بين ثلاثيتي «مكسيم جوركي» و«نجيب محفوظ»الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-01-31 21:56:18

شوقي بدر يوسف

ناقد من الإسكندرية

تمثل ثلاثية مكسيم جوركي "طفولتي"، "بين الناس"، وجامعاتي" وهي السيرة الذاتية السردية التي ترجمت حياة الكاتب الروسي "لعظيم "أليكسي مكسيموفيتش بيشكوف" الذي عرف بعد ذلك بالاسم الشهير (مكسيم جوركي) حيث تكشف هذه الثلاثية التي سار فيها على نمط ومنوال ثلاثية تولستوي "الطفولة، "الصبا"، "الشباب"، من ناحية الشكل والمضمون والمنبع والمصب، وكانت ثلاثية مكسيم جوركي بأجزائها الثلاثة، والتي تبدو منسية هذه الأيام مع إنها كانت خلال النصف الأول من القرن العشرين ذات شعبية هائلة داخل الإتحاد السوفييتي وخارجه لا سيما بعد أن تحولت إلى ثلاثية سينمائية. شأنها في ذلك شأن ثلاثية نجيب محفوظ "بين القصرين"، "قصر الشوق"، "السكرية" التي تحولت هي الأخرى إلى ثلاثية سينمائية وتليفزيونية، والثلاثيتان تتشابهان في نواح عدة، وتختلفان في نواح أخري، فكل منهما مقسمتان إلى ثلاثة أجزاء لكل جزء فترة زمنية محددة فثلاثية نجيب محفوظ تقسم زمنيًا خلال النصف الأول من القرن الماضي حيث جرت أحداث "بين القصرين" خلال الفترة من 1917 إلى 1919 و"قصر الشوق" من أعوام 1924 إلى 1927، و"السكرية" من 1935 إلى 1944. أما ثلاثية مكسيم جوركي فيتناول فيها الجزء الأول من الثلاثية والحاملة لعنوان "طفولتي" حياته من سن الثالثة إلي سن الحادية عشر وفي الجزء الثاني الحامل لعنوان "بين الناس" يتناول هذه المرحلة من سنة 1879 عندما كان يعمل صبيًا في دكان صانع أحذية إلى يونيو 1884 وفي الجزء الثالث الحامل لعنوان "جامعتي" يتناول جوركي حياته من سنة 1884 حتى عام 1888 أي من سن السادسة عشر إلى سن العشرين، وسبب عتبة هذا الجزء بـ"جامعتي" أن جوركي كان يقصد بها مرحلة ذهابه إلى فازان في محاولة للالتحاق بالجامعة ولكنه لم ينجح في ذلك المسعى، لكنه نجح في هذه السنوات الأربعة أن يحصل على العديد من الأفكار وتلقي كثير من الخبرات والمعلومات والمعارف ما أهله لأن يصقل عقله وفكره أكثر مما كان سيحصله من الجامعة من علوم ومعارف، وكأن هذه السنوات الأربعة هي سنوات دراسة جامعية افتراضية سردها مكسيم جوركي في الجزء الأخير من سيرته الذاتية تحت هذا العنوان "جامعاتي".

ربما كان الاستهلال الأولي للثلاثيتين – ثلاثية جوركي وثلاثية نجيب محفوظ – ثمة تشابه  في الحديث عن شخصيات من مجتمع كل كاتب فلو قرأنا الاستهلال الأولي للجزء الأول من ثلاثية نجيب محفوظ "بين القصرين" على سبيل المثال نجد صورة المرأة المغلوب على أمرها "أمينة" في هذا المناخ الاجتماعي في مصر هي التي بدأ بها نجيب محفوظ ثلاثيته ليجسد من خلالها الواقع الذي تعيشه الأسرة المصرية خاصة العنصر النسائي الكامن فيها، وفي هذا الاستهلال يقول نجيب محفوظ: "عند منتصف الليل استيقظت، كما اعتادت أن تستيقظ في هذا الوقت من كل ليلة بلا استعانة من منبه أو غيره، ولكن بإيحاء من الرغبة التي تبيت عليها، فتواظب على إيقاظها في دقة وأمانة، وظلت لحظات على شك من استيقاظها فاختلطت عليها رؤى الأحلام وهمسات الإحساس، حتى بادرها القلق الذي يلم بها قبل أن تفتح جفنيها من خشية أن يكون النوم خانها فهزت رأسها هزة خفيفة فتحت عينها على ظلام الحجرة الدامس.. لم يكن ثمة علامة تستدل بها على الوقت، فالطريق تحت حجرتها لا ينام حتى مطلع الفجر، والأصوات المتقطعة التي تترامى إليها أول الليل من سمّار المقاهي وأصحاب الحوانيت هي التي تترامى عند منتصفه وإلى ما قبل الفجر، فلا دليل تطمئن إليه إلا إحساسها الباطن، كأنه عقرب ساعة واع، وما يشمل البيت من صمت ينم عن أن بعلها لم يطرق بابه بعد ولم تضرف طرف عصاه على درجات سلمه". تلك كانت بداية رواية "بين القصرين" أول أجزاء ثلاثية نجيب محفوظ، حياة اجتماعية رتيبة تعيشها الشخصيات كل بحسب طبيعته وجبلته الذاتية.

