المتخيل/المخيال الديني في الفضاء الإسلامي ما بين ثبات البنية وفعل التاريخالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-05-31 22:43:58

د. رمضان بن رمضان

باحث في الحضارة العربية الإسلامية

يعرف جلبار ديران Gilbert Durant  المتخيل بقوله: "إنه ليس سوى تلك المسافة التي يمكن داخلها لعملية تمثل شيء ما أن تعمل على استيعابه وتشكيله بواسطة الأوامر المحرضة والصادرة من الذات. هذه المسافة تتيح تبادلاً ضروريًا بين الاندفاعات الذاتية المتمثلة والإبلاغات les intimations الموضوعية المنبثقة من الوسط الكوني والاجتماعي".(1) فالمتخيل الذاتي والمتخيل الموضوعي لا يتعارضان البتة، إنهما يتداخلان بدرجات متفاوتة ومختلفة ابتداء بالتمثل الإدراكي المحسوب وصولاً إلى التضخم الأسطوري والطوباوي. فالمتخيل نوعان: مولد وهو محض إعادة إنتاج لصور، وخلاق وهو قائم على تركيب جديد لصور واختراع الأشكال. كلاهما يجد نفسه مختلطًا بالآخر وتختلف درجة الاختلاط هذه حسب مزاج كل فرد وحسب قابليته للانفعال والتأثر أو قابليته لرد الفعل. إن وظيفة المتخيل تنتظم بتأثير من عوامل متعددة ذات مصدر فردي أو وراثي أو بيولوجي أو اجتماعي أو ثقافي، والمتخيل لا يترك نفسه أسير مآزق وإحراجات تلك الثنائيات المعروفة مثل الأسطورة/التاريخ، الوعي/ اللاوعي، الواقع/الحلم، إنه يمتلك القدرة على الانفلات من الوقوع تحت أحد حدين أو الوقوع مكرها على اختيار واحد من بديلين كلاهما في غير مصلحته، فهو لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. إنه يمتلك حقيقته الخاصة به، إنه هذا العالم من الانسجام والتآلف.

المخيال هو عبارة عن بنية أنتروبولوجية موجودة لدى كل الأشخاص وفي كل المجتمعات مهما كانت أشكاله وأنواعه وذلك بحسب التاريخ المشروط بالزمان والمكان. إنه الفضاء العقلي المليء بالصور والمشحون بالأخيلة والأفكار الموروثة فهو الصور والقيم التي حافظت عليها الذاكرة / التراث وتعيد إنتاجها. ويرتبط المخيال/ المتخيل بالطبيعة الشعرية للغة أي بالمجاز والرمز والأسطورة ثم بالجانب النفسي للإنسان أي برغبته في البحث عن كل ما لا يستطيع إشباعه في نفسه أو في عقله فيتخيله لأنه يتجاوز قواه الخلاقة. لقد كان للمخيال دور في صنع التاريخ مثلما تثبت ذلك الدراسات الحديثة التي تعتبر أن التاريخ لا تحركه فقط الأحداث المادية الواقعية التي جرت بالفعل، وإنما تحركه أيضًا وتصنعه الخيالات والأحلام التي تصاحب هذه الأحداث عادة أو تسبقها أو تأتي بعدها. فالمخيال/المتخيل كالصراع الطبقي أو كالعامل الاقتصادي له أهميته التي لا بد من أخذها بعين الإعتبار عند دراستنا لحضارات الشعوب وثقافاتها.(2)

