جناية الأدب المصري على الأدب العربي الحديثالباب: مقالات الكتاب
أ.د. إبراهيم بن محمد الشتوي أستاذ الأدب والنقد |
درج عدد من مؤرخي الأدب على اعتبار الحملة الفرنسية على مصر الحدث الذي يفصل الحقبة العثمانية عما تلاها من حقبة سميت فيما بعد بالعصر الحديث. على الرغم أن بعضًا من الدارسين يرون أن الحملة الفرنسية نفسها لا يمكن أن تكون بداية النهضة والعصر الحديث لأنها لم تحدث شيئًا ذا بال على وجه الحقيقة ولأنها كانت قصيرة المدة حيث لم تتجاوز السنوات الثلاث، ولذا فإن البداية الحقيقية هي أعمال محمد علي التي أعقبت الحملة.
إلا أن أصحاب الرأي الأول يجادلون بأن الحملة كانت قد اصطحبت معها ألوانًا من المعرفة والوسائل الحديثة التي لم تكن معروفة لدى المصريين في ذلك الوقت مما أحدث صدمة حضارية، وأثار الحافز لدى المصريين لأن يكون لهم مثل ما رأوا لدى الفرنسسين أو ما قام به الفرنسيون، كما يستهدون على ذلك بإقامة الحملة الفرنسية المكتبة العامة التي لم تكن معروفة من قبل، والصحافة والمطبعة، والمجمع العلمي، مما أصبح بعد ذلك ملكًا للمصريين.
وأيًّا ما يكن، فإن أثر الحملة الفرنسية لا يمكن أن ينكر فيما يتصل بالنهضة الحديثة، إلا أن الذي يحتاج المساءلة والمدارسة هو هل كانت هذه الحملة أو التاريخ الذي جاءت به الحملة هي البداية الحقيقية للعصر الحديث، ذلك أن هذا التاريخ وهو (1798) يعد متأخرًا إذا ما قارناه في طلائع الفكر الأوربي في عدد من الأقاليم العربية، أو حتى النهضة الحديثة.
أتذكر يوم أن كنا طلابًا في المرحلة الجامعية كان أستاذنا الأستاذ الدكتور إبراهيم الفوزان يجادل في أن تكون بداية العصر الحديث في مصر، ويرى أنها في المملكة العربية السعودية حيث مطلع الحركة النجدية الإصلاحية على يد الإمامين: محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب، ويؤيده كذلك بعض الدارسين من أمثال محمد الشنطي الذي يرد النهضة الحديثة إلى عدد من العوامل منها الحركات الإصلاحية في القرن الثاني عشر الهجري سواء أكانت في نجد أم في العراق أم في شمال أفريقيا بالإضافة إلى الحملة الفرنسية.
وعلى الرغم أن الحديث هنا وهو في تاريخ الأدب يقوم على تحديد الزمن التاريخي، والأسبقية في الريادة، فإن رأي الشنطي لا يصح هنا لأنه يحدد عوامل متعددة حدثت في أقاليم مختلفة مما لا يساعد في تحديد بلد الريادة في النهضة الحديثة.
ومع ما ذكرته من أن طلائع الفكر الأوروبي الحديث كانت في أقاليم عربية أخرى وأعني بها سوريا ولبنان قبل مصر، مما يؤكده وجود المطبعة والمسرح والصحافة أيضًا في الشام قبل مصر، بل إن "الوقائع المصرية" وهي الصحيفة التي أنشأها محمد علي كان يقوم بإدارتها حسن العطار، وهو مغربي الأصل ولد في مصر وصنع نفسه عالمًا خارج الدراسة النظامية المعروفة في زمنه وخارج البيئة المصرية، كما يذكر عمر الدسوقي، ثم كاتب لبناني هو أحمد فارس الشدياق.
والأمر كذلك ينطبق على عدد من من الصحف التي أنشأها بعد ذلك الشاميون في مصر، مما لا يقتصر أثره على هذه الوسائل بل يتجاوزه إلى لغة الكتابة التي كانت مستعملة في ذلك الزمن ما يعني أنهم قد أسهموا في نشأة الكتابة الحديثة، وهو ما يؤيده صاحب "في الأدب الحديث" عمر الدسوقي حين ذكر أن الشدياق كان يكتب بلغة لا عهد للمصرين بها.
وإذا تجاوزنا الكتابة الأدبية إلى الشعر نجد أن رائد الرومانسية العربية الذي سبق أصحاب مدرسة الديوان لبناني الأصل وهو خليل مطران، وكذلك إيليا أبو ماضي الذي كان في الأصل لبنانيًا قبل مهجره إلى مصر ثم إلى أمريكا، والأمر عينه يقال عن نشأة المسرح والسينما في مصر والذي كان في الأساس على يد بعض المهاجرين الشاميين في القرن التاسع عشر.
وهذا يعني أن الحركة التي تسمى بعصر النهضة لم تكن في الأساس مصرية حتى وأن كانت في مصر، فهؤلاء الأدباء قد تحولوا إلى مصر بعد أن استوت في الأدب قناتهم وصاروا أعلامًا في الأدب والنقد في بلدانهم.