أما الاستهلال الأولي لسيرة مكسيم جوركي في جزءها الأول "طفولتي" فكان يتشابه مع استهلال كاتبنا الكبير نجيب محفوظ في تصوير نفس المناخ الاجتماعي لسارد سيرة الكاتب وهو يقول في هذا الاستهلال ولكن من زاوية أخرى هي زاوية مشهد احتضار رب الأسرة: "كان والدي مستلقيًا على الأرض تحت نافذة غرفة صغيرة مظلمة تضج بالغبار، يبدو لي طويلاً بشكل يلفت النظر ويدعو إلى الدهشة، وقد اكتسى بالبياض من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، وكانت أصابع قدمه الحافية منفرجه عرضًا بشكل غريب جدًا، تتباعد عن بعضها بفعل حركة تشنجه، وأصابع يديه اللطيفتين، المسلوبتين علي صدره، ملتوية هي الأخرى بعناد وقوة، وكان درهمان نحاسيان يغلقان عينيه الضاحكتين، وقد أمسى وجهه النحيف شديد الزرقة، هالني منه بصورة خاصة أسنانه الاصطناعية وبروزها بين فكيه المتوترتين.

وكانت والدتي نصف العارية بتنورتها الحمراء القصيرة، جاثية قربه تسّرح شعرها الطويل الناعم، المنسدل بدلع على جبينها، بذلك المشط الأسود الذي اعتدت أن استعمله منشارًا أقطع به قشر البطيخ، كانت تحمحم بأشياء عديدة مبهمة في صوت مبحوح عميق، وقد انتفخت عيناها الرماديتان وراحتا تذرفان دموعًا غزيرة.

وكانت جدتي – وهي امرأة ضخمة الجسم، مستديرة الرأس، كبيرة العينين، ذات أنف بارز يبعث على السخرية – ممسكة بيدي، وكل شيء فيها كثير النعومة، عظيم الكآبة، فائق الفتنة.. وكانت هي الأخرى تذرف الدموع السخينة، لكن بطريقة خاصة تصعد نغمة رقيقة ترافق بكاء أمي، وكانت ترتجف بكليتها، وهي تدفعني باستمرار ناحية والدي، أما أنا فأرتمي إلى الخلف، وأفتش عن مخبأ لي وراء تنورتها.. كنت خائفًا ومتضايقًا في وقت واحد" (ص5)

المشهدان في بداية كل ثلاثية يتشابهان في أسلوب السرد، وإن كان الأسلوب في ثلاثية نجيب محفوظ يسرد بضمير الغائب، أما أسلوب مكسيم جوركي فيسرد بضمير المتكلم باعتبار أن ما يسرده الكاتب عند جوركي هو سرد سيّري، وليس سرد حكائي لعمل روائي متخيل كما عند نجيب محفوظ. كذلك فإن المشهد عند نجيب محفوظ هو مشهد اجتماعي نمطي لربة البيت التي تعرف بإحساسها ميعاد عودة زوجها سي السيد من سهراته الليلية المعتادة، لذا فهي تعد نفسها للقائه وهي عادة اجتماعية عند الأسر المصرية التي يتسيد فيها رب البيت مقدرات الأسرة دون منازع، بينما المشهد في الجزء الأول من سيرة جوركي "طفولتي" فيجسد حالة الأسرة أثناء الإغفاءة الأخيرة لوالد أليوشا بشكوف بطل السيرة بسبب مرضه بمرض الكوليرا الذي ضرب روسيا في تلك الفترة،.

