أسس التحليل النصي عند علماء العرب المتقدمين (المفسرون والبلاغيون نموذجًا)الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-05-30 21:10:20

د. هالا مقبل

الأردن

المقدمة

يتم تحليل النصوص استنادًا إلى توجهاتها المختلفة من جهة، وإلى منظومة العلوم المستخدمة في التحليل من جهة أخرى، فقد يجتمع النحوي، والبلاغي، والصرفي في تحليل النص الواحد، فينظر كل واحد منهم إلى النص من وجهته الخاصة به، ويقوم تحليل النص على أسس أخرى بالنظر إلى وظيفته وتأثيره؛ فتتولى الأسلوبية دراسة مدى الحريات التي يقوم بها المبدع داخل النظام اللغوي، بهدف التأثير لإظهار الوظائف الجمالية في النص، أما علم اللغة  فيُعنى بالدرجة الأولى بالأبنية النحوية للنص، ويقوم علم النفس الاجتماعي وعلوم الاتصال ببحث التأثيرات التي تحدثها النصوص على آراء وسلوك المتلقين، وهكذا تتشابك العلوم المختلفة في عملية التحليل النصي، أي تحليل النصوص داخل إطار متكامل، وتحليل الخواص العامة التي يجب أن تتوافر في أي نص لغوي، واستثمار نتائج البحوث في العلوم الإنسانية، لإضاءة النصوص وفهمها فهمًا جديدًا يتلاءم وروح العصر، فالتحليل علم غني تتداخل فيه الاختصاصات، وتشكل نقطة ارتكازه عدة علوم، وذلك بتأثير من تطور الدراسات اللغوية والألسنية الحديثة فانتقل الاهتمام من الدراسة العلمية للغة، إلى دراسة الكلام كإنتاج فردي، وبروز العلاقة بين المرسل والمتلقي مما يجعل من هذه الدراسات علمًا وصفيا يبحث في كيفية إبداع الكلام، ومدى تأثيره في المتلقي مرتبطًا بسياقه الذي قيل فيه.

ولا بد عند تحليل النصوص، أن نأخذ بعين الاعتبار الأجناس الأدبية، وتحديد ملامح هذه الأجناس، فتحليل النص الشعري يختلف عن تحليل النص النثري، آخذين بعين الاعتبار الأجناس المختلفة المنبثقة عنهما.

وبما أن التوجه الحديث في النظر إلى النصوص كوحدة صغرى متكاملة في التحليل، فلا بد من النظر إلى التماسك والترابط بين أجزائه، ويضفي هذا التماسك صفة دلالية على النص، فهو يمثل علاقات المعنى الموجودة داخل النص، أي أن النصية تُستمد من علاقة التماسك، فلا بد للمحلل من دراسة التماسك وأنواعه وأدواته.

وتقوم هذه الورقة البحثية على دراسة أسس التحليل النصي عند علماء العرب المتقدمين من المفسرين والبلاغيين، وذلك للوقوف على مناهجهم في تحليل النصوص، لتشكيل رؤية واضحة عن كيفية تعاملهم مع النصوص، وتحديد مدى اقترابهم أو بعدهم من أسس التحليل الحديثة للنص، وإجلاء موقفهم من الظواهر النصية عند المحدثين وسيتم ذلك من خلال دراسة مصنفات هؤلاء العلماء، وتحليل آرائهم، واستقرائها، وإيراد آراء الدارسين والباحثين في هذه المصنفات.

أسس التحليل النصي عند المفسرين

التفسير كما عرفه الزركشي: "علم يعرف به فهم كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان معانيه، واستخراج ذلك من علم اللغة، والتصريف، وعلم البيان، وأصول الفقه والقراءات ويحتاج لمعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ"(1)، نلاحظ من هذا التعريف للتفسير أنه يتعلق بالمستويات اللغوية المختلفة: المعجمي، والتركيبي، والدلالي، والسياقي فالتفسير هنا يتكون من منظومة علوم وهي: علم اللغة، وعلم التصريف، وعلم التركيب، وعلم القراءات، وعلم التاريخ والرواية، وهو لا يفسر الآية بمعزل عما قبلها وما بعدها من الآيات ويتضح ذلك من الاهتمام بعلم البيان، وأسباب النزول، وعلوم اللغة عامة.

