قراءة لرواية «القلعة» للكاتب الأسكتلندي أرتشيبالد كرونينالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-09-30 22:00:10

رقية نبيل عبيد

الرياض

الكتاب: القلعة

المؤلف: أرتشيبالد جوزيف كرونين

المترجم: حلمي مراد

الناشر: دار البشير للطباعة والنشر والتوزيع

سنة النشر: 1 يناير 1998.

عدد الصفحات: 311 صفحة.

تحكي الرواية عن طبيب شاب يُدعى"مانسون" يبدأ حياته الطبية في قرية بسيطة من ريف "ويلز"، كان للشاب تصورات مثلى عن طبيعة مهنته، حلم بمساعدة الفقراء وأن يهب علمه لمن يحتاج، لكنه فوجئ بصعوبة الحياة بشكل لا يصدق وبدا أن كل الناس يسخرون من حداثته وشباب حلمه ، ويقع في غرام معلمة القرية الفاتنة الحنون ويتزوجها لتبدأ رحلة كفاحهما معًا، ويقابل مساعد الطبيب الثاني في القرية غليظ الملامح لكنه يحمل في صدره قلبًا شجاعًا وغيرة على أبناء عاملي المناجم البسطاء ،ويكتشفا سوية أن مجرور القرية الذي لا يعيره كبار المسؤولين أي أهمية هو السبب وراء أمراض كثيرة منتشرة في القرية،، يحاول مانسون إقناعه ببعث مزيدًا من الرسائل عن أضرار المجرور إلى المسؤولين فيزمجر ديني بغضب ويعطيه الحل، قال ببساطة "الليلة، سوف نفجره"، ويحمل الشابان المتفجرات تحت إبطيهما وكأنهما خارجين في نزهة، ويتسللان عند منتصف الليل وينجحان بالفعل وتستيقظ القرية كلها على الانفجارات التي تهزها هزًا، هكذا يتعلم مانسون ألف باء التحاور مع الكبار لإنجاز أي عمل.

ويسافر من مكان لآخر ويفتتح بصعوبة شديدة عيادة في فيللا خربة مهدمة، استخدم شطرها لسكناه والشطر الآخر للعيادة، كانت مظلمة وكئيبة لدرجة أن انفجرت زوجته في البكاء فور أن طلب منها التحمل، لكنها كانت باسلة وأكثر شجاعة وتصبرًا منه، وتتتابع فصول الرواية لنرى العيادة الخاوية شحيحة الدخل تلجها أخيرًا امرأة في غاية الجمال والرقي، قدمت تطلب علاجًا لحبٍّ غريب الشكل ظهر على يدها، كانت متشككة وغير راغبة في الدخول قالت أنها جاءت هنا كحل أخير بعد أن حير مرضها كبار الأطباء، ظهر الاهتمام والتلهف على وجه الطبيب الشاب وأخذت المرأة العلاج وهي غير واثقة من أي شيء، بعد أيام تعود المرأة بثقة وسعادة وقد نجح علاج الطبيب قليل الشهرة قليل المرضى الذي عرفته، شكرته بحرارة ولما رفض أخذ زيادة عن أجره ابتسمت بثقة وأخبرته "أعرف كيف أرد دينك"، لم تمض أسابيع قلة حتى كانت العيادة غاصة بالمرضى، واكتشف الزوجان أن المرأة لها علاقة بكل ساكني المدينة من الطبقة المخملية وأذاعت اسمه في كل مكان، وابتدأ المال، مال وفير وغاية في الكثرة حتى أنه لأول مرة في حياته فاض عن حاجته وزوجه! وبدأ يتعرف بكبار الأثرياء وأطباءهم واكتشف طرقًا سهلة ويسيرة لربح مزيدًا من المال، حينما تشتكي لك امرأة عجوز مرض ما أعطها أي دواء يخطر في بالك، ولما فرغ الدواء منه ذات مرة ملأ لهن قنائن ماء! وأتت النسوة العجائز الثريات أكثر سعادة وحيوية بالدواء الجديد ذو المفعول الساحر! ويألف الطبيب الخداع ويلف لسانه بألف خيط حريري معسول، وتنثال الكذبات منه بكل سهولة.

ويومًا بعد يوم انطوت كريستين أكثر على نفسها، صارت لا تعرف هذا الكائن الذي يعيش معها، إنسان جشع لا تكفيه أكوام من المال، ويغيب مرارًا وتراه برفقة العديد من النسوة لا سيما تلك التي أتت لأول مرة، ويحاول أن يصطحبها يومًا لمطعم شديد الرقي وترتدي الثياب الحريرية التي لا تكاد تعرفها، وتتظاهر بالسعادة، ثم فجأة تختنق بكل هذا، تختنق بالشال الحريري وبالأطباق الفاخرة وبالنسوة المكتحلات  المتهامسات اللواتي يحطن بها ويحتلين بأثمن الجواهر، وتغادر زوجها إلى الريف الذي تعشقه وبيتها البسيط الذي تجد فيه كل الراحة والسعادة ليزداد الطبيب في المدينة غرقًا في مستنقعات الأغنياء، حيث المال السهل والضمير المنعدم.