ومن ناحية أخرى تتشابه ثلاثية مكسيم جوركي مع ثلاثية مواطنه الكاتب الروسي ليو تولستوي "الطفولة"، "الصبا"، "الشباب" من ناحية التأثير فكلاهما تأخذ الشكل السيّري، وكلاهما تتخذ من المراحل السنية التي مر بها كل منهما، حيث تأثر جوركي بثلاثية تولستوي وكتب على نفس النمط والمنوال مراحل حياته التي بدأها من الطفولة وحتى نزوله معترك الحياة، ومثل ما كتب ليو تولستوي ثلاثية سيرته الذاتية ووضع فيها مراحل حياته بشكلها التي كانت عليه كتب جوركي ثلاثيته ولكن بطريقة مغايرة. ليحقق من خلالها رؤيته حول الإنسان الروسي الذي يملك من الفتوة وسلامة الفكر ما يستطيع بهما أن يحقق ما لا يستطيع غيره أن يحققه، وهو ما حققه جوركي فعلاً في مسيرة حياته التي تبوأ عنها هذا المجد العظيم الذي لم يصل إليه أحد على نفس شاكلته.

وفي نهاية الجزء الأول من السيرة "طفولتي" عندما أتم الصبي أليوشا العاشرة من عمره رحلت الأم بعد فترة زواج ثاني ويقول الجد الذي كان يعوله وقتئذ: "والآن يا ألكسي إنك لست ميدالية على صدري، قم وأذهب إلى الناس". (كتاب كيف تعلمت الكتابة ص 16) لقد كانت هذه العبارة بمثابة بداية التمرد والتشرد عند ألكسي وانتقاله إلى مرحلة الصعلكة والبحث عن الطريق الذي سوف يسلكه، والواقع أن قصة آليوشا بيشكوف حفيد الصانع كاشيرين النوفجورودي الذي أصبح بعد تجارب لا تكاد تصدق هو الكاتب الروسي العظيم مكسيم جوركي. ترك جوركي منزل جده وبدأ يقتات من رحلة الحياة الصعبة التي سار فيها، ورسم لنفسه طريقًا كابد فيه الكثير، وقال عنه في إحدى كتاباته: "رحت أفكر وأفكر وأنا أسير، ما أحلى أن أصبح لصًّا أسرق من الأغنياء وأعطي الفقراء، ما أروع أن أذهب إلى روح جدتي فأروي لها الحقيقة كاملة عن حياة التعساء البائسين وكيف يدفنون بعضه بعضًا في الرمل المخيف بطريقة مرعبة مؤذية، وكم على وجه البسيطة من منغصات ومؤذيات لا جدوي منها، فإن صدقتني سألتها أن تمنحني الحكمة الكافية لأبدل هذه الأمور وأجعلها أفضل وأكثر رخاء، أن تجعل الناس يصغون لي ويؤمنون بي". كان جوركي يحمل بين جنبيه كما كبيرًا من الرومانسية الواقعية والتمرد المبني علي حب الناس والبحث عما يسعدهم، وهو يقول في ذلك: "جئت إلي هذا العالم كي لا أوافق" لقد كان التمرد من أهم السمات المتأصلة في نفس مكسيم جوركي والتي نمت معه منذ نعومة أظفاره. وقد حاول جوركي الانتحار مرتان مرة ببندقية خفيفة وتم إسعافه في إحدى المصحات وهناك حاول شرب سائل كيمائي وأسعف مرة أخرى، وقد أشار إلي ذلك في الجزء الثالث من سيرته، وقد حاول تصوير ذلك في قصته "حادثة من حياة مكار".

تنقل الصبي أليكسي بين أعمال كثيرة يقول عنها: "بدأت حياتي عاملاً مساعدًا لدهان، وخبازًا وداهنًا للأيقونات، وسائسًا للخيل، وحفارًا للقبور، وحمالاً وحارسًا ليليًا وبستانيًا". وقد تركت هذه الأعمال في حياته آثارًا عميقة جسمانية ونفسية فأصيب بضعف في الأعصاب وآلام في الصدر ولكنه أخذ منها خبرة حياتية كبيرة جعلت منه رجلاً يستطيع أن يتعامل مع الحياة في كل صدماتها ومعاركها، ومن الأعمال التي أثقلت موهبته الأدبية عمله مع طاه على ظهر باخرة وهنا تتفتح مواهب الفتى الصغير ويبدأ ولعه بالقراءة فقد كان الطاهي الذي يعمل معه قارئًا نهمًا للغاية، وكان يطلب من الصغير أن يقرأ له في بعض أوقات الراحة حيث كان الطاهي يحمل معه صندوقًا كبيرًا مليئًا بالكتب والمجلات على ظهر السفينة اللذان كانا يعملان عليها.

