ما الذي أخبرنا به دوستويفسكي من خلال رواياته؟الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-01-31 17:28:34

فكر - المحرر الثقافي

ريتشارد هريت Richard Herrett

ترجمة: المحرر الثقافي

يصادف 11 نوفمبر/تشرين الثاني الذكرى الـ200 لميلاد الفيلسوف والروائي الروسي فيودور دوستويفسكي الذي تُرجمت أعماله إلى العديد من اللغات، وأصبحت أفكاره وشخصياته الروائية جزءًا من تراث البشرية الثقافي.

إن بعض كتابات دوستويفسكي تستند إلى تجاربه الخاصة مثل رواية "مذكرات من بيت ميت" التي ينقل فيها تجربته في سجن سيبيريا حيث حُكم عليه في عام 1849 بالأشغال الشاقة مدة 4 أعوام.

وتجنبًا للرقابة الحكومية بعد إطلاق سراحه، جسّد دوستويفسكي عواطفه في مجرم خيالي، وبين أوراق هذه الروايات شبه الخيالية تكمن لمسة الخلود؛ فلا تعكس هذه الأعمال نفسية دوستويفسكي أثناء سجنه السياسي في روسيا في القرن الـ19 فحسب، وإنما يمكن أيضًا أن نُسقط عليها تجربتنا في فترة الإغلاق التي باتت ظاهرة عالمية شائعة في القرن الـ21.

يتحدث الروائي الروسي في روايته "ذكريات من منزل الأموات" عن معاناة الأسرى بين الشوق والرغبات المكبوتة، وقد تمكن دوستويفسكي من إشباع رغباته وتوقه إلى الحرية من خلال قراءة المجلات المهربة وروايات ديكنز. ومثلما هو الحال في رواية "ذكريات من منزل الأموات" (1860-1862)، نهل الكاتب الروسي بكثرة من تجاربه في الأسر وكان ذلك واضحًا في أعمال أخرى على غرار "الجريمة والعقاب" (1866)، و"الأبله" (1869)، و"الشياطين" (1871-1872)، و"الإخوة كارامازوف" (1880).

في "ذكريات من منزل الأموات" يقول بطل الرواية وراويها ألكسندر بيتروفيتش "أثناء عزلتي، راجعت حياتي الماضية حتى أدق التفاصيل".

وفي أحداث الرواية حكم على الراوي بطل الرواية بالترحيل إلى سيبيريا و10 سنوات من الأشغال الشاقة، ويروي معاناته في السجن كرجل نبيل يعاني خبث السجناء الآخرين، ويتغلب في النهاية على اشمئزازه من وضعه وزملائه المدانين، ويخضع لاستيقاظ روحي يتوّج بإطلاق سراحه من المعسكر.

ويصوّر دوستويفسكي نزلاء السجن بتعاطف مع محنتهم، ويعرب أيضًا عن إعجابه بطاقتهم وإبداعهم وموهبتهم، ويخلص إلى أن وجود السجن، بممارساته العبثية والعقوبات الجسدية الوحشية، هو حقيقة مأساوية، سواء للسجناء أو لروسيا.

الشياطين تشكل شخصية الروائي الحداثي

خالط دوستويفسكي أشخاصًا من جميع الطبقات والأديان وسط ظروف السجن القاسية، وبفضل هذه التجربة لامس موضوعًا مقربًا جدًّا من قلب ليو تولستوي الذي وصف رواية "مذكرات من بيت الأموات" بأنها "أفضل عمل في جميع الأعمال الحديثة، بما في ذلك أعمال ألكسندر بوشكين".

عاش تولستوي طوال حياته حُرًّا، في حين أمضى دوستويفسكي جزءًا كبيرًا من حياته بعد خروجه من السجن في سداد ديون القمار الضخمة للدائنين، وألّف معظم رواياته بعد إطلاق سراحه وخلال معاناته من القلق المزمن والإفلاس المالي وحالة عصبية تعرف بـ"متلازمة جشوند". وقد ابتعدت كتاباته عن الرومانسية التي كانت حاضرة في رواياته الأولى، وأصبحت أكثر قتامة وسبرًا لأغوار قلب الإنسان وعقله.

كما أشاد الكاتب الأيرلندي جيمس جويس بكتابات دوستويفسكي مؤكدًا أنه "الروائي الذي ابتكر النثر الحديث، وصقله في شكله المعاصر، وقد حطم أسس روايات العصر الفيكتوري الأوروبي بفكرها البسيط والممارسات الشائعة المنسقة والخالية من الخيال والعنف".