وقد جعل ابن جزي الكلبي صاحب تفسير "التسهيل" علوم اللغة شرطًا من شروط الشروع في التفسير وتحليل النص القرآني، يقول: "أن يدل على صحة القول كلام العرب من اللغة والإعراب، والتصريف، والاشتقاق، وأن يشهد بصحة القول سياق الكلام، ويدل عليه ما قبله أو ما بعده"(2)، وجعل البلاغة غرضًا أساسيًا في التفسير وعرفها بأنها سياق الكلام على ما يقتضيه الحال والمقال من الإيجاز والإطناب، ومن التهويل، والتعظيم، والتحقير، ومن التصريح، والكناية، والإشارة وشبه ذلك، فهو يراعي سياق الموقف في التفسير ويربط بين الجمل وما بعدها(3)، ويربط بين الآيات ربطًا دلاليًا ولغويًا، ومن أمثلة مراعاة المفسرين للروابط النصية وما فيها من إحالة قول الزركشي في تحليله للآية: (أَوۡ يَعۡفُوَاْ ٱلَّذِي بِيَدِهِۦ عُقۡدَةُ ٱلنِّكَاحِۚ) (البقرة: 237) يقول: "فالضمير في "يده" يحتمل عوده على الولي، وعلى الزوج، ويرجح الثاني لموافقته للقواعد الفقهية، فإن الولي لا يجوز أن يعفو عن مال يتيمه بوجه من الوجوه"(4)، واهتم المفسرون، والمشتغلون في كتاب الله تعالى بالمستوى الدلالي في تحليل النص القرآني؛ فقد أورد الخطابي  في رسالته في إعجاز القرآن الكريم، أسباب إعجازه، يقول: "إنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة: لفظ حامل، ومعنىً قائم، ورباط لهما ناظم، وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور في غاية الشرف والفضيلة،  واعلم أن القرآن إنما صار معجزًا لأنه جاء بأفصح الألفاظ، في أحسن نظم التأليف، مضمنًا أصح المعاني"(5)، وأوضح أن هذه المعاني شاملة لكل ما جاء في القرآن من أحكام ومواعظ ، وحظر وإباحة، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، ويقول الخطابي إن لكل لفظة في القرآن خاصية تتميز بها عن صاحبتها في بعض معانيها، وإن كانتا قد تشتركان في بعضها ويأتي بأمثلة من بعض ألفاظ اللغة العربية نحو (عرف، علم) و(حمد، شكر) ويوضح ما بينهما من تمايز في الاستعمال والدلالة(6)، ومن أمثلة اهتمام المفسرين بالمستوى الدلالي، اهتمامهم بالفاصلة القرآنية، والتمييز بينها وبين السجع؛ فها هو الرماني يرى أنها حروف متشاكلة توجب حسن إفهام المعاني، والفواصل بلاغة، وميز الرماني بين الفواصل والسجع، إذ ليس في السحع إلا مشاكلة الأصوات.(7) فالتركيز في دراسة الفاصلة منصب على المعنى في المقام الأول، ويأتي الجانب الإيقاعي في المرتبة الثانية.

نستخلص من آراء العلماء القدامى أن علم التفسير يحتاج إلى جميع العلوم العربية، والإسلامية وخاصة في المعاني والبيان، إلا أن حاجته إلى الإعراب أساسية؛ لأن كل علم من هذه العلوم مبني على صحة التركيب، فيجب أن يحيط المفسر من النحو بحظ، ولا سيما علم الإعراب، على أنهم يوفقون بين المعنى والإعراب، ولا يتخلون عن المعنى الصحيح للنص القرآني، كما أنهم يراعون صحة القواعد النحوية، وهذا واضح في اهتمامهم بالتركيب والجانب اللغوي مرتبطًا بالجانب الدلالي.

