العالم وآفة التطرف الدينيالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-02-01 10:45:28

د. عبد الإله حاجي

جامعة سيدي محمد بن عبدالله بفاس، المغرب

يشهد العالمان الإسلامي والغربي موجة من أعمال العنف الخارجة عن الشرعية والقانون والدين، والتي ترعب وتخوف الآمنين وتلحق بهم أضرار جسيمة ونفسية. فهذه الظاهرة استفحلت في السنوات الأخيرة، وأساء ممارسوها إلى الإسلام بشكل أثر سلبًا على العلاقة بين الشرق والغرب، التي هي علاقة متأزمة أصلاً. إلا أن سوء تطبيق الإسلام لا يعني أنه دين عنف وجور وظلم.

"فسوء تطبيق المبدأ لا يعيب المبدأ نفسه، ولكنه يعيب الذين طبقوه. فمحاكم التفتيش مثلاً، ليست هي المسيحية بما فيها من رحمة ومحبة وتسامح وفداء. وبعض الذين يرفعون راية الإسلام وينفخون أوداجهم ويجاهدون في سبيله بحناجرهم، أو الذين يسفكون دماء الأبرياء والأطفال والنساء، هؤلاء يبرأ منهم الإسلام ويستعيد من سلوكهم. وقد أفسدوا علينا ديننا، وشوهوه عند من لا يعرفه، وأمدوا أعداءنا بأسلحة يطعنوننا بها. فالحكم على الإسلام من خلال هؤلاء، هو حكم تعميمي غير صحيح في مقياس الواقع لا في مقياس المنهج العلمي1.

فالتطرف والعنف والإرهاب لم تعد تذكر مجردة، بل لا بد أن تنسب إلى العرب والمسلمين وتقرن بهم. فالتطرف إسلامي والعنف والإرهاب إسلاميان، وكل ذلك مرتبط بالجماعات المسلحة. وهكذا أغفل الإرهاب الصهيوني، وهو أصل الإرهاب والتطرف في القديم والحديث. وأغفل التطرف والإرهاب في بعض الطوائف المسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية، وهما من أشد الأنواع في عالم التطرف والإرهاب. وأغفل التطرف والإرهاب الكاثوليكيان في أيرلندا الشمالية وفي كرواتيا وما تقوم به تلك الطائفة من أعمال القتل والنسف والتدمير. وأغفل ذكر الإرهاب الغربي الأرثوذكسي. هذا كله ليس له ذكر ذو بال، إذ يمر عليه مرورا عابرًا أو يغفل إغفالاً. أما الذي يجب أن يذكر دائمًا فهو التطرف الإسلامي والعنف الإسلامي والإرهاب الإسلامي. كأنما هذا كله من صميم الإسلام وجوهره، وأما في غيره فهو عرض زائل أو طارئ. وصارت هذه الصفة الإسلامية مدرجة وذريعة للطعن على الإسلام نفسه2.

فمظاهر التطرف ومخرجاتها تثير التباسا نظريًا وعلميًا، بعضها يعود إلى القوى الدولية الكبرى والأخرى إلى قوى التطرف المحلية، التي تستند إلى تفسيرات وتأويلات تنسبها إلى الإسلام، لا سيما بالعلاقة مع الآخر بما يمكن تصنيفه بالإسلامفوبيا "الرهاب من الإسلام"، في محاولة لتعميم وربط بعض الأعمال الإرهابية والمتطرفة بالإسلام والمسلمين3. فالإرهاب ظاهرة مميزة من مظاهر العنف السياسي ولم تخل منه أمة من الأمم أو شعب من الشعوب. إن الإرهابيين سواء كانوا من القرون السابقة أو القرن الحالي يعشقون استعمال تعبيرات لطيفة رومنطيقية خيالية لوصف أعمال القتل الإجرامية التي يقومون بها ويدعون أنهم مجاهدون، أو أبطال ثوريون مصلحون. مع ذلك يرتكبون أعمالاً جبانة، ويفتقرون للصفات البطولية الإنسانية وللشهامة وكرم الأخلاق. يعترفون بأنهم جنود ثوريون، ومع ذلك فإنهم يهاجمون فقط عن طريق التسلل، ويقتلون الأبرياء ويشوهونهم، ويحتقرون جميع القواعد والمعاهدات والمواثيق والأعراف الدولية المقررة في الحرب.

