سلطة الشعر ووظائفه في التراث العربي: قراءة في سيرة الأفضليةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-10-02 08:04:18

د. سعيد أصيل

المغرب

د. سعيد أصيل*

عـلى سبيل التقديم:

ظل الشعر لمدة طويلة ذلك الكلام الأرقى والأسمى الذي لا يمكن أن يرتاده إلا ذوو المواهب العظيمة المتفتقة، الملهمين المستحمين في "وادي عبقر" أو الواردين منه، السائرين في طريق مقمر مع الغيلان التي تصاحبهم أو نماذج الأخلاء من الجن الذين ينعمون عليهم بتصيد جميل الكلام وجليله، في حين ظل النثر ذلك البسيط المنثور البارد الممتطي صهوة التقرير؛ المنفلت من أغلال العلو والسمو، والمنحدر، وقد حطه السيل مِن عَلِ، قَصر عن ذِروة الشعر "الشامخة والقلة العالية، فصار بذلك بذلة لكافة الناطقين من الخاصة و العامة والنساء و الصبيان"(1) وأخذ يمشي على الأرض ببطء كالزواحف، متواضعًا، مطأطئ الرأس، منكسر القامة، حاني الهامة؛ عـوض أن يحلق نحـو المجهول المتسامـي في اللامحدود أو فـي الأفق الشـامخ.

1 - الشعر مركز الكون و"ديوان" العرب:

ظل العرب ينظرون إلى الشعر باعتباره مركز الكون كله؛ مركز الزمان والمكان، بل حتى كتب التفسير التي تشتغل على القرآن الكريم لا تخلو، ولا يمكن أن تخلو، من الشواهد الشعرية وإلا عُدَّ التفسير غير مبني على أساس أو أصل صحيح. هذا الأساس/ الأصل ظل دومًا هو الشعر: الوعاء الذي حفظ اللغة، ومن لا يحفظ الأشعار الكثيرة و يعرف معانيها ودلالاتها اللغوية والفيلولوجية والبيانية لا يمكنه، ولا يسمح له، بخوض غمار النقد، ناهيك عن تفسير القرآن؛ حتى أن ابن قتيبة يصرح - قبل الخوض في ذكر الشعراء وتصنيفهم - أن قَصْدَه من وراء تأليف كتابه "الشعر والشعراء" هو: "الكتابة عن جل أهل الأدب والذين يقع الاحتجاج بأشعارهم في الغريب وفي النحو وفي كتاب الله عز و جل وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم"(2)، فالكتابة عن الشعر والشعراء ليس الهدف منها التعريف بالشعراء وشعرهم وخصائص هذا الشعر ومكوناته، فهو هدف خارجي غير أدبي، إذ يتم العمل النقدي والتأريخي/ التصنيفي قصد ذكر من يُحتج بشعرهم في مجال النحو واللغة والتفسير والحديث... ومن ثمّ ظلت الثقافة العربية "ثقافة شعرية" بامتياز. إن هذا الشعر "ذاكرة، بل ومستقبل العربي الذي حصر العالم كله في دائرته.

كان نبوغ شاعر في القبيلة بمثابة حدث غير عادي؛ يستحق أن يقام بمناسبته عرس تُنصَب فيه الأطعمة وترقص النساء وتغنين، بل وتأتي القبائل مهنئة في وفود وجموع وفيرة تشارك في العرس. أمّا عريس هذه الليلة/الشاعر فكيف سيكون حاله؟!.. لك أن تتخيل وتأخذ مكانه وتنعم حالمًا ولا حرج !...

ولنا أن نتساءل: لماذا كل هذا الزهو وكل هذه المباهج وهذا الاحتفاء؟.. إنه الشاعر؛ رمز الولادة الجديدة .. رمز الشموخ الجديد والمتجدد. إنه أبعد من مجرد حدث شعري أدبي، بل هو حدث سياسي وانتصار "عسكري" من نوع آخر خاص.

