إبراهيم ناجي.. شاعر الرومانسيةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-02-01 07:36:00

د. محمد خليل محمود

جمهورية مصر العربية-القاهرة

يُعد الدكتور إبراهيم ناجي: من أهم شعراء الرومانسية في القرن العشرين، وأحد الفرسان القلائل الذين خاضوا معارك أدبية وفكرية طاحنة، وكان كالسيف في حدته وثابته عند مواقفه، ومن أبرز معاركه الأدبية كانت مع الدكتور طه حسين عميد الأديب العربي، وعملاق الفكر عباس محمود العقاد.. بعد إصدار الدكتور إبراهيم ناجي لديوانه "وراء الغمام". كان ناجي، يعيش في كون خاص به أراده لنفسه، لم يحد فيه يومًا عن السبيل التي ارتضاها، يؤمن بأسمى القضايا التي تنهض بالإنسان وبالحب والجمال. بالإضافة إلى هذا كان ناجي واحدًا من فرسان الكلمة الذين بذلوا الكثير من التضحيات الباسلة من أجل نهضتها، وكان الشعر حياته ومتنفسه ودواءه ومملكته.. والقائل فيه نثرًا: "إن الشعر هو النافذة التي أطل منها على الحياة، وأشرف منها على الأبد وما وراء الأبد، وهو الهواء الذي أتنفسه، وهو البلسم الذي داويت به جراح نفسي عندما عز الأساة...؟

وهو القائل عنه شعرًا:

اكتب  لوجـــه الفــن لا تــعــدل بـــــــه       

                   عرض  الحياة  ولا  الحطام  الفاني

وأستلهم  آلام  الطبيعة  وحدهـــــا

                    كم في الطبيعة من سرى  ومعاني

الشعر مملكته وأنت أميرها

                   ما حــاجـــة الــشــعــر إلى الـتــيـجـــان

هــو  أمــير  أمـــره  الــزمــان  بنفسه

                   وقــضــت لــه الأجــيــال بـالــسـلـطــان

ويرى ناجي أن الشاعر الحقيقي هو الذي يزرع الصور في حقل عاطفته، فتنمو وتزدهر وتنتقل إلى غيره حية ناضجة جميلة موحية بكل ما هو عظيم في الحياة، بينما هذه الصور عند غير الشاعر تموت وتذبل وتنتقل إلى الآخرين إما مشوهة أو ميتة. هكذا كان فهم الدكتور إبراهيم ناجي  لمعنى الشعر وأهميته في الحياة، ولهذا كان شاعرًا كبيرًا له مذاقه الخاص الذى لم يتكرر في واحد من أبناء زمانه، حتى وإن اختار لنفسه الشعر الرومانسي الذي يشترك فيه مع الكثيرين، وأن يصبح بحق شاعر الحب بلا منازع، وقد يكون مرجع ذلك أن كلماته في الحب نابضة بالحياة، هذه الطاقة الشعرية التي تميزت بها أشعار إبراهيم ناجي كان من الطبيعي أن تعترضها مآخذ وآراء معارضة، نالت المرأة في شعره النصيب الأكبر من التقدير إلى درجة أن هذا التقدير ظنه البعض أنه تقليل من شأن المرأة، وما هو بتقليل، إن هو إلا تقدير الرجل القوي لمكانة المرأة ودورها في الحياة كقاسم وشريك، فحبه وتقديره للمرأة في أشعاره قد سبب له معاناة مضنية، لعل منها هذا الهجوم القاسي لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين والمفكر والأديب محمود عباس العقاد.. بعد إصدار إبراهيم ناجي لديوانه "وراء الغمام" وما تضمنه من قصائد في حب المرأة يبث فيها نجواه ولوعته على ما تعود من أسلوب عرف به.

مولده ونشأته:

ولد الشاعر إبراهيم ناجي في 13 ديسمبر 1898م في حي شبرا شمال القاهرة، وتلقى دراسته الأولية في مدارس المحلة الكبرى وشبرا، ثم حصل على البكالوريا في مدرسة التوفيقية ثم التحق بمدرسة طب قصر العينى عام 1916م، وتخرج فيها عام 1922م، وعمل عقب تخرجه طبيبًا بوزارة الصحة المصرية، وبجانب عمله بوزارة الصحة، افتتح له عيادة خاصة في حي شبرا، لكنه بطبيعة عمله كطبيب في وزارة الصحة، كان يتنقل بين المحافظات وخاصة محافظات تنقل سوهاج والمنيا بصعيد مصر، وخلال تواجده في هذه الأماكن تعرف على الأديبين علي محمود طه وصالح جودت فجمعتهم صداقة وثيقة منذ ذلك الوقت.