وهذا التأثير واضح في أعمال العديد من كتّاب القرن الـ20 المرموقين. وكانت الصدامات بين الفرد والمجتمع والحداثة عنصرًا مميزًا في معظم كتابات دوستويفسكي بعد خروجه من السجن.

ويعدّ كتاب "الشياطين" الذي يتميز بأسلوب السخرية الاجتماعية والسياسية أفضل وصف للأوضاع الحديثة، لا سيما في عالم السياسة الجماهيرية، حيث يصور البشر بوصفهم عبيدا أبديين بسبب غرائزهم الحيوانية.

في رواية "الشياطين" تتحول الأحلام إلى كوابيس، ويوضح دوستويفسكي ما يحدث عندما يصبح الناس عبيدًا للأفكار التي يُنظر إليها على أنها أكثر واقعية من الكائنات البشرية. يسبق هذا الفكر الثورة اللينينية بنحو 50 عامًا، وقد حاول دوستويفسكي تحذيرنا من أصحاب الأيديولوجيات حتى إن كانت لهم أفكار عظيمة عن طرق تحسين الإنسانية، ولا سيما أولئك الذين يبررون أي وسيلة لخدمة معتقداتهم. باختصار، إن الأفكار التي تتبنّاها الشخصيات في روايات دوستويفسكي تمثل انعكاسا لأفكاره الشخصية.

الوطن والعالم رسل الشرق والغرب

عادة ما يشار إلى أوجه التشابه بين الروائي الروسي دوستويفسكي والروائي الحاصل على أول جائزة نوبل في الهند رابيندراناث طاغور (1861-1941)، حتى إن البعض يرى لدوستويفسكي صدى في روايات طاغور، خاصة في رواية "البيت والعالم" (1915-1916) التي تتماهى إلى حد كبير مع رواية "الشياطين" واستندت أيضًا جزئيًا إلى تجارب طاغور الشخصية في السجن.

وسواء أكان لدوستويفسكي تأثير مباشر على الروائي الهندي أم لا، فإن أوجه التشابه لافتة للنظر؛ تدور أحداث الرواية حول تقسيم البنغال في عام 1905، وتتبع تجارب ومحن البطلة بيمالا التي تمثل هوية بلدها في مواجهة مصيرها في العالم الحديث. في المقابل، لا يوجد في رواية "الشياطين" نظير واحد لهذه الشخصية، بل العديد من الشخصيات النسائية التي ترمز إلى "الوطن الأم" تكافح من أجل الحفاظ على الوطن بغض النظر عن الإغراءات المدمرة التي تقدمها الأفكار الغربية.

وقد تنبّأت رواية دوستويفسكي بصعود الشمولية في أوروبا في القرن الـ20 وما بعده، أما رواية طاغور فاستشرفت الصعود الخبيث للسياسة القومية الإقصائية.

الحرية من خلال بوتقة الفن

كانت روايات كل من دوستويفسكي وطاغور استشرافية بالقدر نفسه في تشخيصهما للأزمة الحديثة، فقد قضى كل منها حياته في الكفاح في ظل التغييرات السياسية والاجتماعية الضخمة، سواء إصلاحات "بترين" في روسيا أو الاستعمار البريطاني في شبه القارة الهندية. وقد حاول كل منهما رؤية مدى استعداد بلاده لتحقيق الاندماج الاجتماعي الذي يقوم على توليفة ثقافية بين "الشرق والغرب"، "التقاليد والحداثة"، "الوطن والعالم".

في تأملاته عن النضال البشري، عكست فلسفة دوستويفسكي فكرة الشاعر والفيلسوف الألماني فريدريش شيلر بأن الفن الذي يعدّ بجلاء مثالاً للجمال والكمال، يمكن أن يقدم خدمة سامية للإنسانية. وكتب دوستويفسكي ذات مرة "إن أعظم سرّ في الفن أن تصبح صورته عن الجمال محبوبة من دون قيد أو شرط، إنها حاجة ضرورية للكائن البشري، ذلك التناغم الذي يكمن فيه الهدوء وتجسيد المثل العليا للإنسان والبشرية".