ولا يخفى على أحد أهمية الأدوات الرابطة بين الآيات، وحروف المعاني، وما تؤديه من دور في تماسك النص، وترابطه، وللحروف والأدوات في اللغة العربية معانٍ تؤديها في سياقها، تستفاد من التركيب والائتلاف بين الألفاظ، إضافة إلى الدلالة المعجمية للحرف أو الأداة، وقد عني علماء العربية بهذا الباب عناية فائقة، وأولوه اهتمامًا كبيرًا، فقد أفرد سيبويه في كتابه بابًا خاصًا سماه (باب عِدَّة ما عليه الكلم) قال في بدايته: "وأقل ما تكون عليه الكلمة حرف واحد. وسأكتب لك ما جاء على حرف ٍبمعناه إن شاء الله"(8).

وأفرد السيوطي الباب الأربعين من الجزء الأول من كتابه الإتقان في علوم القرآن للحديث عن الحروف والأدوات، يقول: "اعلم أن معرفة ذلك من المهمات المطلوبة لاختلاف مواقعها، ولهذا يختلف الكلام والاستنباط بحسبها"(9).

أما الزجاجي فقد أفرد كتاباً خاصاً بالحروف والأدوات سماه "حروف المعاني" استشعارًا منه بأهمية هذا الباب وتعميق البحث فيه، يقول: "فإن سألتني أن أضع لك كتابًا، أشرح لك فيه جميع معاني الحروف وعلى كم وجه يتصرف الحرف منها فأجبتك إليه"(10)، وتوالت عناية العلماء بهذا الباب، وكثرت فيه المصنفات.

ومن أمثلة عناية المفسرين بمعاني الحروف والأدوات، وتوضيح دورها في الربط بين الآيات لاستيضاح الدلالة، ما ورد في تفسير "بلى" في قوله تعالى:

(بَلَىٰ قَدۡ جَآءَتۡكَ ءَايَٰتِي فَكَذَّبۡتَ بِهَا وَٱسۡتَكۡبَرۡتَ وَكُنتَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ) (الزمر: 59)، فقد جاءت هذه الآية ردًا على قول الكافر يوم القيامة: (لَوۡ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَىٰنِي لَكُنتُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ) (الزمر: 57)، فقد جاءت بلى جوابًا على الجملة الشرطية، لأنها تضمنت معنى النفي؛ فكأن الكافر قال: ما هُديت(11).

أبو حيان التوحيدي 

يعد كتاب "البحر المحيط" في تفسير القرآن الكريم من المراجع الهامة لمن يريد الوقوف على وجوه الإعراب لألفاظ القرآن الكريم، وعلى الرغم من اهتمام المؤلف بوجوه الإعراب المختلفة والمحتملة للآية الواحدة إلا أنه لم بهمل ما عدا هذا الجانب من النواحي التي لها اتصال بتحليل النص القرآني، فنراه يتكلم عن المعاني اللغوية للمفردات (المستوى المعجمي) ويذكر أسباب النزول (المستوى السياقي) كما أنه لا يفصل الناحية البلاغية للقرآن عن المستوى النحوي، وقد فصّل أبو حيان القول في حاجة المفسر إلى العلوم العربية، والإسلامية في تفسير النص القرآني وتحليله تحليلاً يكشف عن شتى جوانبه اللغوية والدلالية؛ فيبين أن النظر في كتاب الله يكون من وجوه هي(12):

• معرفة الأحكام التي للكلم من جهة إفرادها، وتركيبها، ويؤخذ ذلك من علم النحو.

• كون اللفظ أو التركيب أحسن وأفصح ويؤخذ ذلك من علم البيان والبديع.

• تعيين مبهم، وتبيين مجمل وسبب نزول، ويؤخذ ذلك من الأحاديث المختلفة في كتب الصحيحين.

• معرفة الإجمال والتبيين، والعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، ودلالة الأمر والنهي، ويؤخذ ذلك من كتب الفقه، ومعظمه في الحقيقة راجع لعلم اللغة.

• اختلاف الألفاظ بزيادة أو نقص، أو تغيير حركة، أو الإتيان بلفظ مكان لفظ، ويؤخذ ذلك من علم القرآن.

