أغلاط المتنبيالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-01-30 13:07:00

أ.د. إبراهيم بن محمد الشتوي

أستاذ الأدب والنقد

تعقب كثير من الكتاب المتنبي، فجمعوا بعض أشعاره التي يجد فيها القارئ ما لا يهش له أو يعتاد عليه، وسموها بأغلاط المتنبي أو مساوئه، وربما ذكرها بعضهم تحت اسم مشكل شعر المتنبي، أو المآخذ على المتنبي، وهي ظاهرة ليست خاصة بالمتنبي ولكننا نخصه بها في المقال لأنه متوجه إليه.

ومن يقرأ شروح المتنبي يجد أن الشراح قد خصوا أبياتًا بعينها يكثرون حولها الجدل من جهة المعنى، فيذكرون أقوال النقاد فيها، ويبحثون عن الملمح الفني الذي يمكن أن يجعل البيت ذا قيمة أو يجعل النقد ذا قيمة أيضًا، ويعد نوعًا من الاعتذار للشاعر والدفاع عنه أمام سهام خصومه.

والبحث في مساوئ المتنبي يسعى إلى الكشف عن ملامح السوء فيها، وكيف يمكن أن نحدد كيف أصبح البيت هذا سيئًا، والعلاقة بينه وبين ما يسمى بالتعقيد اللفظي عند البلاغيين، أو التعقيد المعنوي، وهل يمكن أن نخرج من قراءة مساوئ المتنبي بنظرية للسوء، ثم هل السوء جيد أم رديء، أو لنقل هل يمكن أن يكون السوء مذهبًا أدبيًا.

لا أقصد إلى القول بأن معرفة السيئ تبين لنا الجميل على طريقة القول المشهور بضدها تتميز الأشياء، وإنما أقصد أن نصل إلى نظرية تكشف لنا عن مفهوم السوء الأدبي عند النقاد العرب القدماء، وهو ما قد لا يكون بالضرورة سيئًا عند سواهم من الأمم أو النقاد، الأمر الذي يساعد في الكشف عن الشخصية العربية في النقد القديم.

هل الحكم بالسوء بسبب الأخطاء اللغوية وركاكة التعبير وعدم القدرة على الإيضاح أم هناك ألفاظ تنافي الفصاحة كما يقول البلاغيون، فيأتي فيها الهجنة أو الركاكة والتكرار والغثاثة وتنافر الحروف، وعدم المناسبة للسياق فيما يتصل باللفظة، وعدم وضوح المعنى. إذًا السؤال الآن ما هو السوء، وما هو المشكل الذي جعل القدماء يقفون عنده؟ وهل السوء هو المشكل أم أن هناك سوءًا وهناك مشكلاً خاصة أننا نجد في بعض الأحيان الأبيات التي تدرج تحت «المشكل» ليست مشكلة البتة. وكذلك القول في (المآخذ)، وإن كان مصطلح (المآخذ) أكثر سعة من الأغلاط أو المساوئ، ثم هل هذه الأغلاط أو المساوئ فعلاً مساوئ أم أنها اختلاف في الذوق؟

حين ننظر في كتاب مساوئ المتنبي للصاحب نجد أن مآخذه تتمثل في الفارق في الذوق، فالصاحب كاتب ووزير والمتنبي شاعر، وذوق الكاتب والوزير يختلف عن ذوق الشاعر، وواضح هذا في المآخذ التي يأخذها على المتنبي، وكثير منها ما يتصل بأدب المخاطبة، والفوارق الاجتماعية، فهي لا تليق أن يخاطب بها الملوك أو يتحدث فيها عن والدة ملك، كالمآخذ التي ذكرها في قصيدة المتنبي في رثاء والدة سيف الدولة، إذ نراه يأخذ عليه قوله:

