الإيجابية الاجتماعية والإيثار Prosocial Behavior & Altruismالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-09-30 05:07:21

أ. د. عبد الرحمن بن سليمان النملة

عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

الإيجابية الاجتماعية، وقد تسمى السلوك المحابي للمجتمع، تتمثل في مساعدة الآخرين، والمحاباة هنا بمعناها الإيجابي، أي تقديم العون غير المشروط للآخر، سواء كانت هناك علاقة قربى، أو صداقة، أو لم تكن. فالأشخاص الذين يتصفون بالإيجابية الاجتماعية يقدمون يد العون والمساعدة لأي كان، حتى وإن كانت المرة الأولى التي يتصادف وجودهم معه. ويتميز السلوك الاجتماعي الإيجابي بالاهتمام بحقوق ومشاعر وراحة الآخرين، وتشمل السلوكيات التي يمكن وصفها بأنها إيجابية اجتماعيًا، الشعور بالتعاطف (المشاركة الوجدانية) والاهتمام والتصرف بطرق معينة لمساعدة أو إفادة الآخرين.

وقد بدأ الاهتمام العلمي بمفهوم السلوك الاجتماعي الإيجابي (Prosocial behavior) في سبعينيات القرن الماضي، كرد فعل، أو مفهوم مغاير للسلوك المعادي للمجتمع (Antisocial behavior). والقصد أنه كما توجد سلوكيات مضادة أو معادية للمجتمع، يتصف بها عادةً بعض الخارجين عن النظام والقانون، مما يتسبب في أذية الآخرين وازعاجهم، فإن هناك سلوكيات اجتماعية إيجابية، تعمل للصالح العام، ومساعدة البشر أيًّا كانوا. وحسب الطروحات العلمية والبحثية في هذا المجال، فان السلوك الاجتماعي الإيجابي ليس فعلاً واحدًا محددًا، بل هناك أنواع متعددة من السلوك تندرج تحته. ومن هذه الأنواع الاستباقية (Proactive)، والتي تشير إلى أن الإنسان يكون سباقًا إلى مساندة الآخرين ومساعدتهم، لأن ذلك يشعره بالراحة النفسية والرضا عن الذات. والنوع الثاني من السلوك الاجتماعي الإيجابي، هو رد الفعل (Reactive)، وردود الفعل تتم عادة كاستجابة لحاجات الناس، أو طلبهم للمساعدة، بمعنى أن يكون من يتصف بالسلوك الاجتماعي الايجابي، جاهز دائمًا لتقديم يد العون في حال كان هناك من يحتاجها. أما النوع الثالث من السلوك الاجتماعي الإيجابي، فهو الإيثار (Altruism)، وهنا يكون الشخص مستعدًا وسباقًا لمساعدة الآخرين دون توقع أو التفكير بأية منفعة، حتى وإن كانت الرضا عن الذات.                     

ويرى الباحثون في هذا المجال، أن هذه الأنواع المذكورة من السلوك الاجتماعي الايجابي، تكون عادة مدفوعة بقوى أو ميكانيزمات نفسية مختلفة، فمثلاً الايجابية الاستباقية، غالبًا ما تكون مدفوعة بالأهداف المرتبطة بتحقيق المكانة والشعبية داخل المجموعة، سواء من الأهل أو الأصدقاء، أو غيرهم، مما ينعكس إيجابيًا على حالة الرضى عن النفس. بينما تكون السلوكيات الاجتماعية المؤيدة للإيثار أكثر ارتباطًا وتجد صداها لدى الآخرين متمثلاً بمحبة الشخص المتصف بالإيثار وتقريبه، والتأثر الإيجابي بسلوكه. وهناك اتفاق حول الفائدة والمنفعة التي يستفيدها الآخرون جراء تلقيهم للمساعدة من شخص أو أشخاص يتصفون بالإيجابية الاجتماعية، والنقاش هنا عن المنفعة التي يحققها الشخص ذو الأفعال الاجتماعية الايجابية. فقد ذكرنا أعلاه، أن هناك حالة من الرضى عن النفس يشعر بها من يتصف بمساعدة الآخرين، ومساندتهم وايثارهم، وقد فصل الباحثون في ذلك. حيث وُجد أن الأشخاص ذوي الصفات الاجتماعية الايجابية، يتمتعون بمزاج حسن، وأنهم نادرًا ما يعانون من ضيق المزاج أو حدته. كذلك وجد ارتباط بين سلوك المساندة الاجتماعية (Social support) ومجموعة من الأفعال الإيجابية، مثل؛ التكيف والتعامل الفعال مع المشكلات أو الأوقات الصعبة، وكذلك تقليل الشعور بالوحدة، والحد من الاكتئاب. أيضاً فإن الانخراط في أعمال اجتماعية ايجابية، له أثر في الحد من تأثيرات الضغوط النفسية (Stress-reducing effects)، لذا فإن مساعدة الآخرين قد يكون لها دور فعال في تخليص الشخص من التوتر والضغوط النفسية.