وقد عرف أبو حيان التفسير بقوله إنه: "علم جنس يشمل سائر العلوم، وهو علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها الإفرادية والتركيبية، ومعانيها التي تحمل عليها في حالة التركيب، وتشمل علم التصريف، وعلم الإعراب، وعلم البيان، وعلم البديع، وفسر المقصود بمعانيها التي تحمل عليها في حالة التركيب: ما لا دلالة عليه بالحقيقة، وما دلالته عليه بالمجاز"(13)، ويعني هذا اهتمامه بالأساليب التعبيرية، والخصائص الأسلوبية، ولا يكون ذلك إلا بتفكيك النص القرآني إلى وحداته الصغرى من أصوات ومفردات وتراكيب، منتهيًا إلى الوحدة الكبرى في النص التي تجمع بين وحداته اللغوية، والدلالية، والسياقية، وقد أفصح عن منهجه في التفسير، في مقدمة كتابه يقول: "وترتيبي في هذا الكتاب أني أبتدئ أولاً بالكلام على مفردات الآية التي أفسرها لفظة لفظة فيما يحتاج إليه من اللغة، والأحكام النحوية لتلك اللفظة قبل التركيب، وإذا كان للفظة معنيان أو معان ذكرت ذلك في أول موضع فيه تلك الكلمة، لينظر ما يناسب لها من تلك المعاني في كل موضع تقع فيه، فيُحمل عليه، ثم أشرع في تفسير الآية ذاكرًا سبب نزولها إذا كان لها سبب، ونسخها، ومناسبتها، وارتباطها بما قبلها، حاشدًا فيها القراءات شاذًا ومستعملها، ذاكرًا توجيه ذلك في علم العربية، ناقلاً أقاويل السلف، والخلف في فهم معانيها، متكلمًا على جليها وخفيها، بحيث إني لا أغادر منها كلمة، وإن اشتهرت حتى أتكلم عنها، مبديًا ما فيها من غوائص الإعراب ودقائق الآداب من بديع وبيان"(14).

ومن أمثلة اهتمامه بالمستوى الدلالي إشارته إلى الإضمار ونفى عيسى عليه السلام أن يتعدى أمر الله في أن يطلب اتخاذه وأمه إلهين (مَا قُلۡتُ لَهُمۡ إِلَّا مَآ أَمَرۡتَنِي بِهِۦٓ أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۚ )

(المائدة : 117)، "ولم يقل ما أمرتهم إلا ما أمرتني، وعدل عن الأمر بالقول، لئلا يجعل نفسه وربه آمرين"، وذلك من باب التأدب في مخاطبة الله تعالى، ودل على هذا الربط "أن" التفسيرية، فأصل الجملة: ما أمرتهم إلا ما أمرتني أن آمرهم، وهو "اعبدوا الله" وأكد قوله مقرًا بربوبية الله بقوله "ربي وربكم"(15).

أسس التحليل النصي عند البلاغيين

ورد مفهوم التحليل لدى علماء العرب القدامى، ولكنه لم يأت باسم المصطلح المتعارف عليه لدى علماء اللسانيات، وإنما تحدث العلماء العرب عن مضمونه، وجاءت آراؤهم متفرقة في أبواب مختلفة من المصنفات التي وضعوها، مثل باب توضيح مفهوم الكلام، وباب المعنى أو اللفظ؛ فالجاحظ في كتاب (الحيوان) يشير إلى مفهوم الكلام، فيقول: "أحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه، فإذا كان المعنى شريفًا واللفظ بليغًا، وكان صحيح الطبع بعيدًا عن الاستكراه، ومنزهًا عن الاختلال، مصونًا عن التكلف، صنع في القلوب صنع الغيث في التربة الكريمة"(16)، ويقول في البيان والتبيين: "وعلى قدر وضوح الدلالة وصواب الإشارة، وحسن الاختصار، ودقة المدخل يكون إظهار المعنى"(17)، ويشير الجاحظ إلى كينونة النص وهدفه الاتصالي فهو عنده عملية اتصالية مدارها الفهم والإفهام يقول: "لأن مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع، إنما هو الفهم الإفهام، فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع"(18). 