فالإرهابيون يطالبون بتحقيق التحرر بينما هم في حقيقتهم يريدون السلطة لأنفسهم. بعضهم يدعي أن العنف الذي يقومون به يجلب لهم الشرف ويرفع من مكانتهم، بينما يؤكد التاريخ العربي الإسلامي وتاريخ العالم أن الأعمال الإرهابية مدمرة تمامًا، سواء كانت صادرة عن السلطة أو عن المنظمات الإرهابية الشعبية. وتنعكس نتائجها في النهاية ضد المجتمع نفسه. إنهم يعترفون مرارًا أنهم يريدون العدالة والشرعية، بينما هم في الحقيقية يشنون حربا ضد جميع القيم الأخلاقية وضد الشرعية، ويسعون إلى استبدالها بحكم استبدادي4.

1: الجذور التاريخية للإرهاب

إن الإرهاب- أيا كان مصدره أو الدين الذي يلصق به- هو بالمعنى الواسع للكلمة، قديم قدم الإنسانية نفسها. فقد كان البشر يسلبون ويقتلون بعضهم بعضًا منذ فجر التاريخ. ويعود الإرهاب، بمعناه الأكثر خصوصية إلى حقبة ما قبل العالم الحديث. ففي تلك الحقبة، ظهر مفهوم المقدس إلى الوجود، وكانت فكرة الإرهاب بنحو مرجح وثيقة الصلة بفكرة "المقدس" الغامضة. وسبب غموض كلمة مقدس أنها يمكن أن يمكن أن تعني المبارك أو الملعون، أو المقدس. وقد ظهرت في الحضارة القديمة أشكال من الإرهاب خلاقة ومدمرة في آن واحد، مانحة للحياة ومبددة لها. فالمقدس خطير، إذا وضع في قفص بدلاً من علب زجاجية. ربما كانت الصلة بين الإرهاب والمقدس بنحو خاص وحتى مضلل، غير مرئية في إرهاب زمننا. إذ ليس هناك معنى مقدس بوجه خاص في قطع رأس شخص ما باسم الله الرحمن الرحيم، أو في حرق الأطفال العرب بقنابل الطائرات باسم قضية الديمقراطية. غير أنه من المتعذر أن نفهم تمامًا فكرة الإرهاب دون أن نفهم أيضًا هذه الثنائية. فالإرهاب يبدأ كفكرة دينية، كما هو الحال في كثير من إرهاب اليوم، ويتعلق الدين بالقوة المتناقضة التي تنعش الحياة وتدمرها في آن واحد5.

فالتطرف ظاهرة راهنة وإن كانت تعود إلى الماضي، لكن خطورتها أصبحت شديدة في ظل العولمة، ولها تجاذبات داخلية وخارجية، لأن التطرف أصبح كونيًا ولا ينحصر على مجتمع دون آخر. فهو يرفض الآخر ولا يقبل به، ويسعى إلى فرض الرأي الواحد بالقوة والعنف.

2: جدلية التطرف والإرهاب

يمكن القول إن كل تطرف ينجم عن تعصب لفكرة أو رأي أو أيديولوجية أو دين أو طائفة أو قومية أو إثنية أو سلالية أو لغوية أو غيرها. ولكن مهما اختلفت الأسباب وتعددت الأهداف، فلا بد أن يكون التعصب وراءها. وكل متطرف في حبه أو كرهه لابد أن يكون متعصبًا، لا سيما إزاء النظر للآخر وعدم تقبله للاختلاف. فكل اختلاف حسب وجهة نظر المتعصب يضع الآخر في خانة الارتياب وسيكون غريبًا، وكل غريب أجنبي، وبالتالي فهو مريب، بمعنى هو غير ما يكون عليه المتطرف.

أما الإرهاب فإنه يتجاوز التطرف، أي أنه ينتقل من الفكر إلى الفعل. وكل إرهاب تطرف. ولا يصبح الشخص إرهابيًا إلا إذا كان متطرفًا، وليس كل متطرف إرهابيًا. فالفعل تتم معالجته قانونيًا وقضائيًا وأمنيًا، لأن ثمة عمل إجرامي تعاقب عليه القوانين، أما التطرف ولا سيما في الفكر فله معالجات أخرى مختلفة. وهنا يمكن قرع الحجة بالحجة ومحاجة الفكرة بالفكرة والرأي بالرأي. كما أن بعض التطرف الفكري قد يقود إلى العنف أو يحرض على الإرهاب6.

ويقابل مصطلح التطرف في الشرق، مصطلح الأصولية في الغرب، وهو تعبير شاع استخدامه في الأوساط الغربية للدلالة على ظاهرة التطرف أو السلفية أو العودة إلى النصوص المقدسة. وإذا كان للغربيين عذرهم في رفض هذا الاتجاه، لأن العودة إلى الكتب المقدسة عندهم تعني العودة إلى الجهل والخرافة ومعاداة التقدم نظرًا لما أصاب هذه الكتب على يد الأحبار والرهبان من العبث والتحريف الفاحش، فإن الأصولية في العالم الإسلامي ينبغي أن تكون على النقيض من ذلك7.