في نظري أن الإيثار هو قمة السلوكيات الاجتماعية الايجابية، فهو يحمل في طياته تقديم مصلحة الغير على النفس، وبذلك فانه يعتبر من الأخلاق الراقية، والفضائل العظيمة. لذلك، يرى بعض العلماء أن مفهوم الايثار يختلف عن المعنى المقصود بالسلوكيات الاجتماعية الايجابية، فالأخيرة وإن كانت تتمثل تحديدًا في مساعدة الآخرين، إلا أنها في النهاية تقود إلى منفعة ذاتية متمثلة في الشعور بالرضا عن الذات، بينما يتعدى الإيثار المساعدة إلى تفضيل الآخر على النفس. ولتوضيح العلاقة والفرق بين السلوك الاجتماعي الايجابي والإيثار، نسوق بعض الأمثلة عن المفهومين، في محاولة لإجلاء الفكرة، وحتى لا يتم تسطيح معنى الايثار، كقيمة أخلاقية عالية. من أمثلة السلوكيات الاجتماعية الايجابية؛ المساعدة والمساندة، والمشاركة، والمواساة، والحماية، وغير ذلك من الأقوال والأفعال التي تأتي طوعاً، وتلقائياً ويتصف بها بعض الأشخاص. وإن كنا نقول أنها تأتي طوعًا، فإنها كذلك لا تخلوا من جانب متعلم ومكتسب. وأعني هنا بالاكتساب، تعزيز مثل هذه السلوكيات الاجتماعية الايجابية عندما تبدأ بالظهور في مرحلة الطفولة المبكرة، من ذلك تعزيز الكفاءة الاجتماعية والعاطفية وقبول الآخر لدى الطفل، مع دعم الثقة بالنفس، وتنمية مهارات إدارة العواطف لديه. 

وبالنسبة للإيثار، يبدو أن المفهوم أكثر عمقاً، من القابلية نحو الآخر، والاحساس به، والشعور بالرضى عن النفس بعد مساعدته، إلى استعداد الشخص وجاهزيته لمساعدة الآخرين دون توقع أو التفكير بأية منفعة، بل يصل الأمر إلى تفضيلهم وإيثارهم على النفس، وفي بعض الحالات تعريض النفس للخطر من أجل تقديم يد العون والمساعدة. وفي الأدبيات النفسية، تتضارب الآراء العلمية والبحثية حول مفهوم ومعنى الإيثار، فإن كانت بعض الدراسات ترى أن الإيثار يتضمن خاصية تفضيل الآخر الذي يتلقى المساعدة، عن النفس، وربما التضحية من أجل مساعدة الآخرين، إلا أنها لا تغفل جانب المنفعة، ولذلك تجد ما يسمى بالإيثار المتبادل (Reciprocal altruism). ويشير الإيثار المتبادل، إلى نوع من الإيثار قائم على الأخذ والعطاء، لتحقيق المنفعة المتبادلة؛ أساعد الآخرين الآن، لأنه ربما يأتي يوم أحتاج إلى مساعدتهم، فيردون الجميل. كذلك ترى بعض الدراسات أن الإيثار هو الاهتمام - غير الأناني- بالآخرين، وهو يعني القيام بالأشياء ببساطة، وبدافع الرغبة في المساعدة، وليس لأن الشخص يشعر بأنه ملزم بفعل الواجب، أو لشعوره بالولاء، أو لأسباب دينية. وحددت أبحاث حديثة جوانب جينية (وراثية) لسلوك الإيثار، حيث توصل باحثون في علم الأعصاب الاجتماعي (Social neuroscience) إلى أن الإيثار يرتبط بنمط معين من نشاط الدماغ، وأن سلوك مساعدة الآخرين يظهر لدى بعض الأطفال في سن مبكرة جدًا (14-18 شهر)، مما يشير إلى العامل الوراثي.