بعيشك هل سلوت فإن قلبي

                         وإن جانبت أرضك غير سال

فيرى أن هذا الرثاء لا يليق بمن يخاطب ملكًا في أمه، وكأنه يرثي بعض أهله، ولكن المتأمل لشعر المتنبي بوجه عام في سيف الدولة يجد أن الصلة بين الشاعر والأمير لا تقوم على الصلة المعتادة بين الشعراء والأمراء، وإنما هناك منزلة خاصة أنزل فيها المتنبي نفسه، تظهر في قصيدته مثلاً «واحر قلباه ممن قلبه شبم». فعلى ميزان «الصاحب» لا تصح هذه القصيدة في المدح فضلاً عن أن تكون في أمير، فالتأوه في أول البيت والشكوى من حرارة القلب في مقابل من قلبه بارد لا يحس به لا يعد في المدح ولا في العتاب وإنما في الغزل وشعر الحب، ثم كيف يصف قلب الأمير بالبرود؟

ولا يمكن أن يقال بأن هذه مقدمة غزلية على طريقة الشعراء في مقدمات قصائدهم، لأنه يقول بعد ذلك:

ما لي أكتم حباً قد برى جسدي

                   وتدعي حب السيف الدولة الأمم

صحيح أن محبة الأمير في قلوب الناس مما يمدح به عادة، لكن ليس إلى الحد الذي يصيب جسد المحب بالنحول، فإن هذا ينقله إلى الغرام ويجعله مبالغة غير مقبولة، ومع ذلك فإن هذه القصيدة تعد من غرر المتنبي، ومن روائعه.

وكذلك قصيدته في رثاء خولة أخت سيف الدولة، ذلك الرثاء الذي حدا ببعض الدارسين إلى القول بالمشاعر الخاصة التي يكنها المتنبي لشقيقة الأمير بناء على هذه القصيدة، ولم يقولوا بمثلها عن والدته بالرغم من الحديث عن الشوق الذي أخذه الصاحب على بيت المتنبي.

وهذا يدفعني إلى القول: إن الموقع الذي كان فيه المتنبي بالنسبة لسيف الدولة مختلف عن المواقع المعتادة للشعراء، أو سواهم من مخالطي الأمير أمثال الصاحب (وإن كان الصاحب لم يخالط سيف الدولة)، ما يمنحه القدرة على ارتياد طرائق أخرى للقول، يكون من ضمنها الموقع الذي يحتله الشاعر بالنسبة للممدوح أو للمرثي بعيدًا عن الاعتبارات الاجتماعية التقليدية، وهو ما لم يحسب له الصاحب حسابًا في مآخذه تلك.

على أن الموقع الذي وضع فيه نفسه ليس هو الملمح الوحيد الذي نستطيع أن نرد إليه الاختلاف في نقد الشعر الذي نجده في المآخذ، بل هناك ملمح آخر يتصل بفهم الشعر المنقود، وذلك فيما يظهر من قول الصاحب حول بيت المتنبي الآخر:

لا يحزن الله الأمير فإنني

                        لآخذ من أحواله بنصيب

إذ نجده يعلق على هذا البيت، بقوله: «ولا أدري لم لا يحزن الله الأمير إذا أخذ أبو الطيب بنصيب من القلق»، وكأنه أخذ «لا» هنا على أنها نافية، وكأنه ينفي أن يكون هناك حزن يقع على الأمير، والحق أن «لا» هنا ناهية، فهو يدعو للأمير بعدم الحزن، ويبين إثر ذلك أنه يهتم لحزن الأمير إلى الحد الذي يصيبه القلق لذلك.

ومما يمكن أن يعد من الذوق الحقل الفني الذي ينتمي إليه البيت، وذلك من مثل تعليق الصاحب على قول المتنبي:

وتسعدني في غمرة بعد غمرة

                       سبوح لها منها عليها شواهد

فالضمائر المتكررة هنا مع حروف الجر المتنوعة، أدت إلى سخرية الصاحب من أبي الطيب بتشبيه الشعر بخطاب الصوفية القائم على الغموض والرمز، بالرغم أن البيت يجمع ضروبًا مما يعده البلاغيون منها، فالإيجاز واضح في البيت، وازدهار الإيقاع، وما يفصل بينه وبين شعر المتصوفة هو سهولة المعنى المقصود هنا، فالبيت يصف الفرس، ويريد أن يوجز في الوصف بالاعتماد على لغة إيقاعية جميلة.

