكل صريح هو أن الصداقة النقية التي يكون فيها كل واحد منا أفضل ما يمكن أن يكونه موجودة في صلب الأخلاق الاجتماعية والبيئية لثورو، لا في البراري ولا بغض البشر ولا حتى الفردانية. كتب ثورو "لضمان الصحة، يجب أن تكون علاقة الإنسان مع الطبيعة قريبة جدًا من العلاقة الشخصية، يجب أن يكون واعيًا بالمودة المتأصلة فيها "أي الطبيعة"، عندما تخفق الصداقة البشرية أو تموت يجب أن تملئ الطبيعة الفجوة". 

كان إمرسون مختلفًا، وإحدى أكبر مفاجآت "فصول مُصمتة" أن نكتشف كم كان إمرسون يعتمد على الكاتب الشاب من أجل الإلهام. كان ثورو مصدر وحي إمرسون. "الاعتماد على الذات" (1841) كان بتأثير من الكونكوردي الشاب (أقدر هذا التوجه الخطر المتكرر) هذا ما سيكتبه مباشرة بعد نشر "الاعتماد على الذات". كان إمرسون يدون بشكل دائم تحت المقاطع والأفكار المهملة التي يكتبها ثورو ويعيد تجهيزها على شكل محاضرة. لكن إعجاباً كهذا قد يفسد، وبحلول منتصف 1840 كان قد بدأ بالانكماش. كانت الصداقة بالنسبة لإمرسون هرمية، أقل ربطاً للأنداد من المنافسة. "مع أني أثمن أصدقائي"، كتب في مقالته "صداقة" (1841) "فإنني لا أحتمل الحديث إليهم ودراسة رؤاهم خشية أن أفقد رؤاي.. فنك يكبر من خلال البريق الخاص لا بصحبة الضفادع والديدان، يحلق ويحترق مع آلهة السماء".

لم يتمكن إمرسون من فهم إنكار ثورو الأزلي "استغرقه الأمر فقط خمس جمل تأبينية ليشجب جحود ثورو لهارفارد، الجامعة التي درس فيها كلا الرجلين" ولا تمكن من تسوية براجماتيته (لماذا قد يختار المرء التوت بينما يناديه المجد؟" إلا بعد وفاة ثورو، كما أن ثورو لم يقبل قط السعي الارستقراطي للشهرة ورفضه بوصفه قوادة. بمضي الوقت يصل "فصول مُصمتة" إلى خاتمته مع تأبين إمرسون- يصبح من الواضح ان انتقادات إمرسون كلها لم تكن تعني الاستنكار لكنها كلمات شخص حائر إزاء رفيق حياته ويترنح من ألم الفقدان. لم يحدث أن تمكن إمرسون من فهم تعارضهما الرئيسي إلا حين بدأ بقراءة يوميات ثورو في أعقاب وفاته:

قوة البلوط التي لاحظتها حيث مشيتُ أو عملتُ أو عاينتُ الغابة الشجرية، هي ذاتها اليد المُصمِمة التي يدنو بها الكادح في الحقل من عمل ما، والتي كنت لا تجنبها بوصفها هدرًا للقوة، أبرزها ثورو عبر وظيفته الأدبية. لديه عضلات وجرأة وإنجازات بطولية كنتُ مُجبرًا على رفضها.

لكل منا صديق مثل ثورو، شخص ما يميل للنقد أكثر منه إلى الثناء، ولدينا جميعًا صديق مثل إمرسون يحتاج إلى الآخرين ليضيء بقوة أكبر. ليس المثير للدهشة أن علاقة ثورو وإمرسون أطلقت كل هذا الشرر، لكن أنها احترقت بمرح على النحو الذي آلت إليه، على الرغم من كون طرفيها باردين. "أصدقاء من قبيل ما نرغب به، مجرد أحلام وخرافات". كتب إمرسون.

عندما انتهيت من "فصول مُصمتة" أخيرًا، حين أغلقت غلافه ووضعته على الأرضية، شعرتُ بحضور مدهش مع أني كنتُ لوحدي. إنه كتاب غير عادي، بأقل ما يمكن من التأريخ، يُحيل إلى ثورو في رغبته أن يكون فقط ما هو عليه "أي مجرد كتاب"، سخي بالطريقة التي يتكشف من خلالها. ممتلئ بالثقة أن القراء أذكياء بما يكفي لينسجوا خلاصاتهم الخاصة بهم، وكثيف بتطلبه إلى حد ارتقاءهم بأنفسهم من أجل المهمة.   

 

 المصدر:

 lareviewofbooks


عدد القراء: 1846

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-