الرواية العربية وإشكالية المدينة والريفالباب: مقالات الكتاب
د. مصطفى عطية جمعة أستاذ الأدب العربي والنقد - الجامعة الإسلامية مينيسوتا |
من المفارقات في نشأة الرواية العربية في العصر الحديث، أن البواكير الأولى لها جاءت معبرة عن عالم الريف العربي في فضاءاته المختلفة، كما في وادي النيل، وأرض الرافدين والريف الشامي، وقرى المغرب العربي وبلاد اليمن وعمان.
وقد عمد جيل الرواد من الروائيين العرب، في محاولاتهم الروائية الأولى إلى تصوير واقع الريف العربي بكل ما فيه من تفصيلات، مما يدفعنا إلى إصدار حكم بأن التجارب الروائية الأولى كُتِبت لتصوير الريف، وإن كان مبدعوها مقيمين في المدن، ولكنهم منتمون في غالبيتهم إلى العائلات الريفية. وكأنهم رأوا أن الريف هو الأصل، وأن المدينة فرع، على الرغم من العراقة التاريخية مدن كبرى مثل القاهرة ودمشق وبغداد والقيروان والجزائر ووهران، وفاس ومكناس، والأبيّض وعطبرة.
فالريف هو أساس الحياة وعماد الاقتصاد في العالم العربي، وفي وسط قراه، تكونت المدن، ونشأت الحواضر والعواصم، فحياة الريف عنوانها الاستقرار، حيث الأرض مصدر الخير والعطاء للإنسان، والفلاح ملتصق بأرضه، ومجاور لأبناء عشيرته. ويكاد يكون مجتمع الريف العربي متكاملاً، فالقرية العربية تنتج كل شيء: الخضر والفاكهة والحبوب من الأرض، ومشتقات الألبان من البقر والجاموس والغنم، وتدخل في تبادل تجاري وعلاقة نفعية مع غيرها من القرى، وتصدر فائض إنتاجها إلى المدن، كما تستورد منتجات المدينة من مصنوعات ومنسوجات وآلات.
إن المفارقة الواضحة فيما نلاحظه في أطر المدن العربية الحديثة وأيضًا القديمة أن الريف يقع على حوافها، أو بالأدق تحيط بها القرى والنجوع والكفور، بل إن الناظر في تاريخ كل مدينة عربية، يكتشف أنها كانت قرى في الأساس، ونمت جرّاء عوامل عديدة، لتصبح مدنًا، وبدت العلاقة بين الريف والمدينة قديمًا، أقرب إلى التكامل منها إلى التصارع والتزاحم وأحزمة الفقر التي تحطي بالمدينة العربية المعاصرة.
فكثير من المدن العربية التي نشأت في العصر الحديث تمت إعادة تخطيطها وفقًا لنظم العمارة الغربية، من جهة تنظيم الشوارع، وشكل البيوت، خاصة في الأقطار التي سقطت تحت نير الاستعمار الغربي مبكرًا، كما هو الحال في أقطار المغرب العربي ومصر والسودان، مما أوجد ازدواجية في الحياة، فوجدنا حياة حضرية مدنية في المدينة، وحولها في أطرافها حياة قروية ريفية، الطابع والمعاش والملبس والعادات والتقاليد، مما أدى لوجود أشكال من الصراع الاجتماعي الخفي أو المعلن بين القرويين والمدنيين، تعزز مع الزيادة السكانية، وظاهرة الهجرة من الريف إلى المدينة بعد الاستقلال، بكل مظاهرها وآثارها، وأبعادها الثقافية والاجتماعية (الكناني، 2006)، بجانب نظرة أهل المدن إلى أبناء الريف وما فيها من استعلاء حضاري وثقافي، ومنظور الريفيين المتمسكين بالعادات والتقاليد والقيم، ضد ما يأخذونه على أهل المدن من انفتاح في العلاقات الاجتماعية والأسرية، وحرية المرأة، وجرأة المثقفين والمتعلمين.