على أن الأمر المهم لا يقتصر على هذا، بل يتجاوزه إلى البلدان التي جاء منها هؤلاء الأدباء والشعراء والمبدعون، فلو لم يكونوا قد جاءوا من بيئة علمية قد خطت في النهضة والفكر مستويات متقدمة لما تمكنوا من تولي الريادة في مصر حين انصرفوا إليها، وهذا يعني أن هذه البيئات هي الرائدة في النهضة والعمل الفكري الجديد بحيث إنها تمكنت من إنتاج هؤلاء القوم، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى أن تكون هي محل الريادة الفكرية في العصر الحديث وليست مصر كما هو مشهور.
صحيح أن بعض الدارسين يرى أن حركة البعث (إن صح التعبير) في بلاد الشام كانت نتيجة الإرساليات التبشيرية الفرنسية والإيطالية، وأن هذه الإرساليات كان عملها مقصورًا على الكنائس والأديرة وربما على أحسن تقدير على الأوساط المسيحية، ولم تتجاوزها إلى الأوساط الإسلامية التي كانت ترزح تحت نير الاستبداد التركي الغاشم، فلم تكن شاملة للمجتمع كله، والذي يؤيده أن الرواد الذين تحدثنا عنهم سلفًا كانوا نصارى ما يعني تأثرهم بالحركة التبشيرية التي قادها القساوسة الأوربيون في الكنائس والأديرة في القرن السادس عشر كما يذكر بطرس البستاني.
ومع صحة هذا القول، فإننا لا نستطيع أن ننفي أن تأثير الإرساليات التبشيرية وإن كان في الأساس محصورًا على الكنائس والأديرة، أو في مجتمع النصارى على وجه الخصوص فإن تأثيره سيكون واسعًا بناء على التواصل بين النصارى والمسلمين من حولهم سواء عن طريق التأثير المباشر أم عن طريق الانعكاس بمعنى رغبة المسلمين في أن يكون لهم ما للنصارى كما هو الحال في سؤال النهضة الأول الذي طرحه الأمير شكيب أرسلان، ومفاده قائم على الغيرة من تقدم الغرب والرغبة في أن يكون للعرب ما لأولئك بل إن جرجي زيدان ينص على أن الباعث على إنشاء المدارس في سوريا منافسة البعوث الدينية أو البعثات التبشيرية.
ونستخلص مما سبق أن حركة البعث الأولى لم تكن أصلاً في مصر، وإنما تحولت إلى مصر بعد أن هاجر الشاميون إليها فرارًا من عنجهية الأتراك واستكبارهم، فحملوا معهم المشاعل إليها، وقد أشرت من قبل إلى ما أحدثه الشدياق في الكتابة المصرية إبان كتابته في وقائع محمد علي، خاصة إذا أضفنا إلى ذلك أن محمد علي كان حاكمًا عسكريًا، وأن حملته لم تكن تسعى إلى بناء دولة مدنية ذات نهضة وحضارة قوية إلا بالقدر الذي كان يسعى إليه من بناء جيش قوي حديث على الطرائق الأوروبية وتهيئة الأسباب المؤدية إلى ذلك، ما يعني أن الشدياق ومن قبله العطار كانا في حقبة مبكرة من النهضة المصرية، وهو ما يؤكده الدسوقي حين ينص على أن النهضة في الشام قد اتجهت وجهة أدبية منذ البداية بخلاف الحال في مصر. (نحن ضربنا المثل بالشدياق، مع أن ما ينطبق على الشدياق ينطبق على العطار قبله، لكن حالة الشدياق بالرغم أنه متأخر عن العطار تدل على مقدار التخلف الذي تعيشه مصر في تلك الحقبة، وأن النهضة في الأدب والفكر لم تظهر إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بل إن مؤرخي الأدب يكاد يجمعون على أن النهضة الحقيقية في مصر إنما كانت في عهد إسماعيل، والحديث من المنظور الذي نأخذه في هذه المقالة يطول).
كما نستخلص أيضًا أن اعتبار ابتداء عصر النهضة حملة نابليون على مصر، وأن النهضة كانت في مصر خطأ تاريخي فادح ساق إليه ما كانت تتمتع به مصر من استقلال سياسي نسبي عن الدولة العثمانية مكنها من أن تبني مؤسساتها العلمية والاجتماعية بمعزل عن الأتراك، وأن تكون محط أنظار العرب الذين لا يملكون كياناتهم المستقلة، فهذا الزخم الاجتماعي (إن صح التعبير) انعكس على تلقي الناس خارج مصر للحركة الأدبية، واعتبارها المركز في التحول النهضوي في العالم العربي، وإن لم تكن رائدة فيه.