3: أنواع التطرف

يشمل التطرف الأفراد والجماعات والدول. وهناك من قسمه بالنظر إلى عنصر الدين على النحو التالي:

التطرف العلماني: العلمانية في أصلها هي دعوة إلى فصل الدين عن الدولة، ولكنها قد تتحول إلى محاربة الدين، ومحاصرة لجميع أشكال التدين، مما يجعل من بعض الدول نماذج للتطرف العلماني. حيث تعد الدين من الجرائم السياسية التي يجب محاربتها والقضاء عليها. ومن نماذجه، التيارات الاستئصالية في بعض الدول العربية والإسلامية. فهذه الدول ترفض رفضًا باتًا كل حضور للإسلام في مختلف مجالات الحياة، وتسعى إلى استخدام الدولة في معاصرة مظاهر التدين.

التطرف المسيحي: وهو نوع آخر من التطرف لا يعترف بالآخر. ولا يحق لبشر أن يختلف مع قانون الإيمان المسيحي الذي يتزعمه الكنيسة الكاثوليكية، ويعرف عند الأوربيين باليمين المسيحي المتشدد، الذي يعلو صوته كثيرًا في قضايا الهجرة. وتشكل الإدارة الأمريكية اليوم "المحافظين الجدد"، نموذجًا آخر للتطرف المسيحي الذي يرى أتباعه أنهم مكلفين فقط بمهمة ملكوت السماوات. وترجع جذور التطرف المسيحي إلى الإمبراطورية الرومانية، حيث قام العنف المسيحي بإرهاب كل مخالف عقائديًا من اليهود والوثنيين من جهة والمسلمين من جهة أخرى.

إن المثقفين الغربين اعترفوا قبل غيرهم بما ارتكبته الكنيسة في حق الآخر خصوصًا مسلمي الشرق. حيث يقول كافين رايلي في كتابه "الغرب والعالم": "لقد ظلت النزعة العدوانية الغربية مقبولة ثقافيًا لمدة بلغت من الطول حدًا لا يسمح لها بالاختفاء... غير أن حضارتنا كانت أشد حرصًا على إعادة توجيه عدوانيتنا في أنواع من النشاط الاجتماعي المفيدة. فكلما سمحت لنا الظروف نستعيض عن الحرب بالتجارة والاستكشاف والتنافس. كما أننا جعلنا الحرب أمرًا يستحق الاحترام بأن أضفينا عليها هدفًا أخلاقيًا ساميًا. إننا يجب أن نلجأ إلى مزيد من المبررات المثالية لحروبنا ويجب-على نحو أشد من الرومان- أن نجد طريقة تجعلنا نطلق عليها اسم الحرب الدفاعية. ولا بد لنا من الاقتناع بأننا نضحي في سبيل غيرنا. وهذا يقتضي الاقتناع بأن الآخرين مهددون بقوة خطيرة تكاد تكون شيطانية وأننا الحماة المصطفون للتهذيب والفضيلة والخير. وقد تعلمنا أن نجعل حروبنا مقدسة بأن نصبح جنودًا مسيحيين. وقد اتضح لنا أن التدخل المسيحي كان يؤدي أحيانًا إلى تهدئة الأهالي لا إلى تهييجهم. وكثير من العادات البربرية الأكثر همجية قد هذبت بتدخل الكنيسة. لقد اكتسبنا القدرة قبل الحروب الصليبية بعهد طويل على تبرير أشد أفعالنا بربرية باسم الله أو باسم الحضارة المسيحية أو باسم العالم الحر.8"

التطرف اليهودي: وأبرز أمثلته، الحركة الصهيونية العالمية التي تأسست على العنصرية. حيث تمارس الاغتيال السياسي وهدم البيوت والمذابح المنظمة لأجل بناء الدولة اليهودية.

التطرف الإسلامي: وهو الذي ينتمي أهله إلى أمة المسلمين الذين يظهرون اليوم وكأنهم رسل يتحدثون عن الإسلام والمسلمين دونما علم أو فقه.  وتضم كل التيارات الفكرية المتشددة في العالم الإسلامي (كالأصولية والشيعة والخوارج والدولة الإسلامية، داعش، وغيرها)9.

