من وحي سورة الرحمنالباب: مقالات الكتاب
د. غانم حميد الجزائر |
وأنا أتدبّر سورة الرحمن متلمسًا بعض أوجه الإعجاز البياني فيها، وقفت على لُب الحكمة في الآيات الثلاث الأولى المُخبِرة عن حقيقة اسم من أسماء الله الحسنى (الرَّحْمَن): ( عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ 2 خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ 3 عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ )
فالرحمن اسم من أسماء الله الحسنى ورد على وزن الصفة المُشَبَّهَة (فَعْلان)، والصفة المشبهة تدل على صفة ثابتة في صاحبها غالبًا. وهي بنسبتها إلى الخالق تمثل كمال الثبوت. كما أن شمول الرحمة في لفظ الرحمن دنيوي عام يصيب المؤمن والكافر معا، بخلاف الرحيم، التي لا تكون في الآخرة إلا للمؤمن فقط.
الرحمن تتكرر معنا في صلواتنا المفروضة مع كل ركعة، فضلاً عن الصلوات المسنونة، واستهلالنا بالبسملة في كل أمر ذي بال.
وفي الآيات الثلاث التي تعقب هذا الاسم يعلّمنا المولى ـ جل وعلا ـ أن الخلق البيولوجي الذي نشترك فيه مع بقية العجماوات بقوله: (خلق الإنسان) وقع بين آيتين: أولى سبقته (علّم القرآن)، وآية تلته (علمه البيان) وكأن حياة الإنسان جسمًا وروحًا مستمدة من القرآن، ومن دونه، وبتغييبه يصبح خلق الإنسان مادة منزوعة التشريف الحاصل من أسبقية القرآن عليها، وتبعيتها له.
فالله في علم العقائد هو الواجب الوجود، وما عداه ممكن الوجود أو جائز الوجود، يَدين في وجوده للخالق بنعمتين: نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد. أما الآية التي تليها (عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ) فتنبّه أساسًا إلى أن شرف البيان نابع من تعليم الله الإنسان إياه، بتلاوة كتابه وفهم معاني ألفاظه، ثم تفسيره وفقه أحكامه، إلى مرتبة الاستنباط والتأويل. فالبيان هو حد ما بين الناطق المُفصح وهو الإنسان، وما عداه من المخلوقات. وبه يتأتى للإنسان شرف الكينونة. ثم إن هذا البيان توقيفي، مصدره ربّاني، (ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا بَيَانَهُۥ ) سورة القيامة. مثلما أن على الخالق حفظه إلى يوم القيامة (إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ) سورة الحِجْر.
أما التِّبيان بكسر التاء فهو مصدر على وزن تِفعال (بكسر التاء) قال الله تعالى: (وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ) سورة النحل، فمعناه الإيضاح والتجلية، ويلتقي هذا المعنى في جانب منه مع قوله تعالى: (مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ يُحۡشَرُونَ ) سورة الأنعام. وهذه الصيغة لم ترد إلا في لفظتي: تٍبيان ـ تِلقاء (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلۡقَآءَ مَدۡيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّيٓ أَن يَهۡدِيَنِي سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ) سورة القصص. والباقي كله بفتح التاء. قال كُثيٍّر عَزَّة:
وإني وتَهيامي بعزّةَ بعدما
تخــلّيتُ مـمــــا بيننا وتَخَــلّتِ
لك المرتجي ظلَّ الغمامة كلما
تفيّأ منها للمَقيل اضمحلّتِ
ومنه التَّذكار والتَّحنان والتَّسيار والتَّجوال والتَّطواف والتّهَتان....إلخ
والتبيُّن وهو الثبّتُ والتحقق وعدم التسرع في إصدار الأحكام (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَٰدِمِينَ) الحجرات.
وفي دَرج السورة نقف على سر إعجازي عددي، حيث نجد أن الآلاء والنعم المذكورة في سياق الإفصاح عما في الجنتين الأوليين بدءًا بقول تعالى: (ولِمَن خاف مقام ربه جنتان) عددها ثمانية دون احتساب آية (فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان) ومثل ذلك في الحديث عن الجنتين الأخريين (ومن دونهما جنتان) ثمانية مشاهد أيضا. ولم يأت هذا التوافق عرضا أو اعتباطا، فهو ينسجم مع أبواب الجنة الثمانية. والله أعلى وأعلم.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- أدب المناسبات بين التوثيق والإمتاع
- اللامعنى... أو الجناية على الراهن الإبداعي
- الاستهلاك بين الاقتصاد والأدب
- من وحي سورة الرحمن
- «سَكَنَ الليل»... نوستالجيا الزمن الجميل
- الروافد الدينية في الشعر الثوري إلياذة «مفدي زكريا» أنموذجًـا
- البُعد الروحي في شعرية محمد العيد آل خليفة
- خطاب البوح في التجربة الشعرية لعبدالله الفيصل «ثورة الشك» نموذجًا
- التوظيف الدلالي للريح في الشِّعر العربي القديم
اكتب تعليقك