تتنازع المصطلح الفرنسي L'imaginaire   ترجمتان عربيتان كلتاهما تعمل على إثبات أحقيتها في التعبير عما يضج به المصطلح الفرنسي من معان ودلالات. هاتان الترجمتان هما المخيال والمتخيل، ولو نظرنا في مختلف التعريفات لمصطلح L' imaginaire لوجدنا أنها في حاجة لمصطلحي: المخيال باعتباره صيغة مبالغة يمكن أن تدل على الآلة والمتخيل باعتباره اسم مفعول. فمن تعريفات المخيال أنه ملكة لاستحضار صور ما كنا رأيناه، كما أنه ملكة لخلق صور لأشياء غير واقعية أو لم تر في السابق وهو أيضًا ملكة لتركيب صور معروفة ولكن بطريقة جديدة وهو الملكة التي تمكننا من بلورة المفاهيم والتصورات والنظريات الجديدة. أما المتخيل فهو عبارة عن العقائد والتصورات والأفكار المسبقة وأحيانًا الخاطئة التي تعج بها الذاكرة والتي تم استبطانها في كثير من الأحيان دون تمحيصها وفي غفلة من كل رقابة للعقل. هذا المتخيل المشحون بالأخيلة والصور الموروثة والقيم يظل قابلاً لأن يفعل به – أي للاستثارة – في أي لحظة ولا سيما في لحظات الصراع الحضاري، فيظهر على السطح وينكشف بغثه وسمينه من خلال ردود الفعل المتشنجة في أحيان كثيرة. فالمخيال والمتخيل كلاهما يجمعان مفاهيم الذاكرة الممتلئة بالتصورات والقادرة في الآن نفسه على التقاط الصور وإعادة تجسيدها أو تحيينها، كما أنهما يحملان مفهوم الخيال الخلاق المتجسد في الأدب والفنون والدين(3) أي الإبداعية العلمية والفكرية من ناحية ومفهوم الهلوسات والوهم من ناحية أخرى.

1 – في تحرر المخيال/ المتخيل من هيمنة العقل والعقلانية

إن الصراع بين اللوغوس logos والميتوسmythos الذي نشأ في الحضارة الإغريقية – اليونانية، يبدو صراعًا مستوردًا في ثقافتنا. إنه وليد الانتقال من الخرافة والميتولوجيا إلى العقل وإلى تعقل الظواهر الطبيعية والبحث في القوانين المسببة لها، فمع اشتداد عود العقلانية وصرامة منهجها في مقاربة الطبيعة والمجتمع وبلوغها مرحلة الهيمنة un stade d'hégémonie تم تهميش ملكات أخرى تتعايش مع العقل منها الخيال والشعور والحدس ورميها في دائرة الخرافة والتهويمات وإسكاتها ومنعها من تطوير نفسها وبالتالي تحجيم مساهماتها في صناعة التاريخ ولاسيما مع المدرسة الوضعية l'école positiviste ، حين بلغ العلم والمعرفة درجات متطورة، حتى أصبح العقل التقني البارد يراكم نجاحاته ويسيطر على وعي الإنسان المعاصر ويملأ عليه وجوده ويتحكم في طرق تفكيره ونظرته للوجود والعالم. لقد كان لهذا الصراع أثره البين في الحضارة العربية الإسلامية فقد ظهرت صراعات بين مختلف التوجهات الفكرية في القرون الخمسة الأولى من ظهور الإسلام، ثم كان لكل ذلك تداعياته ولاسيما في قراءة التراث العربي الإسلامي سواء عند محمد أركون، أو محمد عابد الجابري أو الطيب تيزيني أو حسين مروة، ...وذلك في مستوى المناهج والتصورات المعتمدة في استنطاق التراث ومقاربته.

لقد قدم المسلمون والمستشرقون معًا تصورًا خاصًا عن الفكر الإسلامي منغمسًا بشكل كلي بمفهومي العقل والعقلانية وراحوا يرمون الخيال والمتخيل في دائرة الخطأ والوهم والخرافة والانحراف، فقد كانوا يعتقدون أن عمليات الإنبهار والزخرفة اللغوية والمجاز الخلاب هي أشياء مقصورة على الأدب بالمعنى الفني للكلمة (شعر، حكايات، روايات) ينعدم فيها الفكر، إلا أننا نعلم أن التنافس بين العقل والخيال، أو بين العقلانية المنطقية وبين المتخيل المجنح موجود في كل الثقافات وربما كانت قد حظيت في اليونان القديمة بصياغاتها الأكثر اكتمالًا ونموذجية حيث حصل التوتر والصراع الحادين بين المنطق العقلاني والأسطورة. إن هذا الصراع اتخذ في الحضارة العربية الإسلامية تسميات جديدة، فنجد أن التضاد المعروف بين المعنى الظاهري والمعنى الباطني، أو بين المدارس القانونية الملتزمة بحرفية النصوص وبين المدارس الصوفية الفاتحة صدرها للتعبيرات الرمزية، ينبغي أن يلحق بالمناقشة المفتوحة دائمًا بين اللوغوس والميتوس أي بين العقلانية الصارمة وبين التركيبات الفنية والمغامرة للخيال والمتخيل والمخيال.(4) ويبدو أن القرآن قد ساهم أيضًا في تسفيه نوع من المتخيل/المخيال وإضعافه من الناحية الأنطولوجية، حين هاجم

(وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلۡغَاوُۥنَ ٢٢٤ أَلَمۡ تَرَ أَنَّهُمۡ فِي كُلِّ وَادٖ يَهِيمُونَ) سورة الشعراء / الآية 224 – 225 وضد

(أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِين) سورة الأنعام / الآية 25 – ولكنه أحل بدلاً من هذا المخيال الغاوي والضال، المخيال المنتظم والهادف والمغذى من قبل كلام الله وأقحم فيه الشعراء الذين يوظفون فنهم في خدمة الله تمامًا كالقصص الحق المتعلقة بالشعوب التي أطاعت الأنبياء، فهم يرسخون مخيالاً إيجابيًا نافعًا مرتبطًا بالعقل والفكر والتدبر والعبر وهي مفردات لغوية مستخدمة في القرآن. 

2 – المتخيل/المخيال الديني في الفضاء الإسلامي

إن للدين صلة وثيقة بالمخيال/ المتخيل كليهما، لما لهما من دور في استبطان الشعائر والطقوس من ناحية وفي استثارة  وعي المؤمن وتحفيزه على استحضار الأفق الأخروي. يعتمد المخيال/ المتخيل الديني على حالة الوعي الديني الذي لا يتجزأ la conscience religieuse indivisible  أي ذاك الوعي الذي يفترض بأن العامل الميتافيزيقي يشمل ويحتضن ويؤسس جميع الكائنات المحسوسة وغير المحسوسة. إن المتخيل الديني الممتلئ بكل تلك التصورات والعقائد منبن في أساسه على القلب(5) إن عضو الإدراك الأساسي في القرآن هو القلب وليس العقل، فلا نبني أوهامًا كثيرة على تواتر المفردات ذات التلوينات العقلية في القرآن من مثل: يتفكرون، يفقهون، يعقلون،...إن الصيغ المتواترة في القرآن لكل ما فيه دلالة على التعقل والتفكر والتدبر وردت في صيغة الفعل وهي صيغ بعيدة عن التجريد L'abstraction، بل إن لجميعها مقاصد فهي للتأمل والاعتبار من خلق الله وقدرته وفعله...فكلها تصب في "قلب المؤمن". إنها تنطلق من حواسه لتلامس عقله ثم تحط رحالها في قلبه، فهو مستودع الأسرار. فالعقل لا يدرك كنه الأشياء إلا بنور القلب، فإذا كانت العين تتيح إمكانية رؤية الأشياء فكذلك القلب يعرف جوهرها بعد أن يتعقلها العقل ولعل هذه المقاربة كانت دليل أبي حامد الغزالي (ت 505 هج/ 1111 م) في كتابة مصنفه الضخم "إحياء علوم الدين"(6). إن التحليل اللفظي والنحوي والأسلوبي للمقاطع القرآنية التي تحتوي على فعل "عقل – يعقل" وما جاورها في الاشتراك الدلالي يكشف عن فعالية الإدراك والتصور لدلالات متعالية يقوم بها وعي لا يتجزأ. هذه الدلالات تجسدها عبارات ذات تلوينات عاطفية واضحة من مثل: لا يتفكرون، لا يتذكرون، لا يفقهون، لا يشعرون،... وهي عبارات بعيدة عن الفهم المنطقي الذي يطابق بين الفكرة الواضحة والحقيقة الخارجية بصفتها حقيقة واقعية. إنها ألفاظ ترد عادة بعد التذكير بنعم الله على البشر وبعد تدخل الإله في تاريخ النجاة الأخروي، إنها مساحة تتيح للمؤمن الاندهاش والتعجب والاستحسان والتأمل حتى يعيش مستذكرًا دومًا رابطة الميثاق- العهد مع خالقه. إنها الرابطة التي تقتضي من الإله أن يرسل نعمه وعنايته إلى البشر وتقتضي من الناس أن يرسلوا إليه الطاعة المنتظرة طبقا للميثاق.