يلامس التطرف الديني كافة المجالات، العقلية والوجدانية والحسية. وتظهر حدة التطرف الديني، بالانتقال بالمذهب الديني إلى طرف بعيد عن الوسطية. فالمتطرفون يرفضون كل رؤية متجددة من شأنها أن تحسن من وضع المجتمع على اعتبار أن المعرفة الدينية هي اليقين والعلم المطلق. لذلك نجد أن المتأخرين في كل علوم الدين، هم الشعوب المتدينة الذين يعتبرون أن المساس بجميع الشعائر العبادية والتعبدية يعتبر كفرًا وخروجًا عن الملة. وبهذا يتم استبعاد العلوم اليقينية التي تقوم على  الجواب الصحيح. ونتيجة لتلك المظاهر، ظهر أناس يجهلون أبسط مصادر المعرفة بالعلوم الشرعية، لأن الأصل في ذلك هو التعصب الظلامي والعصبية للفكرة لا للدين، لأن الدين في حقيقته جاء ليرفض كل عصبية.

4: سيكولوجية التطرف الديني

إن التطرف ظاهرة عالمية عابرة للدول تحت عناوين التعصب الديني والإرهاب، وبمضامين أخرى متنوعة، كتغيير النظم السياسية وإسقاط الحكومات. وهي معضلة أرقت العديد من الحكومات في دول العالم الثالث فضلاً عن الغرب الأوربي عندما أصبحت تمثل تهديدًا حقيقيًا للاستقرار الداخلي والأمن الوطني. وبسببها تكبدت كثير من دول العالم خسائر كثيرة، ليس في الأرواح فحسب، بل أيضا في حرمانها من استكمال مسيرة البناء والتشييد، والاستثمار في حقول المعرفة المختلفة.

عندما تفتقر بعض الدول إلى التنظيم الإيجابي وتوحيد المواقف لمواجهة الظواهر السالبة وما يعيق استقرار مؤسساتها وأمن مواطنيها وسلامتها، حينئذ ينعدم الإصلاح والتغيير، ويكثر الانحراف. لذلك، فالمرجعية الدينية في كل الأديان السماوية تمثل منبرًا رسميًا لإرساء قواعد التوحيد الداعية إلى الوسطية والاعتدال. ومن ثم يقطع الطريق أمام العابثين بمصائر الأمة.

إن وجود المرجعيات الدينية في شقها العلمي تسهم في وأد التطرف الديني في مهده والتقليل من تأثيراته السلبية، وكذلك يساعد على تصحيح المفاهيم، والأفكار والأيديولوجيات التي تقف من وراء التطرف وإزالة ما يثيره من شبهات على مستوى الفكر والعقيدة والمنهج والسلوك. لذلك فمن الخطأ الربط بين مظاهر التطرف، والأصولية في أي دين سماوي، لأن استباحة الدماء واستحلال الأعراض والأموال باسم الدين كشريعة، أو باسم التدين كممارسة للشريعة، ليس من الدين في شيء. فالمشكلة في أساسها تكمن في سوء فهم تعاليم الدين والتطرف في تطبيقها والتشدد في ممارستها. فالأديان السماوية جميعها تبرأ من ذلك وتنبذه ولا تدعو إليه10.

5: أسباب ومظاهر التطرف الديني

إن التطرف الديني لم يأت اعتباطًا، بل له أسبابه ودواعيه. ومعرفة الأسباب  ضرورية وغاية في الأهمية للبحث عن سبل العلاج وطرائق استئصال هذا الفكر من المجتمع. فأسباب نشأة هذا الفكر متشابكة ومتداخلة، حيث أنها ظاهرة معقدة، تتداخل فيها الأسباب النفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها. وقد تنتج عن عوامل خارجية مرتبطة بالتغيرات العالمية.

1-5: العوامل الداخلية:

سياسيًا:

إن غياب الحرية والديمقراطية، وشيوع الفساد والاستبداد في معظم الدول العربية قد شكلت البيئة الخصبة لنمو وانتشار الأفكار المتطرفة. كما لصعود جماعات الإسلام السياسي في البلاد العربية وصراعها المرير مع القوى والجماعات المغايرة بأيديولوجيتها، والخلافات العميقة حول الكثير من القضايا السياسية والاجتماعية والدنيوية والدينية وملاحقتها ومحاربتها بقسوة من قبل الأنظمة السياسية الحاكمة وتضييق الخناق عليها وحرمانها من أبسط حقوقها، ترك المجال لإعادة ترميم بيئة التطرف في البلاد العربية11. وهذا ما يؤدي إلى إحباط سياسي. حيث أن "كثيرًا من البلدان العربية والإسلامية لم تكتف بتهميش الجماعات الإسلامية وعدم الاكتراث لها، بل وقفت في وجهها، وتصدت لأربابها وحصرت نشاطها، وجمدت عطاءها، حتى في بعض البلدان التي تدعي الديمقراطية وحرية الرأي. فإن هذه الأمور إذا جاءت في صالح تيار إسلامي، أو جماعة إصلاحية، فسرعان ما يتحول الأمر إلى المنع والقمع والتصدي والتحدي، مهما كانت الجماعة معتدلة والتيار متسامحًا والحزب متنورًا12. كما أن عدم وجود تعددية سياسية وتداول حقيقي على السلطة يؤدي إلى حرمان القوى السياسية والاجتماعية من التعبير السياسي الشرعي، وإلى تجاهل مطالب الأقليات13.