إنه ولادة لذاكرة هذه القبيلة واستمرار لأجيالها و"أخبارها" وتمجيد لانتصاراتها .. إنه وحده –إذا كان نابغة جهبذًا – يشكل جيشًا عرمرمًا بصيغة المفرد، بل هو أعظم أحيانًا من الجيش الذي قد ينكسر في معركة ما أو تخبو جذوته، لكن هذا الشاعر لا يخبو ضوؤه ولا ينضب معين نبراسه المتوقد دومًا؛ وإنما يمتد إلى ما بعد الموت المادي له ولأفراد قبيلته التي أودعت بفضله "أشعارها من الأوصاف والتشبيهات والحِكَم ما أحاطت به معرفتُها وأدركه عيانُها ومرت به تجاربها(…) إلى ما في طبائعها وأنفسها من محمود الأخـلاق ومذمومها، في رخائها وشدتها وخوفها وصحتها وسقمها والحالات المتصرفة في خلقها من حال الطفولة إلى حال الهرم ومن حال الحياة إلى حال الموت "(3) ، ومن هنا أصبح الشاعر الحامي للأعـراض والداب عن الأحساب، المخلد للمـآثر، والمشيد للذكر(4)، بل إن الشعر عند العرب غدا  "ديوان علومهم وأخبارهم وشاهد صوابهم وخطئهم، و أصلاً يرجعون إليه في الكثير من علومهم وحكمهم"(5)... فالعرب لم يظفروا بعلم أو بفن آخر غير الشعر يقيِّدون به أوابدهم ويشيدون بـه أوتاد خيامهم ورحلاتهم وذاكرتهم؛ لاسيما وأنهم كانوا أميين لا يعرفون الكتابة ولا القراءة. إن الشعر، إذن، هو أساس هويتهم ورمز بقائهم ودوام ذكرهم حتى يستمروا وتستمر معهم الحياة في سلسلة ذهبية تسيِّجها العَنْعَنَة الشعرية التي ينقلها الشاعر والرواة، وتنتقل من قبيلة إلى قبيلة في فضاء الصحراء المكبِّلة لهم والمكبَّلة بهم .

من هنا كان الاعتناء بالشعر أشـد وأقوى؛ تجاوز القبيلة وأفرادها، فيما بعد، إلى النقاد الذين لـم يدَّخروا جهدا للاستمـرار في تحمل مشعل الرفع والسمو بالشعر علـى حساب النثر؛ وحمله إلـى أعلى مقام وأرفع مكان، مما يُبَيِّن تجدُّره في ذاكرتها وهويتها وفؤادها.

هكذا أجمع الجميع على تفوق الشعر على ما سواه ، كما أجمعوا على سلطته وتمكن نفوذه، فكان "المواطنَ الحق في حقل الثقافة العربية، والنثرُ بمنزلة الدخيل لم يرزق المواطنة الحقة وظل جزءًا تابعًا في أحسن الأحوال للبلاغة والبيان في علاقة سِمَتها الإبهام، خُلْوًا من التخصيص والتحديد"(6).

2 - في مبادئ سلطة الشعر ووظائفه:

يعدد أبو هلال العسكري في كتاب "الصناعتين: الكتابة والشعر" مبادئ هذه السلطة وهذا النفوذ اللذين جعلاه ينفرد عن النثر ويسمو عليه.  ويمكننا حصرها في جملة من الخصائص أو الوظائف التالية:

 2 1- وظيفة تاريخية واجتماعية: إذ "لا تعرف أنساب العرب وتواريخها وأيامها ووقائعها إلا من جملة أشعارها، فالشعر ديوان العرب وخزانة حكمتها ومستنبط آدابها ومستودع علومها "(7).

هكذا يتحول الشعر إلى "وثيقة" تاريخية إخبارية تُوثِّق أخبار القبيلة أو الممدوح أو المرثي ومميزاتهم وصفاتهم ومنجزاتهم. ولا بد لكل متطلع لمعرفة ماضي وتاريخ "الأمم" السابقة والقبائل المندثرة الدارسة أن يعود إليه ليجد فيه ضالته ويظفر منه ببغيته. ومن ثم قام الشعر بدور كبير في الحفاظ على الذاكرة الجماعية للقبيلة؛ إذ أنه يَفْضُل غيره بـــ"طول بقائه علـى أفواه الرواة وامتــداد الزمان الطويل وذلك لارتباط بعض أجزائه ببعض. وهذه خاصة في كـل لغة، وعند كل أمة، وطول مدة الشيء أشرف فضائله"(8). فهـو إذن يأخذ أفضليته، هنا، من استمراره على ألسنة الرواة و انتقاله عبر الزمان، ومن ثم استمرار ذكر مآثر القبيلة وأحوالها ورجالاتها وحكمها وأمثالها وانتصاراتها عبر التاريخ، بل إنه "ليس يؤثر في الأعراض والأنساب تأثير الشعر في الحمد والذم شيء من الكلام، فكم من شريف وضع، وكم من دنيء رفع ، وهذه فضيلة غير معروفة في الرسائل والخطب"(9). لقد كان الشعر سلاحا فتاكا حاسما في رفع البعض ووضع البعض الآخر مما لا يفله غيره سواء كان نثرا أم سـواه.