بداية حياته الشعرية:

بدأ الشاعر إبراهيم ناجي، حياته الشعرية حوالي عام 1926 عندما بدأ يترجم بعض أشعار الفريد دي موسييه وتوماس مور شعرًا وينشرها في السياسة الأسبوعية، وانضم إلى مدرسة أبولو عام 1932م التي أفرزت نخبة من الشعراء المصريين والعرب استطاعوا تحرير القصيدة العربية الحديثة من الأغلال الكلاسيكية والخيالات والإيقاعات المتوارثة. كان ناجي شاعرًا يميل للرومانسية، أي الحب والوحدانية، كما اشتهر بشعره الوجداني. وكان وكيلاً لمدرسة أبولو الشعرية وترأس من بعدها رابطة الأدباء في الأربعينيات من القرن الماضي. انفرد إبراهيم ناجي بقاموسه الشعري الخاص وإيقاعه النابض الحي عبر فلسفته النابعة من صميم موقفه تجاه الحياة والناس. كان إبراهيم ناجي في الأصل طبيب نابه متفوق.. كان يمكن أن يتكسب ويعيش من مهنة الطب عيشة رغدة، لكنه أضاف إليها حرفة الأدب، مفضلاً عيشة الكفاف مع الشعراء والأدباء على المال والشهرة مع الأطباء... ليصبح اسمه نداء النجدة للمحتاجين باذلاً علمه وجهده ووقته للناس البسطاء.. حتى ينتهي به الحال إلى مدين لصاحب صيدلية كانت تمده بدواء مرضاه، أو مالك عقار خصصه لاستقبال أعضاء رابطة الأدب التي كان يرأسها، أو مصرف مالي كان يستدين منه للوفاء برواتب العاملين في عيادته والإنفاق على روادها من مرضى الأدباء والفنانين.

لقد عاش الشاعر إبراهيم ناجي إنسانًا، ومات إنسانًا، ولم تكن الشاعرية المتأصلة فيه إلا مظهرًا من مظاهر إنسانيته، وقبسًا من نورها الذي صاحبه طوال حياته. هذه الشاعرية تجعل المرء يتساءل كيف بدأت؟ وكيف تكونت؟ وما مؤاثراتها؟ وكيف اكتملت على النحو الذي جعل صاحبها لا يتحرج من الجمع بينها وبين الطب مهنة حياته؟ أو بمعنى آخر كيف تحقق لقلبه الجمع في آن واحد بين العلم في دقته، والأدب في رقته؟

لعلنا في حديثه عن نفسه-نتبين إجابة عن هذه التساؤلات.. تقدم الملامح والسمات في صورتها الجنينية الأولى.. والتي قد تنبئ عن ميلاد شاعر كبير بعد ذلك. مثلاً يقول: "ذات ليلة منذ ثلاثين عامًا سمعت أبي يقص على أمي قصة أوليفرتويست، لتشارلز ديكنز... وما أزال أذكر تلك الليلة وهيهات أن أنساها". ويقول: ومرت ليلة بعد أخرى، رأيت فيها أوليفر تويست هذا الطفل المعذب فى نومي، وطالما شكوت لأبي أن ثيابه الرثة تزعجني فكان يضحك قائلاً: عندما تراه مرة ثانية استوقفه لتعطيه ثوبًا مما لديك. ويقول: ومرت سنتان حتى جاء اليوم الذي لاينسى، حين زف عليّ أبي نبأ نجاحي في الابتدائية. وسألني عما أريد أن يهديني إياه مكافأة للنجاح، قلت على الفور: كتاب.. فتهلل وجهه، واصطحبني إلى إحدى المكتبات بشبرا، واشترى لي قصة دافيد كوبرفيلد، لتشارلز ديكنز، وأوصاني أن أقرأها كلمة كلمة، وأن أستعين به في فهمها.. فصنعت.

ويقول: وكنا نسكن في شبرا وكانت- وقتئذ- بساطًا أخضر شعريًا بديعًا، تتوسطه ساقية وعلى ضفافيه أشجار جميز وتوت... فكنت أمضي إلى تلك المروج ومعي صديق تأملاتي، دافيد كوبرفيلد، فمازلت به حتى قرأته مثنى وثلاث ورباع، ومازال بي حتى خلق مني أديبًا وشاعرًا.. سامحه الله.

ثم يتساءل: "والحق أني لا أرى- الآن- أأحسن إلى القدر أم أساء؟ أبي كان يحبب ديكنز إليّ ليصقل شعوري ويزرع في الإنسانية، ويعلمني التأمل والملاحظة، أما ديكنز فقد حبب إلىّ الأدب على الإطلاق، وأما دافيد كوبرفيلد فقد خلق مني شاعرًا، وجعلني أبحث لنفسي عن (دورا) أخرى أشرب من عينيها كأس الحياة، وأتلقى من شفتيها أسرار الوجود.. سامحه الله مرة ثانية.. لقد عذبتني (دورا) هذه وشطرت روحي شطرين..