وفي هذا الصدد، يجدر بنا نقاش إحدى القناعات النقدية المتواترة في النقد العربي الحديث؛ بأن الرواية العربية بوصفها فنًّا أدبيًّا حديثًا مقتبس من الغرب؛ جاءت معبرة عن تطور المدينة العربية في العصر الحديث، على نحو ما يقول محمد حسن عبدالله بأن "الفن الروائي اُبتدِع ليعبِّر عن المدينة وليس الريف أو القرية، وارتبط ازدهاره بنشأة المدن الكبيرة، وانتشار التعليم، لأن الرواية فن يُقرأ، كما ارتبط بحصول المرأة على قدر من الحرية الاجتماعية، وبخاصة حق العمل وحق الحب اللذين يتيحان قيام شبكة من العلاقات تسمح بصنع نسيج فني متعدد الألوان. فيه من عناصر الكشف والتشويق ما يغري بالاستزادة"(عبدالله، 1989). ونستغرب من هذا المنظور، ذي الحكم المسبق؛ بأن يقصر فنًّا أدبيًّا على بيئة بعينها، يعبّر عنها، ويتوجّه مبدعوه إليها؛ فهل يمكن أن نقصر الشعر العربي على البيئة الجاهلية الصحراوية فقط؟! فالشكل الأدبي، أيا كان، لا يعرف بيئة، وإنما هو وسيلة إبداعية، يتم توظيفها وفق موهبة مبدعيها، لا تنحصر في مكان أو زمان، أو أفراد أو فئات. كما أن التبرير المقدّم لهذا الرأي يجعل الرواية معبرة عن أجواء المدينة المنفتحة: العمل، والحب، والعلاقات العاطفية والاجتماعية، وكأن الريف لا يعرف هذه العلاقات. إن الرواية فن سردي، يوفّر أطرًا وقوالب وأساليب للحكي، يمكن استخدامها للتعبير عن الإنسان ومشاعره والأحداث التي مرت في حياته، أيًا كانت البيئة التي سيعبر عنها. وحقيقة، فإن الواقع الإبداعي العربي والعالمي على الصعيد الروائي يرد بقوة على هذا الرأي، ذلك أن الرواية العربية استطاعت أن تكون الشكل السردي الحديث الذي يقدم سرديات عن مختلف البيئات والمجتمعات والأزمنة والأجيال والقضايا العربية، بل إن الريف حظي بالنصيب الأوفر في الإبداعات الروائية، ومنه خرج الروائيون الكبار، وكتبوا عن عالمه وعلاقاته الاجتماعية والعاطفية ومشكلاته وأزماته، بما يدفعنا إلى القول بأن الرواية قدمت الريف بكل دقائقه وتفصيلاته وأناسه، وبكل ما فيه من بيوت طينية وأبراج حمام، وبشر متسامحون، ومياه صافية، وأرض خضراء، وكذلك مختلف الصراعات التي تحفل بها القرية، بين العائلات الغنية والفلاحين البسطاء، وبين الأفراد بعضهم وبعض، وعشنا قصصًا للحب مع خرير الماء العذب وهو يداعب المزروعات.
وهي نفس القناعة التي تربط نشأة الرواية العربية بعصر النهضة العربية الحديثة، وظهور مدن جديدة، لم تنشأ كتطور طبيعي للقرية العربية، وإنما أُنشِئت بقرارات فوقية، اتخذتها السلطة الاستعمارية أو الحكومات التي جاءت بعد التحرر من الاستعمار، فجاءت مدنًا محملة بكثير من المشكلات والهموم، ومكدسة بالأحياء الفقيرة، والطبقات المهمشة، مما أوجد أزمة على صعيد السرد، عبّرت عن الأزمة في الحياة المدنية العربية. وكثير من المدن العربية الحديثة، بُنيت مجاورة للمدن القديمة أو على أنقاض أحيائها القديمة، في محاولة للجمع ما بين التراث والحداثة، ولكن كانت المحصلة مدنًا مشوهة العمارة، سيئة التخطيط، فيها أحياء راقية على النظام الأوروبي، وفي مقابلها أحياء شعبية تشبه في تخطيطها القرية الريفية.