إن فئة الشباب هي أكثر الفئات العمرية التي تنساق إلى الفكر المتطرف، وتتبنى العنف لترعرعها في بيئة مناسبة، تحس فيها بالتهميش والإقصاء. فالعجز عن الحوار مع جيل الشباب، وعدم إفساح المجال له كي يعبر عن نفسه ويخدم بلاده، يجعل الكثير من الشباب ضحية هذا العنف المؤسسي، فتنمو في أوساطهم ظاهرة التطرف الديني. ومن الملحوظ أن هذا العنف المؤسسي، يشتد مع تعثر هذه النظم في تحقيق أهدافها المعلنة في التنمية الاقتصادية والتعددية السياسية14.

اجتماعيًا واقتصاديًا:

اختلفت تفسيرات علماء الاجتماع لظواهر التطرف كل حسب مرجعيته. فنجد الوظيفيين أمثال كايم وبارسونز وميرتون قد ربطوا ظواهر معتلة كالتطرف إلى وجود خلل بنائي داخل النسق الاجتماعي، ممثل بفقدان اندماج الفرد بالجماعات الاجتماعية والثقافة السائدة، مع ضعف آليات الضبط والقواعد المنظمة لسلوك الفرد وتفكك المنظومة القيمية والأخلاقية في المجتمع. فتنتج هذه الظروف قيمًا مضادة، فتولد السلوك المنحرف غير المألوف في فضاء الأعراف والمعايير المجتمعية. وهذه حالة تعبر عن عدم قدرة المؤسسات على تلبية حاجات الأفراد والجماعات وطموحاتها، فتتشكل حالة التطرف الفكري لديهم15.

ويغذي هذا السلوك، حالة الفقر والبطالة والحرمان التي يعيشها أصحاب الفكر المتطرف، بسبب الفساد الاقتصادي والتوزيع غير العادل للثروة والسياسات التقشفية التي يفرضها صندوق النقد الدولي، وما يصاحبها من استفزازات، مما يزيد الأمر استفحالاً وانتشارًا. فيرفضون قبول الآخر المختلف دينيًا، والتواصل والحوار معه.

نفسيًا:

إن البناء السيكولوجي للفرد يلعب دورًا مهمًا في تفاعله مع مجتمعه. وقد أظهرت ذات الصلة أن النمو الجسمي والعقلي والانفعالي المضطرب، والبيئة الاجتماعية غير السلمية لها علاقة مباشرة بالتطرف. حيث يؤدي التدهور النفسي والفراغ الروحي الذي يعاني منه الشخص إلى ضغوطات نفسية كبيرة، ينتج عنها الشعور بالكراهية تجاه المجتمع الذي يعيش فيه. فقد يكتسب الفرد الصفات النفسية من البيئة المحيطة به، سواء من محيط الأسرة أو في محيط المجتمع. فكل خلل في ذلك المحيط ينعكس على سلوك ذلك الفرد وتصرفاته حتى تصبح جزءًا من تكوينه وتركيبه النفسي. وقد يكون سبب العنف والتطرف، الفشل في التعليم الذي يعد صمام الأمان في الضبط الاجتماعي ومحاربة الجنوح الفكري والأخلاقي لدى الفرد. وأن الفشل في الحياة يكون لدى الإنسان شعورًا بالنقص، وعدم تقبل المجتمع له. وقد يكون هذا الإحساس دافعا للإنسان لإثبات وجوده من خلال مواقع أخرى، فإن لم يتمكن، دفعه ذلك إلى التطرف16.

فكريًا:

لقد برز في العقود الأخيرة اتجاهات فكرية، وتيارات أصبحت تؤسس لنفسها مدارس فكرية تقوم أساسًا على مخالفة ما تجمع عليه الأمة. وبالتالي تعمل على نشر فكرها من خلال وسائل شتى، خصوصًا بين النشء والشباب حيث تجد ميدانًا خصبًا. فهذه التيارات تدعي الحق المطلق، أي أن فئة أو متبعي مذهب أو دين يدعون أنهم يملكون الحق المطلق في مسايرة الناس، ولا يدركون أن الحق واحد لكن له أوجه متعددة. الأمر الذي يؤدي إلى رفض سنة الاختلاف والنزوع إلى الإقصاء17.