ويشير حازم القرطاجني  إلى قضية التناص وما فيها من اقتباس وتضمين فيقول: "والطريق الثاني الذي اقتباس المعاني منه بسبب زائد عن الخيال هو ما استند فيه بحث الفكر إلى كلام جرى في نظم أو نثر أو تاريخ أو حديث أو مثل، فيبحث الخاطر فيما يستند إليه من ذلك على الظفر بما يسوغ له معه إيراد ذلك الكلام، أو بعضه بنوع من التصرف والتغيير أو التضمين فيحيل على ذلك أو يضمنه أو يدمج الإشارة إليه، أو يورد معناه في عبارة أخرى على جهة قلب أو نقل إلى مكان أحق به من المكان الذي هو فيه، أو ليزيد فيه فائدة، فيتممه، أو يتمم به، أو يحسّن العبارة خاصة، أو يصيّر المنظوم منثورًا، أو المنثور منظومًا"(19) والتناص عند اللسانيين يتحقق في النص عندما يتضمن مجموعة من النصوص السابقة عليه، بشرط أن يحدث تعالق وتفاعل بين اللفظ والمعنى بين هذه النصوص المتداخلة، وللتناص دور كبير في عملية تحليل النص وفهم أجزائه. 

عبدالقاهر الجرجاني (ت 471)

لقد اهتم عبدالقاهر الجرجاني بنظرية النظم القائمة على حسن الصياغة وتوخي معاني النحو، والتي تنظر إلى العلاقة التي تنشأ بين اللفظ والمعنى من وجهة لغوية دقيقة نتيجة التحامها وشدة ارتباطها.

فالنظم كما عرفه: ليس "إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت، فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك، فلا تبخل بشيء منها. وذلك أنّا لا نعلم شيئـًا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل بابٍ وفروقه"(20)، فهو يهتم بالمستوى النحوي الذي ينسج العلاقات بين أجزاء التراكيب، منظورًا إليها من زاوية المعنى المتبوع لا اللفظ التابع، وهو يشير إلى الروابط النصية، وقوتها الدلالية، ويهتم بالأدوات، والروابط والإضمار وحروف الزيادة، ويشير إلى المعاني الدلالية التي تمنحها للنص، يقول: "وكذلك توصف "لا" في قولنا: "مررت برجل لا قصير ولا طويل بأنها مزيدة ولكن على هذا الحد، فيقال: "هي مزيدة غير معتد بها من حيث الإعراب، ومعتد بها من حيث أوجبت نفي الطول والقصر عن الرجل، ولولاها لكانا ثابتتين له"(21)، وهذا التآلف الذي يتم وفق "معاني النحو" على المستوى النحوي، وعلى المستوى الدلالي، يؤول بالمجموعة من التراكيب إلى الوحدة، ويفضي بفضل اللحمة التي يوجدها بين عناصر مختلفة إلى شيء واحد لا يمكن تجزئته.  

ويشير الجرجاني إلى مبدأ المقبولية لدى المتلقي، يقول: "واعلم أنه لا يصادف القول في هذا الباب موقعًا من السامع، ولا يجد لديه قبولاً، حتى يكون من أهل الذوق والمعرفة، وحتى يكون ممن تحدثه نفسه يومئ إليه من الحسن واللطف أصلاً، وحتى يختلف الحال عليه عند تأمل الكلام، فيجد الأريحية تارة، ويعرى منها أخرى، وحتى إذا عجبته عجِب، وإذا نبهته لموضع المزية انتبه"(22)، والتلقي عند الجرجاني لا يكون إلا بعد اكتمال النص، وهو يشير هنا إلى قضية تماسك النص وترابط أجزائه، ممثلاً ذلك بقطعة النسيج الملونة التي لا نستطيع أن نحكم على دقة صنعها إلا بعد اكتمال صنعها، فالمتلقي عند الجرجاني لا تشغله الألفاظ بجزئياتها، بل هو ينظر إلى تعالقها وتآلفها مع بعضها، وهو يشير هنا إشارة غير مباشرة إلى وحدة النص الكلية، يقول: "واعلم أن من الكلام ما أنت ترى المزية في نظمه والحسن كالأجزاء من الصبغ تتلاحم وينضم بعضها إلى بعض حتى تكثر في العين، فأنت لذلك لا تكبر شأن صاحبه، ولا تقضي له بالحذق والأستاذية وسعة الذرع وشدة المنة، حتى تستوفي القطعة، وتأتي على عدة أبيات"(23) فالنص عند الجرجاني يتشكل من أجزاء الكلام بعضه ببعض بسبب ائتلاف ألفاظه وترتيبها بحيث تأخذ المكان في النفس بشكل موحد.