وحسب الكاتب، فإن آراء دوستويفسكي تنسجم بشكل كبير مع آراء طاغور الذي لطالما آمن أن الفن يعكس مُثُلا أخلاقية عالمية، بل ذهب طاغور إلى أبعد من ذلك في مقالة أصدرها عام 1913 بعنوان" إدراك الجمال"، مشيرًا إلى أن الموسيقى هي أسمى أشكال الفن وأكثرها توحيدًا للناس.

ورغم أنهما ينتميان إلى عالمين ثقافيين مختلفين، فإن دوستويفسكي وصل إلى استنتاج مشابه لذلك الذي وصل إليه الشاعر الملحمي البنغالي وهو أن "البحث عن الهوية الفردية نادرًا ما يقودنا إلى الداخل، إنّه يقع حتمًا في مكان ما خارج ذواتنا".

ويعتقد الكاتب أن الفلسفة الأخلاقية الشاملة لطاغور تتشابه إلى حد كبير مع فكر دوستويفسكي وتطلعاته، إذ يرى كلاهما أن المعنى الحقيقي للحرية لا يأتي من البنية الاجتماعية المثالية أو الأيديولوجيات المجردة، بل ينبع بأن التمسك بالأنا وفرض مُثُلنا على العالم هما السبب الأساسي لمعظم المآسي البشرية في هذا العالم.

وقد ألهم فكر دوستويفسكي الكاتبة البريطانية إيريس مردوخ لصياغة ما أطلقت عليه فلسفة "نكران الذات"، وتعني أن "الفلسفة غالبًا ما تكون مسألة إيجاد فرص تمكننا من قول كل ما هو واضح وتعزيز مبدأ سيادة الخير".

قاوم دوستويفسكي السرديات والأيديولوجيات القائمة على الهوية، لكننا ما زلنا نعاني في عالم اليوم من ويلات الإقصاء والتهميش والعنف على أساس الهوية والانتماء، والقاسم المشترك بين كل من يرون العالم من هذا المنظور هو الفشل في رؤية ما يجمع البشر والتركيز فقط على ما يفرقهم.

ما توصّل إليه دوستويفسكي هو أن العديد من المشاكل في المجتمعات البشرية ليست صراعًا بين الأخيار والأشرار، فنحن في النهاية مخلوقات بشرية نحمل بداخلنا دوافع متداخلة بين الخير والشر.

كان لدى دوستويفسكي فكرٌ أخلاقي عميق، وقادته حياته المضطربة إلى الاعتقاد بأن الطريق الحقيقي الوحيد للانسجام الاجتماعي هو الطريق الذي لا يُستثنى فيه أي شخص من الحق في الحرية والكرامة الإنسانية.

يرى دوستويفسكي أن الإنسانيات والعلوم يمكن أن تستفيد من بعضها، واعترافًا منه بمحدودية المعرفة الإنسانية، اعتقد دوستويفسكي أن أجوبتنا عن بعض أكثر الأسئلة المحيرة في التاريخ قد تبقى منقوصة، لا سيما عندما يتعلق الأمر بفهمنا للطبيعة البشرية.

بعد مرور 200 عام على ولادته، سيتذكر كثيرون دوستويفسكي باعتباره مفكرًا مشكّكا وعاطفيًّا وصريحًا، لطالما عبّر عن مقته للكراهية والقمع بكل مظاهره.

في هذا العالم الافتراضي الذي هيمنت عليه التكنولوجيا يصعُب تصوّر اهتمام الأجيال القادمة بقراءة روايات دوستويفسكي الطويلة، لكن يبدو أن عليهم فعل ذلك؛ فكُتب دوستويفسكي وإن كانت ممزوجة بالكوميديا السوداء والشفقة والكآبة، إلا أنها مع ذلك تنهض بالهمم.

في عالم الإنترنت المليء بالمقاطع الصوتية والقناعة العمياء، من الصعب تخيل أن الأجيال القادمة ستهتم بقراءة رواية دوستويفسكي المؤلفة من ألف صفحة. لكن يجب عليهم ذلك. كتب دوستويفسكي - بمزيجها الفريد من الكوميديا السوداء والشفقة - قاتمة بشكل ملحوظ. ومع ذلك يمكن أن تكون مبهجة بشكل غريب. لقد اختبر فيهم حدود حرية الإنسان: في السجن شهد على أظلم جوانب الطبيعة البشرية؛ في سنواته الأخيرة في الحرية تألم بسبب عقيدتنا الطبيعية وتدمير الذات.