إن الانحراف الفكري لهذه التيارات هو سلوك غير سوي يماثل السلوك الإجرامي، لأنه يفضي إلى قتل الأبرياء. ولا يفرق بين الشيوخ والنساء والأطفال. وكذلك لا يفرق بين مدني وعسكري. ولهذا، لا يعد الانحراف الفكري جريمة فكرية وقانونية وشرعية فحسب، وإنما يسيء إلى عقيدة الأمة الإسلامية. وكذلك هو سبيل لنشر البدع والفتن بين المسلمين. وفيه تشويه لصورة الإسلام الصحيحة المتمثلة في الوسطية والاعتدال البعيد عن التطرف والغلو18. فهذا الانحراف الفكري مظهر من مظاهر الجهل بالدين وأًصوله وقواعده ومقاصده. "فالنظرة السطحية للدين من أكبر أسباب التعصب والتطرف. فترى المتمسك بالدين بشكل سطحي يبتعد عن روح الدين ومقاصده التي جعلها الله هدفًا لوجود الإنسانية. فترى الجاهل يتمسك بأمور لم يأمر بها الدين ظانًا أنها من الدين. فعلماء المسلمين منذ عصر التدوين إلى اليوم يختارون ما يريدون إبلاغ العامة به فقط، ويتركون أجزاءً كثيرة من التراث في بطون أمهات الكتب بعيدة عن وجدان عامة المسلمين19. فالفهم الخاطئ للدين ومبادئه وأحكامه، والإحباط الذي يلقاه الشباب نتيجة افتقارهم إلى المثل العليا التي يؤمنون بها في سلوك المجتمع أو سياسة الحكم، والفراغ الديني، يعطي الفرصة للجماعات المتطرفة لشغل هذا الفراغ بالأفكار التي يروجون لها ويعتنقونها20.

إن المتأمل لحال المجتمعات الإسلامية اليوم، يجد تيارات متناقضة يموج بها المجتمع، وهي في الوقت ذاته تتجاذب الشباب سعيا لاحتوائه حتى يفقد السيطرة على نفسه. فهذا غلو في الدين وتشدد في فهم أحكامه. وذاك تيار آخر قد تحلل من الدين ومن القيم الأخلاقية. ولابد من مواجهة هاتين الظاهرتين أو التيارين معًا، وذلك بالكشف عن مدى الخطر الذي يصيب الدين نفسه، ويضر بالأمة كلها من جراء الفهم الخاطئ للدين أو التحلل من تعاليمه السمحة الصحيحة. ولابد كذلك من الكشف عن المفهوم الصحيح للتدين حتى يكون هذا المفهوم، في صفائه ونقائه في ذاته وفي مصدره، عامل جذب لكلا التيارين ومصححًا لمسيرتهما في الحياة21. فهذه التجاوزات الفكرية، عندما تتجاوز حدها، لتكون تيارًا حادًا، يعبر عن نفسه بالعنف، ويلغي وجود الآخر، يحكم عليها بأنها ضارة، وليست في صالح الإنسان إذ أصبحت تشكل خطرًا عل المجتمع.

إن الصحوة الدينية في العالم الإسلامي، ظلت عنوانًا مشتركًا لكل الدعوات الجهادية والتجديدية التي واجهت الاستعمار الغربي للديار الإسلامية منذ القرن التاسع عشر حتى خمسينيات هذا القرن. وقد واجهت الصحوة الإسلامية الشيوعية حقبة من الزمن في مناطق من العالم. إلا أن الصحوة خرجت من عباءتها تيارات متطرفة، تتخذ من التكفير مذهبًا، ومن العنف وسيلة. وأوقعت أضرار فادحة بالأصدقاء قبل الأعداء، فشوهت صورة الصحوة، وقدمت ذريعة مثالية لأعداء الإسلام ليهاجموا الدين جملة وتفصيلاً وليضربوه في الصميم22. فخطورة هذا التيارات وفكرها المتطرف، تتجلى أساسًا فيما نتج عن بعضها من آراء فقهية تبيح التكفير، حتى تكفير المؤسسات، أو المجتمع أو الدولة، كما تبيح قتل الآخر المختلف معها. بل أباحت قتل النفس قبل قتل الآخر فيما أسموه بالعمليات الاستشهادية، أو ما يسمى بالإرهاب كمصطلح سياسي23. فهي بذلك تغير القيم الاجتماعية للشباب الذي تستقطبه. إذ يؤدي نجاح التنظيم المتطرف، بعد تجنيد الفرد، إلى تغيير القيم الاجتماعية التي يؤمن بها ضمن ما تلقاه من مؤسسات التنشئة الاجتماعية والضبط الاجتماعي، وغرس قيم اجتماعية جديدة تتعارض مع قيم المجتمع، بيد أنها تتواءم مع معتقدات وقيم التنظيم، ولها سلطة نافذة على الفرد، تجعله يعتنقها بشدة حتى أنه قد يبذل روحه في سبيل المحافظة على تلك القيم والمعتقدات. وهنا يكون الفرد رهينًا لهذه القيم الخاصة التي يرفضها المجتمع24.