ويسرد الجاحظ في كتابيْ: "الحيوان" و"البيان والتبيين" قصصًا كثيرة لأقوام وضعهم بيت، أو أبيات من الشعر جعلتهم سُبَّةً لدى العرب، حيث "كان بيت واحد يربطه الشاعر في قوم لهم النباهة والعدد والفعال، مثل نَمِير، يصير أهله إلى ما صارت إليه نَمِير وغير نَمِير، فما ظنك بالظَّلِيم وبِمَناف وبالحَبِطات(*) ، وقد بلغ مضرة جرير عليهم حيث قال:

             فَغُضَّ الطرْفَ إنكَ منْ نمَير

                                   فَلاَ كَعْباً بَلَغْتَ وَلا كلاَبَا

(…) ولأمر ما بكت العرب بالدموع الغزار من وقع الهجاء(10)، ولذلك أيضًا كان  "يبلغ من خوفهم من الهجاء ومن شدة السبِّ عليهم وتخوُّفُهُم أن يبقى ذكر ذلك في الأعقاب، ويُسَبَّبُه الأحياء والأموات، إنهـم إذا أسَرُوا الشاعر أخذوا عليه المواثيق، وربـما شدوا لسانه بِنَسْعَةٍ كما فعلوا بعبد يَغُـوثَ الـمُـحَارِبي حين أسرته بنو تَيْمٍ  يوم الكُلاَب."(11)

كما أن الشعر يفضل أيضًا الرسائل والخطب، وكافة الفنون النثرية، بأنه "ليس شيء يقوم مقامه في المجالس الحافلة، والمشاهد الجامعة؛ إذا قام به منشد على رؤوس الأشهاد؛ ولا يفوز أحد من مؤلفي الكلام بما يفوز به صاحبه من العطايا الجزيلة والعوارف السنية، ولا يهتز ملك ولا رئيس لشيء من الكلام كما يهتز له، ويرتاح للاستماع إليه، ويرتاح لاستماعه؛ وهذه فضيلة أخرى لا يلحقه فيها شيء من الكلام"(12). هكذا ينتقل الشعر إلى المجالس والمحافل الخاصة والعامة ليَفْضُل غيره/النثر؛ بل وتعطى العطايا الجزيلة والجوائز الكبيرة للشاعر أكثر من غيره، بل إن الملوك والوزراء والحكام والولاة والأسياد لا يتأثرون ولا يهتزون إلا عند استماع لمدح شاعر أو ثنائه أو تَقَوُّلِه شعرًا لا نثرًا …فيقربونه ويغدقون عليه العطايا و المنح، وبذلك كانت "للشعراء حلبة، وليس للبلغاء حلبة، وإذا  تتبعت جوائز الشعراء التي وصلت إليهم من الخلفاء وولاة العهود والأمراء والولاة في مقاماتهم المؤرخة، ومجالسهم الفاخرة، وأنديتهم المشهورة، وجدتها خارجة عن الحصر، بعيدة من الإحصاء، وإذا تتبعت هذه الحال لأصحاب النثر لا تجد شيئًا من ذلك، والناس يقولون: ما أكمل هذا البليغ لو قَرَضَ الشعر؟ ولا يقولون ما أشعر هذا الشاعر لو قدر على النثر؟ وهذا لِغِنَى الناظم عن الناثر، وفقر الناثر إلى الناظم"(13).