وهو الرأي الذي تصوغه يمنى العيد مؤكدة أن الرواية فن يستجيب لكل ما نحن بحاجة إلى قوله بالفعل، وقد أقبلَ على إبداع فنها روائيون عرب، مع بدايات النهضة والانتقال إلى حياة مدينية مربكة، يتجاور فيها القديم والحديث بكل مكوناته وظواهره التي تخص الثقافة والعمارة واللباس والسلوك ومجمل نظم العيش وتقاليده. لقد كانت الكتابة الروائية العربية تواجه قلقًا والتباسًا، ليس فقط على مستوى المسرود، أو الحكاية التي هي حكاية الواقع المعيش؛ في نهضته وحروبه وهزائمه، وما يُبنَي وما يُهدَم؛ وإنما عانى أيضًا قلقًا على مستوى المتخيل، وقلق المتغير والمختلف، وقلق الإفادة من تجربة الآخر، دون السقوط في التقليد والمحاكاة، والعجز عن قول ما تود الكتابة قوله (العيد، 2011). وربما تكون وجهة نظر يمنى العيد تنظر إلى القضايا والهموم وأشكال السرد التي قدمتها الرواية العربية، في مراحلها المختلفة، ولكنها وجهة نظر تحمل فصلا بين الريف والمدينة من جهة، وهما في رأينا كل واحد، ذلك أن المدينة العربية الحديثة استوعبت ملايين من أبناء الريف، خاصة الفئات المتعلمة منهم، والذين جاءوا للمدينة للتعليم أولاً، ثم استقروا فيها للعمل في المصانع والمتاجر والشركات والمؤسسات الحكومية، ولكن لم تنقطع روابطهم عن قراهم، بل ظلوا على تواصل دائم مع أهلهم فيها، وحملوا أيضًا إلى المدينة كثيرًا من عادات وقناعات القرية.
كما أن أزمات المجتمع العربي وتحولاته السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية؛ لم تقتصر على المدينة فقط، بل كان الريف جزءًا منها، إن لم يحمل العبء الأكبر فيها، فمن الريف خرج الجنود والضباط الملتحقون في الجيوش العربية، أو حركات مناهضة الاستعمار الأجنبي، وكانت القرى تمد الثوار والثورات بوقود من أبنائها، الذين ضحوا في سنوات الحرب، وشيدوا في حقب السلام.
فيمكن القول إن الرواية عبرت عن مظاهر القلق والحيرة واضطراب البوصلة التي أصيبت بها المجتمعات العربية، في العصر الحديث، يستوي في ذلك الريف والمدينة.
فالقص هو سبيلنا الذي نعقل به الأشياء في الحياة، التي لا تتبع المنطق العلمي بقدر ما تتبع منطق القص؛ فالمنطق السردي يهتم بإدراك الكيفية التي يفضي بها شيء إلى شيء آخر، والكيفية التي يمكن أن يحدث بها شيء من الأشياء ويزداد الأمر تأكيدًا بأن الروائيين غير معنيين بتقديم تفسيرات علمية للأحداث القصصية (عصفور، 1999)، فالرواية أساسها الخيال، وإن استندت إلى الواقع، والخيال يعني التحرر من هيمنة المنطقية العقلانية والسببية، إلى التعمق في جوانب النفس الإنسانية، وعلاقاتها الاجتماعية، وأفكارها ومشاعرها، وما تحمله من إرث فكري قد يكون به من الخرافات والقناعات غير المنطقية، في عقلية متعلمة تعليمًا حداثيًا.