2-5: العوامل الخارجية:

تتمثل العوامل الخارجية أساسًا في سياسات الهيمنة الأجنبية في المنطقة العربية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، والتي ترسخ الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، وتسكت عن ممارساته المتحدية للشرعية الدولية، بل وتدعمه ماديًا وعسكريًا وتحول دون قيام الأمم المتحدة بدورها في مواجهة العدوان، وتعتمد معيارين في مواقفها تثير بهما الغضب والنقمة وتدفع الشباب العرب المسلمين إلى اللجوء للفكر المتطرف، ومن ثم ممارسة العنف في مواجهتها25.

فالسياسات الاستعمارية والعسكرية والحروب غير المبررة التي تشن على بعض الدول العربية والإسلامية يثير مشاعر الإحباط واليأس عند كثير من المسلمين وخاصة الشباب الذي لا يرضى بالذل والهوان، وهو يرى كل يوم الإرهاب الأمريكي، وتسلطه على العالم الإسلامي دون احترام لأنظمة عالمية ولا قرارات دولية. ويرى كل يوم الإرهاب الصهيوني وإذلاله وقتله للشعب الفلسطيني دون أن تكون هناك ردود أفعال جادة من الحكومات العربية26، فتنامى الإرهاب الأمريكي خاصة والغربي عامة بحجة مكافحة "الإرهاب الإسلامي". فنتجت عنه انتهاكات جسمية لحقوق الإنسان فتفاقم الغضب بسببها فالمشاعر المعادية لأمريكا ليست طبيعية ولا متجذرة في البلدان الإسلامية، لكن الأعمال العدوانية الأمريكية تؤدي إلى فرض العدو الأمريكي على قمة لائحة المظالم المحلية27. 

إن جزءًا من الغضب المتأجج على نحو خاص في صدور الشباب يأتي من شعور بالإقصاء يرتبط بالعولمة. فانتشرت الدعاية لأساليب الحياة المرغوبة بينما يشهد الواقع القاسي الحرمان من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية28.  فالعولمة من أهم أسباب انتشار التطرف والإرهاب في العالم المعاصر، نتيجة استغلال الجماعات المنظمة، الفضائيات والانترنت والتجارة الحرة والطريق السريع للمعلومات. فعولمة الظاهرة الإرهابية، تعني أن هناك متغيرات عديدة، ولكن العنصر الثابت فيها هو الإنسان. فالعولمة توفر المناخ المناسب لنمو ظاهرة الإرهاب بكل أشكاله ومقوماته، لأنها توفر الوسائل التي تحقق  انتشار الإرهاب في العالم بأسره. فقد أشار تقرير رسمي صادر عن الأمم المتحدة، وهو التقرير الشامل حول العدالة والجريمة الذي صدر عام 1999، إلى أن التطور السريع في تقنية الاتصالات يكشف عن تزايد معدلات العنف29. 

إن استخدام الاتصالات أفاد كثيرًا من المنظمات الإرهابية سواء في الحصول على معلومات أو بيانات أو في مجال الاتصالات الصوتية أو أدوات التدمير والتخريب. ومثال ذلك، استخدام الهواتف النقالة والانترنت والأقمار الصناعية، مما جعل الإرهاب يتعدى الحدود ويحقق:

  • ضمان عنصر السرية
  • ديمومة واستمرارية نقل المعلومات والأفكار وتبادلها، وتمكين التنظيم الإرهابي من الاتصال بالجماهير بسهولة30.

هذا، إضافة إلى التوسع الامبريالي الذي يحمل في طياته النزعة العدوانية لأنه لا يحترم حدود الغير القومية والدينية والسياسية، فيؤدي إلى تدمير حضارات وفناء كيانات أو نشوء صراعات بما يشبع حركات العنف والإرهاب. واستخدام الإرهاب من قبل الدول الغربية كبديل عن الحرب التقليدية بوصفه أكثر تأثيرًا، وأقل تكلفة للحصول على مكاسب وامتيازات سياسية على المستوى الدولي. كما تتخذ الجماعات كوسيلة للتأثير على مواقف بعض الدول سياسيًا واقتصاديًا، حتى تكون في صالحها. كما قد تستخدم المساعدات الاقتصادية لبعض الدول كذريعة للتدخل في شؤونها الداخلية أو المحافظة على الاستقرار الدولي وحماية الأقليات، الأمر الذي يقابل بالرفض من جانب البعض ويدفعه إلى الوقوف ضده من خلال أعمال العنف31.