إن هذا الأمر - وإن كانت تشهد به كتب الأدب والأخبار والنقد ولا يمكن إنكاره – لا يجب أن ينفي أهمية النثر ومكانة بعض الخطباء والوعاظ والحكماء في تحريك المستمعين بشتى أصنافهم ووظائفهم،  بل إننا سنرى كيف سمت مكانة الخطباء في العصر الأموي للحاجة الماسة لهم نظرًا للأسباب السياسية المعروفة؛ ثم بعد تطور المجتمع العربي في العصر العباسي حيث ستصبح المجالس مملوءة بالكتاب أكثر من الشعراء، وسينافسونهم فيها؛ بل ويحظون بالتقدير أكثر فأكثر؛ ولنا أمثلة عديدة في الخطب والحكم والمواعظ والمقامات والرسائل، وسينتقل الحديث عن الأنساب والمآثر وتخليدها إلى النثر أكثر من الشعر، بل إن كتب التراث ستخلد لنا ما حظي به كثير من أساطين النثر من الحفاوة والمكانة، كما سنرى فيما بعد.

2 - 2 وظيفة معرفية – دينية: ذلك أن "الشواهد تنـزع من الشعر، ولولاه لم يكن على ما يلتبس من ألفاظ القرآن الكريم وأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم شاهد"(14). وهذا دور كبير قام به الشعر عند المفسرين من الصحابة رضي الله عنهم وعند فطاحل المفسرين و العلماء المسلمين، مروراً ببداية تكون علم التفسير وعلوم القرآن والحديث بصفة عامة، وهو أمر له دلالته وأهميته الكبيرتان؛ إذ نزل القرآن "بلغة العرب؛  ومن لا يعرف اللغة العربية جيدًا ويعلم شواردها ويحفظ أشعارها فمن الصعب عليه أن يخوض في هذه البحار العميقة؛ يقول ابن عباس رضي الله عنه: "إذا قرأتم شيئًا في القرآن أو كتاب الله فلم تعرفوه، فاطلبوه في أشعار العرب، فإن الشعر ديوان العرب"(15)، بل إنه سيؤدي وظيفة معرفية عامة، حيث سيحدَّد وَضعُه "ضمن تفكير من طبيعة إبستمولوجية. لقد اعتبر الإنتاج الشعري الذي جمعه اللغويون متنًا على درجة كبرى من التمثيلية ينبغي استخدامه لصياغة المعارف اللغوية، واعتبر الشعر ممارسة قادرة على إضفاء الشرعية على الاستعمال الذي تُرادُ بلورته، وهو استعمال لغة عربية موحدة"(16). وسيتم إجماع العلماء بمختلف تخصصاتهم على أغلب الشعر المجموع لتُمنَح له سلطة ثقافية كبيرة؛ ستصبح فيما بعد سلطة دينية بشكل أو بآخر، وهذا ما يؤكده ابن سلام الجمحي حين يقول: "وقد اختلف العلماء بعدُ في بعض الشعر كما اختلفت في سائر الأشياء، فأما ما اتفقوا عليه فليس لأحد أن يخرج منه"(17). وهكذا كان مبدأ الإجماع حول مَثَل لغوي/شعري معين يحظى بنفس الأهمية التي يحظى بها الإجماع حول قضية من قضايا الدين، إن لم يفقها أحيانًا، نظرًا لحاجة النص الديني إلى اللغة حتى يُفهَم ويُستنبَط منه الحكم الشرعي على أساس صحيح  بعيد عن الخطأ والزلل، ولعل ذلك كان من أهم العوامل التي أعادت للشعر دوره ومكانته بل إنه ليحرم على كل من لا يدرك مكامن الشعر ويحفظ جلَّه أن يدخل غمار التفسير مهما بلغ من العلم والمعارف، ولذلك ألفينا الجرجاني –حين دافع عن الشعر– دافع عنه لهذا الأساس الديني المتعلق بالقرآن لأن فهم بلاغة هذا الأخير و إعجازَه مرتكز على فهم الشعر –كما أوضحنا  –وأن "الجهة التي قامت الحجة بالقرآن وظهرت، وبانت وبهرت، هي أن كان على حد من الفصاحة تقصُر عنه قوى البشر ومنتهيا إلى غاية لا يطمح إليها بالفكر، وكان محالاً أن يَعرف كونَهُ كذلك إلا من عرف الشعر الذي هو ديوان العرب وعنوان الأدب، والذي لا يشك أنه كان ميدان القوم إذا تجاروا في الفصاحة والبيان وتنازعوا فيهما قصب الرهان، ثم بحث عن العلل التي كان بها التباين في الفضل وزاد بعض الشعر على بعض كان الصادُّ عن ذلك صادًا عن أن تعرف حجة الله تعالى كان مثله مثل من يتصدى للناس، فيمنعهم من أن يحفظوا كتـاب الله عز وجل ويقوموا به ويتلــوه ويقرؤوه."(18)