ويختتم حديثه عن نفسه قائلاً: أراد أبي شيئًا، وأراد ديكنز شيئًا، وأراد دافيد كوبرفيلد شيئًا، وأراد القدر أشياء أخرى. وهكذا نتبين من حديث الشاعر إبراهيم ناجي عن نفسه أنه إلى جانب استعداده الخاص وكونه طفلاً كثير الصمت والإصغاء مدمن للتأمل والتفكير.. لديه قدرة على التخيل الذي يجعله يبني في خياله قصورًا وعوالم، وينسج قصصًا وحكايات.. فقد كانت التنشئة الأولى له في مناخ ثقافي متميز لها تأثير.. فالأب مثقف يقرأ عيون الأدب العالمى، والأم تسايره وتستمع إليه وتناقشه، ومكافأة النجاح كتاب مع النصح بالقراءة المتأنية، والرجوع إلى الأب إذا استشكل عليه شيء في القراءة.. ثم البيئة المحيطة بالطفل حيث المكان الأخضر الهادئ الشاعري المتسع اتساع الأفكار والخيالات.. كلها عوامل ساعدت الطفل على صقل استعداده الخاص، وتنمية ملاحظاته وزرع بذور الإنسانية في نفسه منذ الصغر.

تأتي بعد ذلك مرحلة أخرى هي في اختيار قراءته لشعر رواد الرومانسية خاصة في الأدبين الإنجليزي والفرنسي- على ما يذكر نقاده ومؤرخوه وفي مقدمتهم- سامي الكيالي وشوقي ضيف وشكري محمد عياد ووديع فلسطين وحسن توفيق- فقرأ في الأدب الإنجليزي من أشعار بيرون وشيلي وكولريدج ووردزورث وكيتس، وفي الأدب الفرنسي شاتوبريان وبودلير وفيرلان بعد قراءته قصص رواد الرومانسية من أمثال فيكتور هوجو ولامارتين وموباسان والفريد دي موسييه، وقبل هؤلاء الرواد قرأ لشكسبير وتأثر به.

وإذا كان قد قرأ لهؤلاء الرواد من الأجانب، فليس معنى ذلك أنه أعطى ظهره للثقافة العربية قديمها وحديثها، فقد قرأ دارسًا متأملاً دواوين محمود سامي البارودي وشوقي أحمد وحافظ إبراهيم وخليل مطران، وغيرهم من المحدثين وأحب الشعراء القدامى مثل أبا الطيب المتنبي والشريف الرضي.

وهكذا كانت التنشئة والبيئة قد أسهمت جميعها في أن يكون أديبًا وشاعرًا رومانسيًا على النحو الذي صار عليه، وليس كما أراد له والده أن يكون إنسانًا مصقول الشعور قوي الملاحظة.

أهم أعماله:

ترك الشاعر إبراهيم ناجي كمًّا هائلاً من الإنتاج الشعري يشكل نصًّا بالغ الثراء، من أروع ماكتب ناجي قصيدته الشهيرة الأطلال والتي يقول فيها:

يـا فــؤادي، رحم  الله  الـهـوى

                           كان  صرحًـا من خـيال فـهـوى

اســـقــنـي واشرب علـى أطــالِـــهِ         

                           وارو عني، طـالمـا الــدمع روى

كيـف ذاك الحـب أمـسـى خبـرًا            

                           وحـديثًا  من أحــاديث  الجوى

وبـســاطًـــا  مــن  نـدامـى  حلـم          

                           هــم  تواروا  أبدًا، وهو انـطـوى

                                ***

يا رياحًا،  ليس  يهدا  عصفها

                           نضب الزيت ومصباحي انطفا

وأنــا أقــتــات مــن وهــــم عـــفــــا       

                         وأفي  الـعـمر  لناس  ما  وفى

كـــم  تـقــلــبـت  على  خـنـجــره          

                          لا الهوى مال، ولا الجفن غفا

وإذا  القلب  - على غــفــرانِــــــه         

                          كـلـمـا  غـــار  بـه  النصل  عـفا

                             ***

يـــا غــرامًــا كان مـني فـي دمـي         

                         قدرًا  كالموت، أو  في  طعمِه

مــا قــضـيـنـا سـاعـة في عرسِـه          

                         وقــضـيـنـا الـعـمـر فـي مـــأتــمـه

مــا انـتـزاعـي دمـعـة مـن عـيـنه          

                         واغـتـصابي  بسمـة  من  فمه

ليت شـعـري أين مـنـه مـهـربي           

                         أين  يمـضي هـارب من دمـه ؟

 

الهوامش:

1 - د. حمدي السكوت: قاموس الأدب العربي الحديث، ط. دار الشروق، ص24.

2 - سامح كريم، أعلام منسيون، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص210-211.

3 - شكرى القاضى، مائة شخصية مصرية وشخصية، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص51.

4 - سامى خشبة، مفكرون من مصر، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص109.

5 - نعمان جلال: مع الرواد، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص45-46.


عدد القراء: 2983

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-