إن القرآن يؤسس للبشر نوعًا من العلاقة الترابطية والتواصلية بين ما هو واقعي ومحسوس وبين ما هو مدهش، عجيب ومتعال، مستندًا في ذلك على مخيال فعال قادر على ردم الهوة ما بين الرموز الدينية وتعبيراتها المجازية من ناحية وبين الواقع المعيش حتى يسهل اندماج الكائن في العالم المخلوق.(7) إن كل المفردات المتعلقة بالزمان والمكان تلقى في القرآن تعاملاً مخصوصًا بسبب الدور الذي تلعبه في تنظيم أمور العبادة ودخلنة الشعائر و استبطان الطقوس بغرض صياغة رؤية المؤمن لنفسه وللعالم وللذات الإلهية، يقول تعالى: "ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب."(8)

إن القرآن باعتبار أنه خطاب ذو بنية أسطورية - أي قائم على لغة مجازية واستعارية - يحول العمل المادي/المحسوس الذي قام به النبي محمد صلى الله عليه وسلم عندما قام بترميز une symbolisation الفضاء الاجتماعي التاريخي الخاص بمجتمع الحجاز، أي تحويله إلى نوع من التصورات الأسطورية لتلك اللحظة الخلاقة بحيث تصبح دلالاتها قادرة على اختراق الأمكنة والأزمنة. والمقصود بالترميز خلق مناخ رمزي وشعائري جديد لكي يحل محل الرموز التي سادت الجزيرة العربية في المرحلة السابقة للحدث القرآني.(9) ويستعمل القرآن لهذا الغرض باقتدار كبير تقنية أدبية عالية من أجل أسطرة une mythologisation  الأحداث الواقعية المحسوسة وتحويلها إلى نماذج لتاريخ النجاة des archétypes de l'histoire du salut. إن هذا النوع من المخيال/ المتخيل الذي يعمل القرآن على انشائه هو مخيال ديني un imaginaire religieux  مركب من الصور المتعالية التي تستند إلى دعامة واحدة هي اللغة الدينية وهذا يعني أن الصور ما إن تستبطن بواسطة الإستذكار المتكرر للغة المحفوظة عن ظهر قلب وبواسطة الشعائر الدورية، حتى تخلع على المخيال/المتخيل قدرة دائمة على تمثل الأشياء المحسوسة أو الذهنية المطلوب دخلنتها، هكذا يقدم المخيال الديني نفسه بصفته مجمل العقائد المفروضة والمطلوب إدراكها وتأملها بل عيشها وكأنها حقائق لا تقبل أي تدخل للعقل النقدي، بل على العكس يصبح العقل في هذه المناخات مصدرًا للزندقة والانحراف والضلال إذا لم يقبل بأن يصبح كليًا الخادم المطيع للمخيال الديني.