"الإنسان على الأرض يكافح من أجل المثل الأعلى الذي يتعارض مع طبيعته"، هكذا يقول أحد المداخلات في دفتر الملاحظات بتاريخ 16 أبريل 1864 - والتي أصبحت اللغز الأكثر تناقضًا لدى دوستويفسكي، والأكثر إيجازًا لما اعتبره مأساة الحالة البشرية. قرب نهاية حياته، كان يوجه اللوم إلى البشر ليس لوجود الشر أو الغرور أو الأنانية، ولكن لاستسلامهم لأفكار غير مرنة من شأنها أن تؤدي بنا إلى إغفال مُثلنا المشتركة - وبالتالي الدافع إلى السعي من أجلها. غالبًا ما أثار عمله العديد من الأسئلة مثل الإجابات، لكنه احتوى على أكثر من نواة من الحقيقة.

كما قالت إيريس مردوخ ذات مرة، "إذا كان الخيال ضروريًا بدرجة كافية، فهو ليس كذبة". بعد مائة وخمسين عامًا من نشرها التسلسلي الأول، تحتوي الشياطين على قدر كبير من الحقيقة حول المأزق البشري مثل أحدث الكتب في علم الوراثة. وكما أظهرت أكثر روايات دوستويفسكي نبوءات، فإن حدس الفنان يمكن أن يسلط الضوء على المستقبل قبل وقت طويل من تمكن بقيتنا من رؤيته؛ كما أوضح طاغور، وكما أوضح الحداثيون الأدبيون لاحقًا: بما في ذلك جورج أورويل، الذي تدين حكايته البائسة، 1984 - ليس بالمصادفة - بالكثير، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، لأعمال دوستويفسكي الخيالية.

للأسف، نظرًا لتقليل أرباب العمل من درجات العلوم الإنسانية، وإعطاء الحكومات الأولوية لموضوعات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، ما زلنا نرى انخفاض عدد طلاب الفنون والعلوم الإنسانية. إذا أظهرت لنا الأشهر العشرين الماضية أي شيء، فهو أن مسببات الأمراض والفيروسات تشكل تهديدًا وجوديًا. تتجاوز الموسيقى والفن الحدود، ولكن الفيروسات تفعل ذلك أيضًا.

بينما نمضي قدمًا في العالم - ونواجه أيضًا أزمة بيئية تلوح في الأفق - سنحتاج إلى العلوم أكثر من أي وقت مضى. لكن التداعيات السياسية لمثل هذه النكبات يمكن أن تأتي في وقت أقرب مما نتوقع، لا سيما ونحن نواجه المظاهر المستمرة لعدم المساواة والظلم الاجتماعي العالمي. وبالتأكيد لن نواجه مثل هذه التحديات الضخمة إذا لم نتمكن من حشد الإرادة للسعي حتى من أجل مُثلنا الأساسية المشتركة. ولهذا السبب سنحتاج إلى القلوب النابضة للفنون والعلوم الإنسانية، وحكمتهم المكتسبة بشق الأنفس، أكثر - بينما نواجه شياطيننا السابقة، ونصبح بشرًا أكثر تطورًا، وننقل الدروس المستفادة.

دوستويفسكي هذا العالم - المفكرون والحالمون: طاغور؛ تولستوي - الذين يبدو إرثهم اليوم أكثر تهميشًا من أي وقت مضى، لا يزالون مهمين. وسيظلون كذلك، طالما أننا نعاني في سجون محاصرة الهوية. قال الكسندر بتروفيتش من دوستويفسكي: "السجين يعرف أنه سجين. ولكن لا توجد علامات تجارية، ولن تجعله الأغلال ينسى أنه إنسان".

كتب ألكسندر سولجينتسين، في رواية شبه سيرة ذاتية أخرى عن حياة السجن، "يوم واحد في حياة إيفان دينيسوفيتش": "لا يمكنك أن تتوقع من رجل دافئ أن يفهم رجلاً باردًا". ربما هذا صحيح. ومع ذلك، يمكن لرجل واحد دافئ، من بلدة هندية صغيرة تسمى سانتينيكيتان، أن يفعل ذلك. وفي ربيع عام 2020، في لحظة عابرة في المنزل والعالم، تمكنا جميعًا أيضًا.

 

المصدرscroll

 

https://scroll.in/article/1010212/born-200-years-ago-what-is-fyodor-dostoevsky-telling-us-today-through-his-novels


عدد القراء: 5118

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-