2 - 3 - وظيفة تعليمية - تأديبية: لأن "حاجة الكاتب والخطيب وكلِّ متأدب بلغة العرب أو ناظر في علومها إليه (أي الشعر) ماسة، وفاقته إلى روايته شديدة "، كما أن  "من أفضل فضائل الشعر أن ألفاظ اللغة إنما يؤخذ جزلها  وفصيحها  وفحلها  وغريبها من الشعر، ومن لم يكن راوية لأشعار العرب تبين النقص في صناعته"(19) .

من هنا يغدو الشعر ذخيرة اللغة ومكمن معرفتها للمتأدبين الذين يصبون لتعلمها وللتمكن من ملكة البيان والفصاحة التي لن تتأتى إلا بواسطة الشعر، بل إن معرفة غريب الكلام والألفاظ و"فحلها" وشاردها لا يؤخذ إلا من الشعر.. وهذه ميزة كان صاحبها يتفاخر بها على أقرانه من الشعراء وجُمَّاع ألفاظ لغة العرب؛ الذين يجوبون القبائل ويرتحلون بينها بحثًا واقتناصًا لـ"صيد " ثمين من هذا الغريب الذي يزهو صـاحبه، ويتفاخر على من هو أقل منه بمعرفته، كما كان يفعل الأصمعي وأبو  عمرو بن العلاء وغيرهما … لذلك كان "من فضل الشعر أن الشواهد لا توجد إلا فيه، والحجج لا تؤخذ إلا منه، أعني أن العلماء والحكماء والفقهاء والنحويين واللغويين يقولون: "قال الشاعر"؛ و"هـذا  كثير في الشعر"، و"الشعر قد أتى به" فعلى هذا؛ الشاعر هـو صاحب الحجة، والشعر هو الحجة"(20). ولهذه الوظيفة التعليمية والأدبية أيضًا كان الخلفاء والولاة – وكذا سائر الذين يرغبون في تعليم وتأديب أبنائهم  –يدفعون هؤلاء الأبناء للمؤدبين ويوصونهم بتعليمهم الشعر والترسُّل مباشرة بعد القرآن ويخلطون معه "في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب "ثم يردفون ذلك بالخط" إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى عمر الشيبة وقد شدا بعض الشيء في العربية والشعر، والبصر بهما، وبرز في الخط والكتاب، وتعلق بأذيال العلم على الجملة"(21)، بل "لقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم ، وأعاد في ذلك وأبدأ، وقدم تعليم العربية والشعر على سائر العلوم، كما هو مذهب أهل الأندلس، قال : "لأن الشعر ديوان العرب"، وأكد أن "تقديم وتعليم العربية في التعليم ضرورة"(22). وهكذا نجد عبدالملك بن مروان، وهو يدفع ولده إلى المؤدب يوصيه قائلاً: "وعلمهم الشعر يَـمْجدوا وينجدوا"(23) بل إن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عامله أبي موسى الأشعري: "مر من قبلك بتعلم الشعر، فإنه يدل على معالي الأخلاق، وصواب الرأي ومعرفة الأنساب"(24)، وهذا أقصى ما يطمح إليه المتعلم في ذلك الزمان.

عود على بدء:

هكذا شكلت سلطة الشعر حاجزًا كبيرًا حال دون اهتمام العرب بالنثر، وتم اعتبار هذا الأخير أقل مرتبة وأحط درجة من الشعر، بل ذهبوا مذاهب شتى في تفضيل الشعر على النثر وإبراز مواطن تفوقه وعليائه وسموه، ولم يفلح النثر في أخذ مكانته إلا بعد عقود طويلة نتيجة تطورات سياسية واجتماعية وثقافية دفعت به نحو الواجهة، وقدمت له فرصة إثبات وجوده وإبراز ذاته... وهو الأمر الذي يحتاج إلى وقفة قادمة، نتمنى أن يجود به مستقبل الكلام.

 

الهوامش:

٭ أستاذ التعليم العالي مؤهل، دكتوراه في الأدب العربي.