3 – من المخيال الديني إلى المخيال الاجتماعي

في المجتمعات التي تسيطر فيها التصورات الدينية وتغزو كل مناحي الوجود البشري نجد أن المخيال الديني ينتهي بأن يتطابق مع المخيال الاجتماعي كليًا. فالمخيال الديني الملتصق باللغة الدينية ينجز مخيالاً جديدًا هو مخيال اجتماعي تاريخي سوف يقود عمليات الفهم والتصور والدمج الاجتماعي إضافة إلى تنظيم السلوك الفردي والجماعي للأجيال القادمة. ويبدو أن الحج الروحي هو أحد التجليات للمخيال الديني في المجال العربي الإسلامي وهي فرضية محتملة حين يتعذر إقامة الحج الشرعي لسبب من الأسباب وقد طرح أبو حيان التوحيدي (ت سنة 414 هـ/ 1023 م) هذا الاحتمال في كتابه "الحج العقلي إذا ضاق الفضاء عن الحج الشرعي" للأسف فإن هذا الكتاب قد ضاع وقد عرف عن التوحيدي انخراطه في تيارات التصوف والفلسفة والأدب. فالهدف من هذه الدعوة هو استبطان القيم الروحية للحج دون أن ينفي حينئذ وجوب الانجاز الشرعي للحج ومع ذلك فقد آتهم التوحيدي بالزندقة.(10) كما يعد كتاب "إحياء علوم الدين" للغزالي حسب ما يذهب إليه محمد أركون مجالاً خصبًا لدراسة المخيال في الفكر الإسلامي يقول: "إن تناول الغزالي لفرائض الإسلام تناولاً جديدًا جعل منها أسرارًا وحقائق مخفية تقتضي استحضار حساسية ملكة الخيال عند المؤمن، فالجهد الذي يبذله المؤمن لاستبطان الشعائر يسمح باكتشاف العالم الروحي والباطني وهذا العالم موجود بفضل المخيال الناشط الذي من خلال الحركات والأشياء والملفوظات المحسوسة يحين الرؤية الاستباقية للآخرة وهنا نمسك بالوظيفة النوعية للدين الذي ينظم الحياة الدنيا حسب الحقيقة الروحية للموت. فالموت مندمج في هذه الحياة لأنه يفتح الطريق على الحياة الأخرى وهو الذي يغذي الشوق والحنين إلى الله والرغبة الجامحة في البقاء عند كل إنسان لذلك تكون اللغة الدينية بما هي دعاء وصلاة وشعائر وتضحية، صحيحة لأنها تملأ الأمل في الحياة الخالدة وفي الحاجة إلى المشاركة في الكائن المطلق."(11) إن تشكل المخيال وتوسعه، ظهر أيضًا من خلال إعادة ترميز الفضاء المعنوي والزمني للبيت المقدس، الكعبة وما يحيط بها، وهذا يقتضي إعادة قراءة كل الآيات المتعلقة بإبراهيم وإسماعيل ويعقوب وربطها ببيت الله المقدس. إن حكاية تأسيس الكعبة مألوفة بالنسبة للوعي العربي المشرك وقد استعيدت من قبل القرآن ووسعت ووضعت ضمن منظور تاريخ النجاة الأخروي الذي يقوده الله الواحد الحي والمعروف جيدًا في التراث التوراتي ويمثل تاريخ النجاة نوعًا من الزمن الديني المنسجم والمقدس وهو يشمل الزمن الأخروي، إنه غير الزمن الطبيعي الواقعي المحسوس للبشر الذي هو زمن غير منسجم ومتقطع ومتغير. إن إطلاق العنان للمتخيل/المخيال في المجال الديني من شأنه أن يضرب أركان الدين والعبادات وخاصة عملية تمثلها، فكان لزامًا كبح هذا الجموح المنفلت من عقاله حتى لا يتحول الدين إلى نوع من التأملات/التهويمات، لذا سارع الإسلام الأرثوذكسي- الرسمي إلى التدخل لضبط حدود ما يسمح بتخيله وما لايسمح به في استعمال ملكة المخيال/ المتخيل حفاظًا على المؤسسات الدينية التي تعمل على ضبط التوازنات الاجتماعية وعلى استمرار الدين في إضفاء الشرعية على كل ما ينتجه المجتمع من ظواهر ثقافية وفكرية واجتماعية. لقد كان موقف المؤسسة الدينية الرسمية صارمًا في التصدي لشطحات المتصوفة نتذكر جيدًا محنة الحلاج (ت 309 هـ/ 909 م) وكذلك موقفها مما كتبه القاضي سعيد القمي، المفكر الإيراني (ت 1103 هـ/ 1693 م) الذي عمل على إدخال عالم الصور المؤسس بفضل القوة المصورة la figuration de l'imagination في تمثل شعيرة الحج وبذلك يكون قد وضع بصمته في مجال التوسع السيميائي للقرآن في التراث الثقافي الإيراني الشيعي، فالقاضي لم يقتصر على الغوص في أسرار الحج ولا على تأملات حول الموت، بل إنه أسقط على الشكل الهندسي للكعبة أي أركانها الأربعة كل المبادئ والمقولات الرئيسية للمعرفة الإسلامية في نسختها الشيعية.(12) فما كان من المؤسسة الرسمية الأرثوذكسية إلا أن رفضت شهادته بدعوى هذيانه الغنوصي. ما يهم الباحث هو تتبع الدروب التي يسلكها المخيال من خلال كل الانتاجات السيميائية المتصلة بظاهرة الحج في الوعي الإسلامي.

يعتبر العجيب المدهش مغذيا للمخيال/ المتخيل، إنه الحيرة التي تستبد بالإنسان بسبب عدم قدرته على معرفة علة الشيء أو سببه كما يذهب إلى ذلك أبو عبدالله بن زكريا القزويني (ت 682 هـ/ 1283 م) في كتابه "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات" إنه التجلي الكبير للعقل العلوي المتعالي الذي لا يمكن سبره و هو ما يسميه المسلمون بالغيب الذي يؤسسه الخطاب القرآني ويفرض على المؤمن الإيمان به عن طريق الوحي. فالمؤمن الذي يترك نفسه تخترق بجمال كلام الله وغناه وبالقيمة الإعجازية للخلق الأعظم ثم تندمج فيه فيتمثل بشكل عاطفي واستبطاني وجود الله الحي الخالق. فالعجيب المدهش أو الغريب الساحر أو الخارق للطبيعة ثابت أنتروبولوجي موجود لدى كل البشر في كل الأوساط الاجتماعية والثقافية مثله مثل البعد العقلاني والواقعي وكل تغافل عنه أو طمسه سوف يقود إلى معرفة مشوهة وناقصة.