وعلى الرغم من اهتمام الجرجاني بالمعنى الكلي، وتركيزه على الدلالة، والسبك، وتناسب الألفاظ والمعاني، والأثر الذي يحدثه التفنن في أسرار البيان، وأسباب البلاغة من تقديم وتأخير، وحذف وإثبات، وتعريف وتنكير، وإضمار، إلا أننا نلمح من كلامه اعتماده في التحليل على وحدة الجملة، لا الوحدة الكلية للنص، يقول متحدثًا عن الشعراء المطبوعين الذين يلهمون القول إلهامًا: "ثم إنك تحتاج إلى أن تستقرئ عدة قصائد، بل أن تفلي ديوانًا من الشعر، حتى تجمع منه عدة أبيات"(24)، فهو يحكم بالبلاغة والفصاحة على البيت الواحد في القصيدة، بل يفلي ديوانًا كاملاً حتى يجد عدة أبيات يرى فيها جودة السبك، وصحة المعنى، وهو بهذا لا يعتمد القصيدة كاملة بالمفهوم الحديث للنص، وإنما جملاً وأبياتًا منفصلة، وهو يقر بهذا المنهج في توضيحه مفهوم التعلق والتآلف، وذلك في مقدمة كتابه حين وضح أقسام الكلام، وطرق تعلقه، يقول: "معلوم أن ليس النظم سوى تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب من بعض، والكلم ثلاث: اسم، وفعل، وحرف، وللتعليق فيما بينها طرق، وهو لا يعدو ثلاثة أقسام: تعلق اسم باسم، وتعلق اسم بفعل، وتعلق حرف بهما"(25).

الخاتمة

• يتم تحليل النصوص استنادًا إلى توجهاتها المختلفة من جهة، وإلى منظومة العلوم المستخدمة في التحليل من جهة أخرى.

• بما أن التوجه الحديث في النظر إلى النصوص كوحدة صغرى متكاملة في التحليل، فلا بد من النظر إلى التماسك والترابط بين أجزائه، ويضفي هذا التماسك صفة دلالية على النص، فهو يمثل علاقات المعنى الموجودة داخل النص، أي النصية تُستمد من علاقة التماسك، فلا بد للمحلل من دراسة التماسك وأنواعه وأدواته.

• الربط بين الدراسات التراثية، والعلوم الحديثة يحتاج إلى فهم صحيح للقيم التراثية، والتوفيق بينها وبين الأفكار والعلوم الحديثة، فيما يسمى المعاصرة وهي الاحتفاظ بما جاء به القدماء، والاستفادة من معطيات العلم الحديث، والأخذ منه بمقدار ما يخدم تراثنا الزاخر بجهود العلماء واللغويين والبلاغيين.

• وفق المفسرون بين المعنى والإعراب، ولا يتخلون عن المعنى الصحيح للنص القرآني، كما أنهم يراعون صحة القواعد النحوية، وهذا واضح في اهتمامهم بالتركيب والجانب اللغوي مرتبطًا بالجانب الدلالي واهتموا بالسياق ومناسبة النزول، وأدوات الربط المختلفة، وحروف المعاني.