لكن ما ذكره الصاحب له ملمح، وهو أن هذا البيت يمكن أن يستعمله المتصوفة في كلامهم عن الله عز وجل، وهذا ما يمنح البيت ثراء في الدلالة بناء على أن أبا الطيب يدمج أكثر من نوع شعري في وقت واحد، فهو يتحدث عن الفرس، ويستعمل الشعر الصوفي في الوصف، وهذا يرجعنا إلى القضية الأولى التي قلناها في بيت المتنبي في رثاء والدة سيف الدولة، حيث إن الأبيات تستخدم الغزل في المدح.

هذه الظاهرة تظهر لدى المتنبي في أكثر من موضع، خاصة في شعر الغزل، فشعر المتنبي في الغزل قد أخذ قدرًا كبيرًا من الخلاف بين النقاد في قيمته الأدبية، فذهب بعضهم إلى أنه نظم، وأنه أضعف شعره، وذهب آخرون إلى أنه فخر في المقام الأول، ولكن الحقيقة أن شعر الغزل لديه هو شعر غزل لكن موقعه فيه لا يقل عن موقع المحبوب إن كان يفوقه، ففي كل مرة يتحدث فيها عن جمال محبوبته أو شدته وله بها يختم القول بما يفيد أهميته الشديدة التي تجعله في موقع لا يختلف عنها أو يقل عنها، وهو ما جعل النقاد يعدونه في شعر الفخر لكن الحقيقة أنه ضرب من الشعر يمتزج فيه الفخر بالغزل، ولا أقول على طريقة النرجسيين إنه غزل بالذات لأن المقدار الذي يأخذ الفخر قليل أولاً ولأنه غزل جميل خاص.

وهو ما يؤكد القول بالطريقة الجديدة التي يختطها أبو الطيب وهي المزج بين الأنواع الشعرية، تلك الأنواع التي نستطيع أن نكتشف ملامحها في وصية أبي تمام للبحتري، وفيها اخترع ارتباط الغرض الشعري بالأسلوب اللغوي حين يقول: «وإن أردت التشبيب، فاجعل اللفظ رشيقًا والمعنى رقيقًا، وأكثر فيه من بيان الصبابة، وتوجع الكآبة، وقلق الأشواق ولوعة الفراق، فإذا أخذت في مديح سيد ذي أياد، فأشهر مناقبه وأظهر مناسبه، وابن معالمه، وشرف مقامه... وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الرديئة...».

فأبو تمام يؤكد هنا على الفصل الفني بين الأغراض الشعرية، فالغزل له ما يناسبه من الألفاظ والمعاني والمديح كذلك، ولا ينبغي للشاعر الحاذق في رأيه أن يخلط بينهما أو أن يستعمل أسلوب أحدهما في الآخر، إلا أن أبا الطيب يخالف هذا المبدأ من مبادئ الشعرية عند أبي تمام ليختط طريقًا آخر قددًا يخلط فيه بين الأنواع، والمواقع ليظهر تركيبة فنية بديعة.

هذه التركيبة أو الطريقة هي التي رأى الصاحب أنها من المساوئ، وأنه ينبغي أن يعدل عنها لأن قوله في وصف الفرس يشبه قول أبي يزيد البسطامي، أو أن رثاءه لوالدة سيف الدولة يشبه قول أحدهم في أهله، أو في قول من قال: إن رثاء أبي الطيب لخولة أخت سيف الدولة يمتلئ بلواعج الحب مما لا يحتمله الرثاء، أو من قال: إن في غزل المتنبي من الفخر والاعتداد بالنفس ما يجعله غزلاً مصنوعًا لا تتوافر فيه صفات شعر الحب على طريقة أبي تمام.

أو في طريقة المخاطبة نفسها، فهي أخطاء في المعنى ولا صلة لها بالتعقيد اللفظي ولا بالتعقيد المعنوي، وإنما يدور الأمر في مجملها على السياق الذي وردت فيه وهو سياق متغير بناء على تغير الذوق، وهذا ما يجعل هذه «المساوئ» إن صح التعبير ليست مساوئ بالمعنى الحرفي.