الخاتمة:

 إن الباحث الأنتروبولوجي في المخيال قد أولى عناية فائقة إلى الكليات، إلا أن المؤرخ كان يسعى إلى ربط هذه البنى بالأطر التاريخية فاختلفت وجهات النظر وطرق مقاربة هذا المبحث، وقد تجلى هذا الاختلاف ببن مدرستين في دراسة المتخيل: مدرسة جلبار ديران Gilbert Durant  التي تعتقد في ثبات البنى و استمراريتها ومدرسة ثانية يتزعمها المؤرخ جاك لوقوف Jacques Le Goff التي تؤمن بالاختلاف وتغير البنى بفعل التاريخ. لقد عملت بعض الدراسات الحديثة المهتمة بالمخيال وبالبحث في تاريخه، إلى تجاوز الرؤية الثنائية: واقع – متخيل، ليصبح المتخيل متمازجًا مع الحقيقة الخارجية، فالمتخيل أضحى بعدًا من أبعاد الإنسان يتجلى في كل انجازاته. فالإنسان كائن رامز تحركه أحلامه ورغباته ومخاوفه وإستيهاماته، لذا يظهر المتخيل في مختلف أعمال الإنسان ومشاريعه وإن لبست هذه المشاريع لبوس العقلانية. فالماركسية باعتبارها فكرًا ثوريًا نقيضًا للإيديولوجيات المتجمدة، حاربت الفكر الديني المتكلس وهدمت أسس البرجوازية المتسلطة، غير أن هذا الفكر الثائر على كل أنواع الأساطير لم ينج من فخ الأفكار التي لها وثيق صلة بسحر العالمl' enchantement du monde ، فالمجتمع الشيوعي الذي بشرت به الماركسية النظرية أو التطبيقية على حد سواء، كما بشرت الأديان بالعالم الأخروي، لا يمكن أن يكون إلا من الطوباويات، فهو بمثابة الفردوس المفقود، فليست الماركسية من هذا المنظور إلا ألفانية معلمنة un millénarisme sécularisé 13.

 

الهوامش والتعليقات:

1 – André Virel, Dictionnaire de psychologie, Paris,1977, p.35

2 – voir Gilbert Durant, Les structures anthropologiques de l'imaginaire  , Paris, 1978.

3 – محمد أركون، " الإسلام عالم وسياسة " مجلة الفكر العربي المعاصر، بيروت، عدد 47 / 1987، ص 17.

4 – ن . م ص 16

5 – لقد تواتر استعمال كلمة "قلب"، "قلبان" و"قلوب" أكثر من 126 مرة في القرآن.

6 – أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، الناشر دار المنهاج- جدة، ط 1 ،1432 ه، عدد الأجزاء: 10.

7 – الكائن في العالم المخلوق، مفهوم يخص المؤمن الذي يعتقد ببداية لهذا العالم وبنهاية له، في حين أن مفهوم الكائن في العالم يخص أولئك الذين يعتقدون بأن العالم أبدي وأزلي، أي غير مخلوق.

8 – سورة الحج/ الآية 32.

9 – محمد أركون، الفكر الإسلامي قراءة علمية، مركز الإنماء القومي، بيروت، ط 1 ،1987، صص 68 – 69.

10 – Mohamed arkoun , Lectures du Coran, ed Maisonneuve et Larose, Paris, 1982, p.168.

11 – Ibid, p .168

12 – voir Henri Corbin , " La configuration du temple de la Kaaba, comme secret de la vie spirituelle " in Eranos - jahrbuch,1965/ xxxiv.

13 – voir Lucien Boia,Pour une histoire de l'imaginaire, vérité des mythes, collection dirigée par Bernard Deforge,Paris, Les Belles

هذا الكتاب الهام قدم له باسم المكي، قراءة نشرت بموقع مؤمنون بلا حدود، قسم الدراسات الدينية، بتاريخ 01 يوليو 2020.


عدد القراء: 2552

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-