وفي جميع الأحوال، فإن تعبير الرواية عن الحياة في الريف، بكل ما فيها من شخصيات وعلاقات وقصص، إنما هو جزء أساسي من حياة الشعب، الذي يعيش في الريف والمدن، بل إننا نجد روائيين يلجؤون إلى التعبير عن الريف، وإن قضوا أكثرية أعمارهم في المدينة، لأن المعنى الذي تمنحه الرواية لفضاء الريف هو التحرر من نمطية العيش في المدينة، كما هو تحرر من قيود الجسد والمجتمع، ولأنه فضاء مسترجع من الذاكرة، وبراءة السني الأولى (التازي، 2017)، خاصة لمن كان مقيمًا في الريف وملتصقًا بأرضه، وظل به، ولم يرحل إلى المدينة، أو رحل إلى المدينة ولا يزال يحن إلى الريف، حيث البساطة والجمال ودفء التواصل الاجتماعي.
ولعل المفارقة في هذا الشأن، أن الروائي لديه- غالبًا- واقعًا يعيش فيه، ولا يغادره إلا قليلاً، وهو يرتبط بنشأته وسنوات تكوينه الأولى، بما يمكن أن نسميه الحقبة الحميمية في حياته، بجانب أيضًا التجارب والشخصيات التي عاشها عن قرب، وتفاعل معها، وأثّرت فيه. فنجد مثلاً أن كثيرًا من الروائيين تكاد تكون رواياتهم مقتصرة على الريف، مثل محمد عبدالحليم عبدالله، فالريف هو العالم الأثير عنده، يصوغ منه موضوعاته، ويحمله إيديولوجيته، ويجعل من شخصياته حاملة لأفكاره، ورموزًا لمعان يريد توصيلها للقارئ. والأمر كذلك في المدينة، فعالم نجيب محفوظ يقتصر تمامًا على القاهرة المدينة والمكان والإنسان والقضايا، لأنه ابن للقاهرة القديمة، بكل عبقها وزخمها والصراعات التي تمت على ترابها. وهناك فئة كتبت عن الريف والمدينة، وفق الخبرات والتجارب التي مرت بهم، فعادة ما يكتب الروائي عن الخبرة التي عاشها، وتفاعل معها، وعرف خصائصها وتفصيلاتها، وعايش شخصياتها عن قرب. بل إن بعضهم كان يواصل متابعة التطورات في الريف والمدينة، غير مقتصر على حقبة زمنية عايشها في طفولته وشبابه، بل هو راصد متابع مسجل، بما يدفعنا إلى قراءة مسيرة الروائي وإبداعه، في ضوء تتابع سنوات عمره.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- مأزق البنيوية وآفاق ما بعد البنيوية مناقشة هادئة لقضية ساخنة
- رولان بارت .. المسيرة والانشغالات المعرفية والمآلات
- الرؤية السردية والقناعات الفكرية في تجربة نجيب محفوظ (رؤية كلية)
- إشكاليات الفكر والرؤى في شعرية الحداثة
- إشكالية الهوية في الخطاب الحداثي العربي
- فلسفة ما بعد الحداثة في قصيدة النثر الرؤى والجماليات والمفارقات
- قصيدة النثر قضايا الشعرية والإبداع والتجنيس قراءة تأسيسية
- منظور جديد في قراءة كتب أدب الرحلات التراثية
- تجليات الرؤية الشعـرية
- الرواية العربية وإشكالية المدينة والريف
- رفض الهيمنة الفكرية في فكر ما بعد الحداثة
- التجربة اليسارية العالمية السقوط والمراجعة
- محمد عبده وتولستوي: حوار الدين والفكر
- اليسار في الفكر السياسي المعاصر ثوابت الفكــر ومتغيراتــه
- الرواية والمدينة العربية: التحولات والتشابكات
- المثاقفة في تجربة بيتر بروك المسرحية
- التحيز والتسلط
اكتب تعليقك