وتعود ذات ليلة وتنتظر في كرسي مكتب زوجها القديم بهدوء، وفجأة يفتح الباب، وتلبث في مكانها تصيخ السمع لخطواته الباحثة عنها، ويطالعها أخيرًا، وتنظر له بحيرة هنالك شيء مخيف في وجهه، عينان محمرتان وفم مكظوم، يحملق فيها وكأنه لا يصدق أنها موجودة، "كريستينا" ينطق باسمها ثم فجأة يركع على قدميه أمامها ويدفن رأسها فوق حجرها ويهتز ببكاء عظيم! ويحكي لها كيف شهد لتوه مقتل مريض فقير بدم بارد في غرفة العمليات، لم يستطع صديقه الطبيب الثري علاجه فقتله ببساطة، ثم خرج يكفكف دمعه ويزف الخبر الحزين للأرملة المنتظرة في الخارج، لم يصدق كيف ينهي إنسان حياة بهذه السهولة ثم يتقن الكذب وتصنع الحزن لهذه الدرجة!! عند تلك النقطة أدرك أي رجل غارقٌ هو وأي وحل غاص فيه حتى أذنيه،.

ويترك كل شيء خلفه ويأخذ بيد زوجته التي صار يثمنها ويقدرها أكثر بمائة مرة ويرحل لعالم جديد آخر يبدأ فيه وقد صار كأنه شخص ولد من جديد، ويصر على مثله الأولى التي اعتنقها، تلك المثل التي تدر قليلًا من المال على صاحبها لكنها تصب في راحة ضميره وسعادته من عظيم بحورها، وفور أن بدأت الحياة تضحك لهما وبعد أن صار يعبد الأرض التي تخطو فوقها زوجه، تغادره كريستينا لشراء مشروبه المفضل، ليعود له بها الجيران جثة هامدة وقد اصطدمت بها عربة مسرعة ، يسقط "مانسون" مغشيًا عليه ويلبث في عتمة غيبوبة حمى وهذيان لأيام بعدها، وقلبه يكاد ينفطر لأنها رحلت عنه للأبد، ولأن الحياة لم تمهله فرصة تعويضها عن الأذى والألم الذي تسبب بهما لها، في النهاية يلتقي الطبيب برفاقه القدامى، ثلة من الشباب مابين الطبيب والصيدلي والعالم المجهري، جيوبهم خاوية لكن صدورهم مفعمة بحيوية الصغر شغوفة بالعلم ومصرة على مبادئها وأخلاقياتها، ويختتم بنا الكاتب روايته وهو يرينا جزءًا من صراعاتهم مع نقابة الأطباء ومع العجائز متبلدي العقول متحجري القلوب ممن يعتلون عرشها.

 إن أرتشيبالد كرونين نفسه عمل طبيبًا ومفتشًا طبيًا في المناجم لهذا أنت حين تقرأ له لا تجد إلا كل الواقعية في أعماله، إنه ببساطة يتحدث مما رأى وعاين بنفسه، ومن صراعات اضطربت في صدره ذات حين، إن المال مغرٍ بشدة وتطبيب الفقراء بلا شك لا يأتي بمثقال ذرة منه، لكنها الإنسانية وراحة الضمير هما جلّ غنيمة من اتخذ هذا المسلك، وكفاح النفس أولًا فالمجتمع ثانيًا لتصل إلى الطبيب الإنسان هو محور رواية القلعة.

تعد القلعة أشهر وأثرى عمل لآرتشيبالد ، والأكثر تأثيرًا أيضًا لأنها فضحت الكثير من أوجه فساد الجهاز الطبي في المملكة المتحدة آنذاك، وخلقت لكاتبها صفوفًا من الأعداء من كبار الأطباء وكانت هناك جهود لإخفائها والمنع من انتشارها، لكنها مع ذلك حققت رواجًا عظيمًا وتأثر بها الناس من كل مكان ، ثم ساهمت بعدئذ في زرع بذرة لصلاح الأجهزة الطبية هناك.

بالنسبة لي ما أعجبني بشدة وجعلني أقع في غرام القلعة هو أنها شديدة الإنسانية، وأبطالها هم شخوص من لحم ودم، يخطئ بطلها ويتردى في آثام البشرية قبل أن يثوب  إلى رشده وإلى رجل أكثر إنسانية مما كانه قبلا،، وحوارات القلعة ومشاهدها كانت غاية في الجمال، وأذكر مشهدًا في الرواية بالأخص حيث يذهب مانسون وكريستينا لشراء الأثاث المستعمل فور انتقالهم للمدينة، ويغضب مانسون بشدة من صاحب المتجر الذي يحاول بيع أثاث محطم وقديم له، ويهدده بأنه يملك إعلانه الذي يدعي فيه أنه يبيع أفضل الأثاث ولا يتركه حتى يدله على خير ما عنده، وفور أن يلجأ منزلهما ينفجر مانسون وكريستين من الضحك، وتسخر كريستين منه لأنها كانت متأكدة أنه كان قد نسي صفحة الإعلان في البيت.

قد يبدو مشهدًا عاديًا لكن منظر كريستين وهي تنحني ممسكة بفرشاة شعرها محمرة الوجه وغارقة في الضحك بينا مانسون يغطي وجهه بوسادة على السرير محاولا كتم أصوات ضحه العالي لم يفارق مخيلتي أبدًا بالرغم من مرور قرابة عشرة أعوام على قراءتي للقلعة.


عدد القراء: 2792

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

التعليقات 1

  • بواسطة نجمة خليل حبيب من فلسطين
    بتاريخ 2022-01-08 04:01:07

    تعريف مفصل يجعلنا نتحسس جماليات الرواية ويحفزنا على قراءتها. شكراً أستاذة رقية نبيل عبيد

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-