أستاذ بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين (تكوين الأساتذة والأطر التربوية)، الدار البيضاء/ المغرب.

(1)- أبو حيان التوحيدي: "الإمتاع و المؤانسة"– صححه وضبطه وشرح غريبه: أحمد أمين وأحمد الزين – منشورات المكتبة العصرية ــ صيدا – لبنان (ب.ت) -الجزء : 2 – ص : 136.

(2)- ابن قتيبة الدينوري : "الشعر و الشعراء"- حققه و ضبط نصه: د.مفيد قميحة - راجعه وضبط نصه: نعيم زرزور- دار الكتب العلمية- بيروت- الطبعة الثانية:1405هـ/1985م -ص:17.

(3)- ابن طباطبا العلوي: "عيار الشعر" – شرح و تحقيق:عباس عبد الساتر – دار الكتب العلمية – بيروت ـ لبنان ـ الطبعة الأولى:  1402هـ/1982م – ص16 –17.

(4)-ابن رشيد القيرواني: العمدة في محاسن الشعر و آدابه و نقده – تحقيق وتعليق: محمد محيي الدين عبدالحميد – دار الرشاد الحديثة – الدار البيضاء – (ب.ت) –ج: 1 – ص : 65

(5)-ابن خلدون (عبد الرحمن) : المقدمة – تحقيق : خليل شحادة – دار الفكر –بيروت/لبنان – الطبعة الأولى : 1419هـ /1998 م- ص : 588 .

(6)-البشير المجدوب: "حول مفهوم النثر الفني عند العرب" – الدار العربية للكتاب – تونس –الطبعة الأولى :1982

(7)-أبو هلال العسكري: "كتاب الصناعتين : الكتابة والشعر" – تحقيق: محمد علي البجاوي و محمد أبو الفضل إبراهيم – منشورات المكتبة العصرية – صيدا – بيروت – الطبعة الأولى 1406هـ/1986م –   ص:138

(8) - نفسـه – ص : 137

(9) - المرجع السابق - ص : 137

(*) – أسماء لقبائل وضعها وحط منها هجاء بعض الشعراء، فأصبح المنتمي إليها يخبئ ويخفي نسبـه ويستحيـي أن يعرف بـه .

(10) – الجاحظ (أبو عمرو بن بحر): "الحيوان" -  تحقيـق وشرح: عبدالسلام محمد هارون ـ دار الجيـل  -  بيروت ( لبنان ) - الطبعـة الأولى : 1416هـ / 1996م – الجزء 1 ـ ص: 364

(11) - الجاحظ: "البيان والتبيين" - تحقيق : د.درويش جويدي - المكتبة العصرية -  صيدا/لبنان - الطبعة1: 1429هـ / 1999م – الجزء3 – ص : 364

(12) – العسكري: (م.س) – ص: 137

(13) – التوحيدي: ( م.س) – الجزء 2 - ص: 137

 (14) - العسكري: ( م.س) - ص: 138

(15) - ابن رشيق: (م.س) – الجزء 1 - ص: 30

(16) – جمال الدين بن الشيخ: "الشعرية العربية" – ترجمة : مبارك حنون و محمد الولي ومحمد  أوزاغ – دار توبقال للنشر – الدار البيضاء – الطبعة  1 : 1996   –  ص: 7

(17) –ابن سلام الجمحي: "طبقات فحول الشعراء"- تحقيق: محمود محمد شاكر- مطبعة المدني-

القاهرة - (بدون تاريخ)- الجزء 1 – ص: 4

 (18)-عبدالقاهر الجرجاني:"دلائل الإعجاز"- شرحه وعلق عليه ووضع فهارسه: د.محمد التنجي – دار الكتاب العربي –بيروت – الطبعة الأولى:1415هـ/1995م – ص:25.

(1َ9)-العسكري: (م.س) – ص : 138

(20)-التوحيدي: (م.س) – ص : 126

(21) – ابن خلدون: (م.س) – ص: 556

(22) – نفسـه – ص: 558

(23) – قدامة بن جعفر: "نقد النثر" – تحقيق: عبدالحميد العبادي – دار الكتب العلمية – بيروت -1980م – ص: 81

(24) – ابن رشيق: (م.س) – الجزء 1– ص: 38


عدد القراء: 1537

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-