وبالعودة إلى بيت المتنبي السابق، فإن النقاد قد تحدثوا عن هذا البيت كثيرًا، وتجادلوا حتى أصبح من الأبيات التي يسعى النقاد لشحذ أذهانهم وأداتهم النقدية حوله، فكتبت حوله التعليقات. وهذا جانب آخر حول هذه الأبيات المشكلة، وهي التي تتجاوز مسألة أن تكون واقعة في الخطأ أو الصواب إلى تحولها إلى مادة يتنازع حولها النقاد، ويسجلون آراءهم، ومقدرتهم على التعليل والتحليل والتفسير.

وإذا كان النحويون القدماء يتبارون في الكشف عن وجوه المعنى المبني على وجوه الإعراب، فإن النقاد كانوا أيضًا يتبارون للكشف عن المعنى أيضاً ولكن المبني على الملامح الفنية التي تجعل المتلقي يتذوق البيت بصورة مختلفة متنوعة بحيث يؤدي إلى ثراء المعنى وجماله، وقد يكون المعنيان متقاربين، إلا أنه في الحالة الثانية ليس واضحًا بصورة كبيرة على اعتبار أنه يندرج فيما يسميه البلاغيون بـ«لازم الفائدة»، وهو ما يفهم من المعنى الإضافي للمعنى الأصلي، أو قد يكون سببًا في تفضيل وجه من وجوه الإعراب على آخر، ما يعني أنه يقوم بوظيفة مهمة في تأسيس الحكم على الأثر الجمالي بوجه عام، وعلى بيت الشعر الذي نحن بصدده في هذا الحديث، وهو ما يجعله أمرًا مهمًا في العملية النقدية، إذ يعني أن هذه العملية كلها التي ينتج عنها هذا الحديث تمثل نوعًا من الإضافة النقدية، أو يمكن أن نصفه بأنه جنس نقدي جديد لا يمثل فيه الحكم النقدي المحدد المركز في العمل النقدي أو غاية له، وإنما يصبح هذا الإجراء المتمثل بالتجاور للآراء المتعددة، والمختلفة في النظر، وما يمكن أن أسميه «بالاحتمالية» في فهم البيت وفي تفسيره، وعدم الاعتبار لنسبة الخطأ في كل رأي بالرغم من إمكانيته، ما يمنح القيمة -إن صح التعبير- للأداة التي يستعملها النقاد في إدراك المعنى وتحليله بوصفه هو الغاية في العمل النقدي، فهو يحيل العمل النقدي بهذه الصورة إلى عمل فكري (علمي)، ويغري الباحثين في البحث عن الملامح التي يمكن أن تكتشف في البيت سواء كانت هذه الملامح اجتماعية أو نفسية أو تاريخية أو سياسية.

لكن الأمر المهم أن هذا المجموع من الأقوال والآراء والاختلافات حول البيت الواحد مثلت إضافة نقدية بل أصبحت ذات قيمة كبيرة في ذاتها من الناحية النقدية، ومن ناحية بناء البيت عززت قيمة هذه الاعتبارات بوصفها جزءًا من الشعرية أو بوصف الشعرية تقوم عليها، إذ تعتمد على إثارة نوازع الإنسان وهواجسه أو كما يقول النقاد مشاعره، فتعزز موقفه من البيت سواء بالسلب أو الإيجاب، وهو ما يقلل من أثر التعليلات والتحليلات التي يقولها النقاد، ويقلل بدوره من أثر ما وصفناه بالعلمية، فيجعلها علمية لا تملك صرامة العلم وإن كانت تتسم بسماته، وتتوسل وسائله، ما يعزز الجانب الإنساني بالنقد، ويجعله في منزلة بين منزلتين -كما يقول أصحاب العقائد- منزلة العلم ومنزلة الأدب، يحتفظ من كل واحد منهما بسمة، بناء على أن هذه الاحتمالات ينفي بعضها بعضًا انطلاقًا من القول المشهور: إذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال، لكنه احتمال فاعل وليس نافيًا، فهو لا ينفي الاحتمال وإنما يقطع يقينيته ما يجعله متصفاً بالصفة السابقة ويمنح النقد منزلة خاصة في الخطابات ليس الأدب، ولا العلم أي بصورة أخرى وجودًا مستقلاً خارج هذين الحقلين الكبيرين، إن هذا النوع من الخطاب يؤسس واقعًا فعليًا ونظريًا لما كان يسميه نقاد النصف الأول العرب بالجمع بين العلم والأدب في النقد، فهو يحافظ على العلمية والأدبية في آن.