لقد كانت الكتب الثلاثة التي صور جوركي فيها سيرته الذاتية والتي تمثل في نفس الوقت صور صادقة للحياة الروسية في العقود المظلمة التي مرت بها روسيا أواخر القرن الماضي. كان النص الأول في هذه السيرة والمعنون "طفولتي" يدور حول بداية حياة الصبي أليوشا بيشكوف الذي عانى كثيرًا في صباه، ولكن حيويته التي كانت لا تقهر وإيمانه بأصالة بمعدن الإنسان الذي أمامه.

في الجزء الثاني من السيرة والمعنون "بين الناس"، أو "في العالم" كانت خطواته الأولى قد بدأت كعامل يعمل في خدمة صاحب محل أحذية، حيث رأى بعينيه عالم الاستغلال القاسي، الذي لا يعرف شفقة ولا رحمة على العامل الكادح، في هذه السنوات، ومن خلال رؤيته الذاتية وما يحمله في نفسه من إصرار ومثابرة على المشقة في الحياة والعمل، وقد لعبت الكتب تأثيرًا كبيرًا جدا في تكوين شخصية جوركي فهو يفرد لها صفحات حماسية كثيرة في الجزء الثاني من سيرته "في العالم" والذين ساعدوا مكسيم في مجال القراءة امرأة هي: زوجة الخياط الذي كان يعمل عنده والتي تركت في نفسه أثرًا عميقًا، أهدت إليه كتاب من تأليف مونتيبان بعد أن ذهب إليها محذرًا إياها من تصرف الجنود تجاهها أثناء عمله لدى زوجها، كان أول سطر يقرأه في حياته "البيوت كالبشر، لكل منهما ملامح خاصة، القراءة الأولى لمكسيم فتحت له مجالاً لم يكن يحلم به، مكنه الكتّاب من الانتقال لعالم آخر بأسماء وصلات وشخصيات مختلفة، أبطالاً ونبلاء النفس وأشرار تتطابق شخصياتهم مع الذين يعاصرهم في حياته، كان كل ما في الكتب يبحث على الدهشة إلى درجة أنه فكر بمساعدة بعض أبطال الرواية، ولكنه تذكر أخيرًا بأن من يريد مساعدتهم كانوا شخصيات علي الورق، وقد أثارت الكتب في نفسه أشياء كثير ومنحته ثقة لا حدود لها وعرف أنه لم يعد وحيدًا في هذا العالم وأنه بفضل الكتاب سوق يشق لنفسه دربًا في الحياة، في نفس الوقت قال جوركي عن نفسه: "وطغت علي رغبة عارمة في أن أحرر العالم كله وأحرر نفسي، بعمل سحري ما، حتى يصبح في ميسوري وفي مقدرة كل إنسان أن يعيش في راحة وأمان وغبطة تجمع الجميع، وحتى يصبح كل امرئ قادرًا على أن يمنح حبه إلى كل إنسان على وجه الأرض"، وعندما كثرت قراءات جوركي ونمت لديه حاسة النقد للذات والحياة كانت له آراء تتناقض مع نظرته للحياة وهي مستمدة من الحياة الأدبية والسياسية التي خبرها وقرأها في الكتب والدوريات المختلفة، فقد كتب يقول: "لا أحب أدبنا المعاصر بسبب تشاؤمه، فالحياة ليست بالسوء الذي يصورونها به في الكتب، فالألوان أزهى والإنسان في الحياة أجمل مما هو في الكتب حتى لو كان الكتاب ممتازًا، ويسيء الكاتب في رأي إلى الإنسان العائش حقيقته، فلم أعرف في حياتي ما هو أفضل وأكثر تعقيدًا وأثارة للاهتمام من الإنسان نفسه، كان تفاؤله للحياة أكثر من تشاؤمه على المستوى الواقعي على الرغم من الحياة المريرة التي عاشها في طفولته. فقد تحول مكسيم جوركي من صعلوك متشرد في صباه إلى أهم كتّاب روسيا وأبرزهم، وكان يتمتع بإرادة هائلة وذاكرة قوية (كحصان) حسب تعبير جده، أكسبته خبرات عديدة ومنحته القوة لأن يصبح واحدًا من أهم كتّاب روسيا خاصة بعد انتصار ثورة أكتوبر 1917 البولشيفية، حيث كان الشارع والحياة هي جامعته الحقيقة التي كتبها عنها في كتابه "جامعاتي" وهي تشمل الفترة التي قضاها المؤلف في كازان، فقد وفد جوركي إلى تلك المدينة القائمة على نهر الفولجا وكله أمل في أن يدخل الكلية، لكن هذا الأمل لم يقترن بالنجاح. فلم تكن أبواب التعليم مفتوحة لجميع المواطنين في تلك الأيام. وهكذا كانت جامعة جوركي هي الحياة نفسها شأنه شأن العديد من الأدباء وكثير من المبدعين في العالم. حياة أكثر تجهمًا من تلك التي وصفها في الجزء الأول والثاني من ثلاثيته، يقول جوركي في ثلاثيته "لكي أتقي الجوع، قصدت إلى أحواض السفن القائمة على ضفاف الفولجا، وهناك في أشهر الصيف كان في ميسور المرء أن يتكسب ما يراوح بين خمسة عشرة كوبيك وعشرين في اليوم، والواقع أن حياة جوركي في كازان تنقلت بين أحواض السفن وأكواخ العمال القذرة، ثم في إحدى المخابز، تحت وطأة الكدح والمعاناة اليومية لم يعرف ألكسي الراحة، ومن هنا أدرك قوة العمل وقيمته، ورحل جوركي عام 1936 ليصطف مع نخبة من كبار الكتّاب الذين أثروا الأدب الروسي بأعمالهم الابتداعية فقد رحل ديستويفسكي عام،1881 وبعد خمسة وعشرين عامًا من رحيله رحل أنطوني تشيكوف عام 1906، وبعد خمسة سنوات من رحيل تشيكوف، رحل ليو تولستوي عام 1911، وبعد خمسة وعشرين عامًا من رحيل تولستوي رحل ألكسي مكسيموفيتش بيشكوف بعد أن حفر لأسمه موقعًا متميزًا بين الخالدين من كتّاب العالم، وأنطوت صفحات مهمة من الأدب الروسي العظيم الذي تعلمت منه الدنيا بأسرها.