وهذا الاعتبار جعل لها المكانة الأولى في الوعي العربي ما انعكس على تلقي الأدباء العرب للمنتج الثقافي الصادر عن مصر بوصفه المنتج الأصيل، وإن كان في الحقيقة انعكاس لما يصدر في الأقاليم العربية الأخرى. وهذا ما أدى بدوره إلى المأزق التالي؛ وذلك أن الحراك الاجتماعي المصري ما لبث أن تطور في الربع الأخير من القرن التاسع عشر خاصة بعد الانتداب البريطاني بعد "هوجة عرابي"، وهو ما فرض نفسه على أوجه الثقافة المصرية وأكسبها نوعًا من المحلية بعد تمصيرها، فأصبح القائمون على المؤسسات الثقافة والعلمية من المصريين وكذلك الشعراء والكتاب.
هذه المحلية المصرية استقبلت في الأقاليم العربية على أنها الصورة الحقيقة للأدب العربي المتطور التي ينبغي أن تكون عليها الآدب الأخرى، بغض النظر عن أن تكون هذا الصورة ممثلة للأدب نفسه بثرائه وتنوعه وشموله جميع جوانب الحياة، ولذا لا نعجب إذا وجدنا أن الأدب العربي يكاد يكون إلى نهاية النصف الأول من القرن العشرين انعكاسًا للأدب المصري الذي هو في الأساس انعكاس لواقعه ومحليته الضيقة. (هناك فرق بين الأدب بمفهومه الواسع والمدارس الأدبية ذات الفضاء المحدود في الواقع الأدبي).
وليس هذا وحسب، بل إن هذا الظهور للحراك الاجتماعي جعل الأصوات الأدبية المصرية أعلى من سواها من الأصوات الأدبية الأخرى، وأكثر حظوظًا في الحضور في المجتمع الأدبي العربي، بوصفها هي الأسماء الكبيرة المبدعة وأن ما سواها صدى لها، ما يجعلها في المحل الأدنى.
ويمكن أن نضرب على ذلك مثلاً بالحركة الأدبية في الحجاز، فقد اعتبر مثلاً "أحمد الغزاوي" شاعرًا تقليديًا من مدرسة شوقي على أحسن تقدير إن لم يكن البارودي، في الوقت الذي يذكر فيه أستاذنا إبراهيم الفوزان (رحمه الله) أنه في بداية كتاباته الأدبية كان يفضل على شوقي نفسه وفي مصر أيضًا في بعض الأوعية الأدبية، وكان يمكن أن يعد رائدًا من رواد الأدب العربي وهو ما سينعكس على الثقافة في الحجاز بوجه عام.
وعلى الرغم أن الإبداع والثقافة ليست منتجًا نصيًا وحسب وإنما هي جماع عناصر متعددة تنتج النهضة والريادة، وتسهم في تطور الحياة الأدبية، إلا أن هذا يؤكد حقيقة أن حالة الأدب في مصر في عصر النهضة وما بعده لا تمثل الأدب نفسه، ما يعني وجود إمكانية ظهور أنواع ومدارس أدبية غير ما كانت سائدة في البيئة المصرية.
الأمر الجدير بالنظر، هو أن التجديد الذي حصل في البيئة الأدبية المصرية كان في مجمله ناتجًا عن الاتصال بأوروبا سواء كان على مستوى الأنواع الأدبية (المقالة، القصة القصيرة، الرواية، المسرحية) أو على مستوى المدارس الأدبية (الرومانسية، الواقعية، الشعر التفعيلي، قصيدة النثر)، مما لم يكن له بالعرب ولا العربية أدنى صلة، وهو ما رفع مستوى التنافس في بلاد العرب على الاتصال بأوروبا والاستفادة من خبراتهم الأدبية والنقدية، (وهو ما يمكن أن نضرب عليه مثلاً بالفترات اللاحقة للحرب العالمية الثانية حين رأينا الحراك يتركز في العراق والشام ثم في شمال أفريقيا)، بمعنى أنه لم يكن ناتجًا عن الحراك الاجتماعي أو الثقافي في البيئة المصرية، ولا ثمرة من ثمراتها، وهنا يصبح ربط هذا المنتج الثقافي بمصر على وجه الحقيقة لا معنى له، ويصبح التركيز على مصر في تلك الحقبة إجحاف في الأقاليم العربية الأخرى.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- التحيز في الأدب 1-2
- التحيز في الأدب 2-2
- الهوية والقومية
- طبائع المؤسسة (حياة في الإدارة)1 - 2
- طبائع المؤسسة (حياة في الإدارة) 2 - 2
- من «وحي الحرمان»
- الموقف من الآخر في السرد العربي
- جماليات القبيح
- بلاغة المهمشين
- أدبيات البرجوازيين
- ثقافة المديح
- كتابة تاريخ الأدب
- سرديات شوقي ضيف
- نـــقــــاد الــعــجـم
- شعرية شعر الحكمة
- قول في الكلام
- اللغة والمجتمع
- الأدب والصنعة
- الأدب المترجم
- أغلاط المتنبي
- جناية الأدب المصري على الأدب العربي الحديث
- الشوفينية المصرية
- الجنسانية المصرية (1)
- الجنسانية المصرية (2)
- الجنسانية المصرية (3)
اكتب تعليقك