لكن هذا ليس وحده هو الذي يعطي هذه التحليلات المختلفة القيمة، وإنما هناك ملمح آخر لا يقل عنه قيمة وهو منح بيت الشعر صلاحية عبور الأفهام، والتنقل بين الأزمان، بوصفه هو المركز الذي ينبغي أن ينطلق منه كل نقد ويعود إليه، وأن اختلاف الآراء فيه وتعاور الأفهام عليه لا يغير من حقيقته ولا ينزل من قيمته.

وهذا يجعل المشكل هنا مشكلاً بالمعنى العلمي أي بحاجة إلى بحث وحل، لأنه يبعث في نفوس المتلقين السؤال، والقلق عن معنى البيت، ويدعوهم إلى الجدل حوله والنقاش، والاختلاف، وليس من السر أن يقال إن هذا الاختلاف والجدل يدل على قيمة البيت وجودته. ولوكان ساقطًا مبتذلاً لما اختلفت فيه الآراء، ولما دونت حوله الصفحات، ولما وضعت -ربما- الشواهد تخالفه أو تؤيده.

لقد كانت الأبيات المشكلة، أو التي تسطر حولها المآخذ ظاهرة نقدية وشعرية في ذات الآن، إذ مكنت من ظهور مدارس نقدية وآراء مختلفة تتقارع حولها العقول، كما مكنت من تعزيز الشعرية القديمة بالتركيز على الأبيات التي تخرج عما تعارف عليه الشعراء القدماء أو ما سمي بـ«عمود الشعر»، وتفتح المجال للقول بطرائق مختلفة جديدة، وتصنع لها جمهورًا خاصًا من خلال هذا الجدل والخلاف يتفق معها أو يقف ضدها ما يعمق مكانتها بالشعرية العربية.

ولكننا لا نستطيع أن ننساق في هذا الاتجاه إلى آخره، فقد لا تكون هذه السمات هي السمات الغالبة على ما كتب عن المتنبي، أو بالأحرى ما أخذ عليه، فقد يكون ما أخذ عليه مما قاله البلاغيون، إلا أن السؤال يظهر ما ذا لو كان الشعر أجمع يدور حول هذه الاعتبارات؟ بمعنى أن هذه المآخذ التي أخذها النقاد هي من صميم الشعرية، فهذه المآخذ التي تتمثل بالتعقيد اللفظي أو المعنوي أو المعنى تتصل بظواهر يمكن أن يختلف فيها الرأي، من مثل التكرار الذي قد يعد إسهابًا وعياية، وقد يدل على تأكيد المعنى وتعزيز الشعور، وسيقولون: إن هذا يعود إلى حذق الشاعر ومعرفته بالصناعة، إلا أن المهم أن الظواهر الواحدة أو المتشابهة تأخذ حكمًا مختلفًا، ويحضرني في هذه الساعة قول أبي تمام المشهور:

ذهبت بمذهبه السماحة فالتوت   

                     فيه الظنون أمذهب أم مذهب

وقوله أيضًا:

ناظراه فيما جنى ناظراه

                      أو دعاني أمت بما أودعاني

فقد شنع عبدالقاهر على أبي تمام في البيت الأول، وأعلى من مكانته في البيت الثاني، ولو تبعنا ما قاله القدماء عن الفارق بين البيتين، وهو أن المعنى واضح مستقيم في الثاني، وأن كل لفظة دلت على معناها المختلف عن الأخرى بصورة طبيعية صحيحة ما يجعل التكرار في الألفاظ حلية إيقاعية جميلة وهو الجناس، في حين أن الحال ليست في البيت الأول، بدليل اختلافهم في مقصده من «مذهب» الأولى، والثانية، وإن كان الأغلب أن الأولى تعني النسيج الذي فيه ذهب، والثانية تعني الطريقة الخاصة الجديدة، إلا أن البيت الثاني لا يختلف عن بيت إسماعيل صبري المشهور والذي عد من نماذج التقعيد والميل إلى الزخارف والحلى القولية، والذي يقول فيه:

طرقت الباب حتى كل متني

                         فلما كل متني كلمتني

وإذا عدنا إلى القضايا التي ذكرها الصاحب ابن عباد وردنا عليها نجد بعضها مما يلحق بما يسميه البلاغيون بـ«لازم الفائدة»، وهي القضايا التي تفيض عن المعنى ولا صلة لها حقيقية بالتركيب اللغوي، ويختلف فيها المختلفون، لأنها تعود إلى السياق مرة أو المتلقي أخرى أو المتحدث ثالثة.

الأمر المهم هنا هو أن الشعر نفسه في تكوينه، أو «الشعرية» تعود إلى هذه المعاني المحيطة بالقول، ويختلف حولها المختلفون، وقد لا تعود بالضرورة إلى التركيب اللغوي، وإنما إلى ما ذكرته في الفقرة السابقة، فليس بالضرورة أن يكون الموقف من النص بناءً على سمات فنية في النص، بل كثيرًا ما يكون ما أحاط به من إعجاب، وتوالي المديح، ويمكن أن نوازن لإثبات هذه الحقيقة بين النصوص في الدواوين والنصوص في الدراسات المكتوبة عن الشخصيات من مثل كتاب «أخبار أبي تمام للصولي»، فالحكايات التي يوردها الصولي عن بعض المقطوعات والقصائد التي يتحدث عنها تزيدها قيمة وتكشف عن محاسنها أو تقنع المتلقي على وجه أدق بفرادتها خاصة مع إعجاب الصولي الكبير بأبي تمام وأشعاره.

وهذا الاختلاف بين أن يكون المعنى بسبب عنصر تركيبي في النص أو أن يكون متصلاً بالسياق، ومعرفة أحوال المتكلم أو السامع، مهم جدير بالتأمل والنظر، باعتباره قضية أدبية. وذلك أنه في الحالة الأولى (أن يكون بسبب عنصر تركيبي)، يعني أنه في عدم وجود هذا العنصر لا يعد المعنى مقبولاً أو صحيحًا حتى وإن دل عليه بسبب السياق أو معرفة أحوال المتكلم، أما في الحالة الثانية فإنه لايهم العنصر التركيبي، وإنما المهم هو ما يجده المتلقي أو يدور في نفس السامع.

والفرق بين الموقفين هو في مقدار ظنية الدلالة، فالمرة الأولى تكاد تكون يقينية أو ظاهرة الرجحان، أما في الثانية فهي ظنية، ومحل جدل بين المتلقين، ويمكن نفيها بيسر لأنها تعتمد على حدس المتلقي أو ادعاء المتحدث على أن هذا لا ينفي حقيقة أن هذه الدلالة هي نوع من تعدد القراءة أو بأسلوب آخر هي نوع من التأويل. وهذا يعزز إمكانية المساواة بين النموذجين ذي الزيادة البنائية أو البعد التأويلي السياقي.

وفي الحالين تظل خاضعة للذوق المختلف من حال إلى حال، وهو ما يؤكد القول بأن هذه المآخذ إذا لم تكن أخطاء لغوية دقيقة يمكن أن تعد على أنها مآخذ بالنسبة لشاعر في مكانة المتنبي، بل إننا يمكن أن نعيد النظر في الأخطاء اللغوية، والتجاوزات العروضية وفق نظرية الانزياح التي تراها مستوى لغويًا، وترى أن فرق ما بين اللغة المعيارية واللغة الأدبية هي هذه الانزياحات التي يخرج بها الكاتب أو الشاعر، ويتجاوز به اللغة المعيارية أو ما تعارف عليه الناس من قبل.


عدد القراء: 1508

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-