 

الهوامش

1- أحمد يوسف التل، الإرهاب في العالمين العربي والغربي، ط: 1، عمان 1998، ص: 3.

2 - أحمد يوسف التل نفسه، ص: 4.

3 - عبدالحسين شعبان: التطرف والإرهاب، إشكاليات نظرية وتحديات علمية، مراصد، كراسات علمية 2017، عدد 42، ص: 8.

4 - أحمد يوسف التل: الإرهاب في العالمين العربي والغربي، مرجع سابق، ص: 6.

5 - أنظر: تيري إيجلتون: الإرهاب المقدس، ترجمة أسامة إسبر، ط: 1، 2007، بدايات للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، ط: 1، 2007، ص: 6-7.

6 - عبدالحسين شعبان: التطرف والإرهاب، ص: 14.

7 - صلاح الصاوي: التطرف الديني، الرأي الآخر الآفاق الدولية للإعلام، ص: 4.

8 - كافين رايلي الغرب والعالم ترجمة عبدالوهاب المسيري وهدى حجازي –سلسلة عالم المعرفة--يونيو 1985-ص193-194

9 - أبكر عبدالبنات آدم: طاعون العصر، التطرف الديني، المجلة الليبية العالمية، كلية التربية المرج، جامعة بنغازي، العدد 13- يناير 2017، ص: 6-7.

10 -أبكر عبدالنبات آدم، طاعون العصر، التطرف الديني، ص: 8-9.

11 - علاء زهير الرواشدة، التطرف الأيديولوجي من وجهة نظر الشباب الأردني، المجلة العربية للدراسات الأمنية، والتدريب المجلد 31، العدد 63، الرياض، 2015، ص: 90.

12 - صالح بن غانم السدلان، أسباب الإرهاب والعنف والتطرف، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. اللجنة العلمية للمؤتمر العالمي عن موقف الإسلام من الإرهاب 2004، ص: 10.

13 - عبدالله بن عبدالعزيز اليوسف، الأنساق الاجتماعية، ودورها في مقاومة الإرهاب والتطرف، ط 1 الرياض، 2006، ص: 95.

14 - محمد الهواري، الإرهاب المفهوم الأسباب وسبل العلاج، الرياض، 2004، ص: 25.

15 - علاء زهير الرواشدة، التطرف الإيديولوجي، ص: 92.

16 - ولد الصديق ميلود، وآخرون مكافحة الإرهاب بين مشكلة المفهوم، واختلاف المعايير عند التطبيق ج 1، مقال لـ غادة كمال محمود سيد، مركز الكتاب الأكاديمي عمان، ط 1، 2018، ص: 127-128

17 - إسماعيل صديق عثمان، التطرف والتعصب الديني، أسبابه والعوامل المؤدية إليه. المجلة الليبية العالمية، العدد 28، شتنبر 2017، ص: 11

18 -علاء زهير الرواشدة، التطرف الأيديولوجي، ص: 89

19 - إسماعيل صديق عثمان، التطرف والتعصب الديني، ص: 11

20 - محمد الهواري، الإرهاب المفهوم والأسباب وسبل العلاج، ص: 26

21 - جاد الحق علي جاد الحق، التطرف الديني وأبعاده، واد أم القرى للطباعة القاهرة، ص: 25

22 - عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيه، الإرهاب، التشخيص، الحلول، مكتبة العبيكان، الرياض، ط 1، 2007، ص،44-45

23 - نجدي خميس، الإرهاب، دار النشر يسطرون، ط 1، 2017، ص: 4

24 - معتز محيي عبدالحميد، الإرهاب وتجدد الفكر الأمني، زهران للنشر 2014، ص: 90

25 - محمد الهواري، الإرهاب، المفهوم والأسباب وسبل العلاج، مرجع سابق، ص: 28

26 - عبدالله بن عبدالعزيز اليوسف، الأنساق الاجتماعية ودورها في مقاومة الإرهاب والتطرف، مرجع سابق ص: 97.

27 - ديفيد كين  David Keen، حرب بلا نهاية، وظائف خفية للحرب على الإرهاب، ترجمة معين الإمام، العبيكان للنشر، 2008، ص: 93.

28 - ديفيد كين، المرجع نفسه، ص: 94

29 - ولد الصديق ميلود وآخرون، مكافحة الإرهاب، مرجع سابق، مقال رانيا هدار وأحمد مخلوف، ص: 117.

30 - أماني غازي جرار، إرهاب الفكر وفكر الإرهاب- دار اليازوري للنشر، 2016، ص 126.

31 - المرجع نفسه، ص: 117.


عدد القراء: 4070

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-