• اهتم البلاغيون بتحليل النص، ووضعوا الأسس والضوابط التي تحكم النصوص، كعلاقة اللفظ بالمعنى، وتلاؤم الألفاظ وتناسبها، وأهمية سياق الحال، وظاهرة التناص، وضرورة توخي معاني النحو، وصحة التركيب.

• الدراسات الوحيدة في تحليل النص عند القدماء التي اعتمدت وحدة النص الكلي، هي دراسات تفسير القرآن، ذلك أن القرآن الكريم فرض على المفسرين التعامل معه كالكلمة الواحدة فهو يفسر بعضه بعضًا، ولا مجال لتجزئته.

 

الهوامش والإحالات:

(1) الزركشي، بدر الدين محمد بن عبدالله - البرهان في علوم القرآن – تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم - 1984 -  ط 3 -  مكتبة دار التراث - القاهرة. 1: 13.

(2) ابن جزي الكلبي، أبو القاسم محمد بن أحمد - 1995 - التسهيل لعلوم التنزيل - تحقيق: محمد سالم هاشم - دار الكتب العلمية - بيروت - ج1 ص14.

(3) المصدر السابق: 1 : 13.

(4) البرهان: 2 : 211.

(5) الرماني، الخطابي والجرجاني – ثلاث رسائل في إعجاز القرآن - تحقيق: محمد خلف الله ومحمد زغلول سلام - دون تاريخ - ط 3 - دار المعارف - القاهرة – ص27.

(6) المصدر السابق: 33.

(7) المصدر السابق: ص 97

(8) سيبويه، أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر – الكتاب – تحقيق وشرح: عبدالسلام هارون -  1988 –  ط 3 – مكتبة الخانجي – القاهرة - 1 : 216.

(9) السيوطي، أبو الفضل جلال الدين عبدالرحمن بن الكمال - الإتقان في علوم القرآن - تحقيق سعيد المندوب - 1996 - دار الفكر – بيروت - 1 : 424.

(10) الزجاجي، أبو القاسم عبدالرحمن بن اسحق - حروف المعاني - تحقيق: علي توفيق الحمد - 1986 - مؤسسة الرسالة - ودار الأمل - إربد - ص 21.

(11) الزمخشري، أبو القاسم محمود بن عمر - الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل - تحقيق: عادل أحمد عبدالموجود  وعلي محمد معوض 1998 - مكتبة العبيكان – الرياض -  5 : 316.

(12) أبو حيان الأندلسي، محمد بن يوسف - تفسير البحر المحيط - تحقيق عادل أحمد عبدالموجود وعلي محمد معوض - 1993 - دار الكتب العلمية – بيروت 1 : 106 – 108.

(13) المصدر السابق: 1 : 121.

(14) البحر المحيط: 1 : 103.

(15) المصدر السابق 4 : 64.

(16) الجاحظ، عمرو بن بحر - الحيوان - تحقيق عبدالسلام هارون – ط 2 - مكتبة مصطفى البابي الحلبي - القاهرة - 3 : 492.

(17) الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر- البيان والتبيين - تحقيق وشرح: عبدالسلام هارون - ط 7 – 1998 - مكتبة الخانجي - جمهورية مصر العربية - 1 : 75.

(18) المصدر السابق: 1 : 76 .

(19) القرطاجني، أبو الحسن حازم – منهاج البلغاء وسراج الأدباء – تحقيق: محمد الحبيب بن الخوجة - 1986 –  ط 3 - دار الغرب الإسلامي – بيروت - 39.

(20) الجرجاني، عبدالقاهر بن عبدالرحمن بن محمد - دلائل الإعجاز- تحقيق: محمود محمد شاكر - 2004 - ط 5 - مكتبة الخانجي – القاهرة - 81.

(21) الجرجاني، عبدالقاهر بن عبدالرحمن بن محمد – أسرار البلاغة – تحقيق: محمود محمد شاكر – 1991 – دار المدني – جدة – القاهرة - 419.

(22) دلائل الإعجاز: 291.

(23) المصدر السابق: 88.

(24) دلائل الإعجاز: 89.

(25) مقدمة دلائل الإعجاز: 2.


عدد القراء: 4034

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-