لقد كانت ثلاثية مكسيم جوركي، ومواطنه ليو تولستوي تتشابها في أنساق كثيرة، كما أنها كانت  تعبر في المقام الأول عن طبيعة كريزما  شخصية الكاتب التي تمتع بها الكاتب الثوري الكبير وعبقريته المذهلة خلال سنين حياته الحافلة بالأحداث والتي بدأت عام 1868 في عائلة متوسطة الحال جان جده لوالده ضابطًا في الجيش الروسي تحت حكم القيصر نيقولا الأول، وكان وحشي الطباع متحجر القلب لدرجة إنه كان يطلق كلبه وراء ابنه والد جوركي ثم يجري وراء الأثنان ببندقيته. على الجانب الآخر كانت ثلاثية نجيب محفوظ تمثل مرحلة اجتماعية مليئة بمحن وأوجاع الوطن المحتل من الإنجليز وتأثير هذه المراحل الثلاث التي بنيت عليها الثلاثية على الأحداث والشخصيات كما جاءت بسرد الثلاثية. أما ظهور نجيب محفوظ بملامح من سيرته الذاتية في هذا العمل فكان محل جدل كبير حول الشخصيات التي تتضمنها الثلاثية وإن كان البعض يرى أن نجيب محفوظ كان هو شخصية "كمال" في الجزء الثالث "السكرية" وفي نفس توقيت ظهور ثلاثية "نجيب محفوظ" ظهرت على نسقها ثلاثية أخرى وهي ثلاثية "الجزائر" للروائي الفرانكفوني الجزائري محمد ديب. ومن ثم مثلت هذه الروايات النهرية جميعها شكلاً خاصًا من أشكال التعبير الفني للرواية، عبرت كل منهما على أحداث متواترة في خضم الحياة العامة، وقد أغرى الشكل الثلاثي في الفن الروائي، كثير من الكتّاب إلى تتبع هذا اللون من الكتابة الروائية، حتى أصبح هذا الشكل الذي سار فيه كل من نجيب محفوظ ومحمد ديب، ومكسيم جوركي، وتولستوي، وغيرهم من الكتّاب مسارًا جديدًا للرواية العالمية.

 

 


عدد القراء: 2790

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-