والملاحظ أن الدراسات النفسية- لطبيعتها التجريبية- حذرة، وتتردد في تأكيد أن الإيثار بمعناه الدقيق، لا يتضمن بالضرورة توقع المنفعة عند تقديم المساعدة، وأن هنالك أشخاص يقدمون يد العون للآخرين، رغم حاجتهم لما يقدمونه، أي يؤثرون الآخرين على أنفسهم. لذلك فموضوع الإيثار كسلوك، وخُلق، يحتاج إلى الوقوف عليه، وتحديد معناه ومضمونه، ضمن نظرة شمولية تأخذ في اعتبارها السياقات الاجتماعية والثقافية والدينية. ولعل ذلك يكون موضوع مقال آخر، في قادم الأيام إن شاء الله.

 

أهم المراجع:

- عبدالجيد، ايمان صادق (2021م). التنشئة الاجتماعية الايجابية للطفل واثرها على مستقبله. مجلة مستقبل العلوم، المجلد 6، (1)، 38-55.

- Cortes Barragan R, Dweck C. S. (2014). Rethinking natural altruism: Simple reciprocal interactions trigger children's benevolence. Proc Natl Acad Sci USA. 111 (48).

- Dunfield K. A. (2014). A construct divided: Prosocial behavior as helping, sharing, and comforting subtypes. Front Psychol. 5: 958.

- Filkowski M. M, Cochran R. N, Haas B. W. (2016). Altruistic behavior: mapping responses in the brain. Neuroscience and Neuroeconomics. 5: 65-75

https://doi.org/10.2147/NAN.S87718

- Jung H, Seo E, Han E, Henderson M. D, Patall E. A. (2020). Prosocial modeling: A meta-analytic review and synthesis. Psychol Bull. 146 (8): 635-663.

- Poulin M. J, Brown S. L, Dillard A. J, Smith D. M. (2013). Giving to others and the association between stress and mortality. Am J Public Health. 103 (9): 1649–55.

- Raposa E. B, Laws H. B, Ansell E. B. (2016). Prosocial behavior mitigates the negative effects of stress in everyday life. Clinical Psychology Science. 4 (4): 691-698.

- Warneken F., Tomasello M. (2009). The roots of human altruism. Brain Journal Psychology. 100 (3): 455–471.

- Waugh W, Brownell C, Pollock B. (2015). Early socialization of prosocial behavior: Patterns in parents' encouragement of toddlers' helping in an everyday household task. Infant Behavior Development. 39: 1-10.


عدد القراء: 3734

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

التعليقات 1

  • بواسطة S_ALZAHRANI من
    بتاريخ 2022-10-03 08:22:29

    نحن بحاجة دائمة لمثل هذه المقالات؛ رغم أن الإيثار متأصل فينا ففي منزل التحكيم وردت آية عنه قال تعالى ( يأثرون على أنفسهم ولو كلن بهم خصاصة). الشعور بالسعادة غالبًا لا يأتي إلا مع العطاء والعطاء لا بد فيه من الإيثار والكثير من الإيجابية . كذلك الطفل الذي ينشأ على الإيثار سيصبح في المستقبل ذات عطاء حتى ولو لم يكون هناك نفع مردود إليه؛ بطبيعة الحال نشأ في بيئة تأثر على نفسها في الغالب؛ وذلك من محبة النفع و التواصل. وقد يكون الإيثار باب من أبواب التواصل المجتمعي. فقد مرت علي المواقف التي تشهد على مثالية الإيثار سواء مني أو من شخص آخر. مهما بددت الحياة المبادئ لابد للفرد أن يحتفظ بمثل هذه الإيجابية حتى يصبح في سلام يفتح له آفاق السعادة. بارك الله في علمك يادكتور عبدالرحمن؛ فمنكم ننهل جذور المعرفة.

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-