سيكولوجية العقل: (2) معالجة المعلوماتالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-09-26 09:04:36

أ. د. عبد الرحمن بن سليمان النملة

عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

ذكرنا في المقال السابق1، أن نشوء الأفكار لا يكون من خلال توالدها في العقل، فالعقل يقوم بمعالجة ما تم إدخاله فيه، وتوليد أفكار جديدة، ولتفسير عمل العقل وآلياته التي يستخدمها في ذلك، ولفهم التفكير البشري، ظهر منحى معالجة المعلومات. وظهر هذا المنحى الفكري في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، حيث تنطلق فلسفته من خلال التعامل مع الادراك العقلي بوصفه حاسوبيًا. بحيث يتم استقبال المعلومات عن طريق الحواس، وبالتالي تخزينها مؤقتًا في الذاكرة الحسية، أو المخزن الحسي (Sensory store)، ثم نقلها إلى الذاكرة قصيرة المدى (Short-term memory)، بعدها وحسب المعالجة التي تمت لهذه المعلومات، يتم تحويلها إلى الذاكرة طويلة المدى (Long-term memory).

إذن تتم هذه العملية، أي معالجة المعلومات، من خلال ثلاث مراحل أساسية؛ تبدأ باستقبال المعلومات، ثم تخزينها، وبعد ذلك تذكرها، أو استدعائها. وعلى ذلك فالمستقبلات الحسية، أي الحواس، هي أدوات العقل الخارجية، فالإنسان عندما يرى، أو يسمع، أو يشم أو يتذوق، أو يلمس، فانه يستقبل مثيرات خارجية (معلومات)، ثم يقوم بتخزينها في مستودعها الحسي المناسب. والعنصر الفاعل في مرحلة الاستقبال هو الانتباه، فالانتباه هو العملية العقلية الأولى، وله مستويات، فهناك الانتباه القسري، كأن يسمع الإنسان صوتًا مفاجئًا، وهناك الانتباه القصدي، عندما يركز الشخص في شيء ما. ودائماً ما يتبع الانتباه الادراك أو التمييز، فهما عمليتان متلازمتان، دؤوبتان، فكلما حس الإنسان بأمر ما، فانه مباشرةً يحاول أن يعطيه معنى يميزه. والعوامل التي تستثير انتباه الإنسان كثيرة، لا تعد ولا تحصى، منها ما هو خارجي، أي خارج نطاق الانسان، يأتي من بيئته الخارجية مادية كانت أو اجتماعية، ومنها ما هو داخلي، أي من الإنسان نفسه، سواء كان عضوي المنشأ، أو عقلي.

الادراك هو المرحلة التي تبدأ فيها معالجة المعلومات وهي لا تزال في مخازنها الحسية، ولك أن تتخيل أن المعلومات لا تبقى في المخازن الحسية، إلا لوهلة قصيرة جداً، ثوان معدودة، فالمعلومات في صورتها الأولية تعتبر انطباعات حسية سريعة الزوال، فعندما يغمض الشخص عينيه بعد رؤية شيء ما، فإن صورة هذا الشيء تبقى كومضة سريعة، هذه الومضة الانطباعية السريعة، هي مدة بقاءها في المستودع الحسي البصري. هنا ومباشرة يعطيها الادراك معنى يميزها، قد يكون هذا المعنى صحيحًا، وقد يكون خاطئًا، ذلك بناءً على خبرات الإنسان السابقة، ومدى ادراكه للأمور، وقس على هذا المثال، جميع أحداث الحياة التي يستقبلها الإنسان كمدركات عقلية. وبناءً على ذلك، فان إعطاء المعنى، هو بداية المعالجة المعلوماتية لما تم استقباله حسيًا، بعدها يتم نقل المعلومة إلى مخزن أكثر رسوخًا، وإن كان أيضَا يعتبر مؤقتًا، هذا المخزن هو الذاكرة قصيرة المدى.

الذاكرة قصيرة المدى، وباتت الآن تعرف بالذاكرة العاملة (Working memory)، تعتبر مكونًا عقليًا نشط جدًا، تتم فيه معالجة المعلومات على مستويات مختلفة، تتدرج من المعالجة السطحية، إلى المعالجة العميقة. فالمعلومات التي تم معالجتها سطحيًا، تتلاشى، ويتم نسيانها (تعتبر هذه الفرضية، الأكثر قبولاً في الأوساط العلمية لتفسير ظاهرة النسيان) أما المعلومات التي تتعرض لمعالجة أكثر عمقًا، فإنه يتم نقلها إلى الذاكرة طويلة المدى، التي تعتبر مخزنًا ثابتًا إلى حد بعيد. فالذاكرة طويلة المدى تتضمن السجل الذي يحوي في طياته جميع المعلومات والخبرات التي يتعرض لها الشخص والتي تجعله متوافقًا، أو غير متوافق مع الحياة. إن جميع الخبرات والمهارات التي يمر بها الإنسان تبدأ بهذه الآلية؛ الاستقبال، والتخزين، والاسترجاع. مثلاً، عند تعلم السباحة، أو تعلم قيادة السيارة، يحتفظ الشخص بالمعلومات المطلوبة للقيام بذلك، ويكررها، إلى أن تتحول إلى أفعال تلقائية، ومهارات اعتيادية يمارسها متى ما شاء بمنتهى السهولة. لو لم تكن هناك ذاكرة احتفظت بهذه المعلومات منذ البداية، لاحتاج الشخص إلى التعلم من جديد في كل مرة يقود فيها السيارة، أو يمارس السباحة، والأمثلة على ذلك كثيرة جدًا.

إن عملية معالجة المعلومات تبدأ بخطوات يسيرة، منها استخدام استراتيجيات الذاكرة (Memory strategies) عند محاولة الاحتفاظ بمعلومة ما، مثل تكرار المعلومة أو الرقم، أو ربطها بشيء ما، ماديًا كان أم معنويًا. وتتضمن معالجة المعلومات، كذلك استخدام آليات أكثر تعقيدًا، مثل استراتيجيات ما وراء الذاكرة (Metamemory)، والتي تتضمن معرفة الشخص لقدراته في التذكر، من خلال معرفته بعمل الذاكرة في الترميز، والاحتفاظ والاسترجاع، وكذلك معرفته بآليات نشاط الدماغ في معالجة المعلومات، انه الإحساس بالمعرفة (Feeling of Knowledge)، والسيطرة على المعلومات، وذلك مستوى متقدم من الأداء الذهني.

إن المتحكم بجميع هذه العمليات هو الدماغ، فعندما ينشط في معالجة المعلومات، تنشأ عنه نبضات كهربائية تولدها الألياف العصبية، التي تقوم بمعالجة هذه المعلومات. وهذا يقود إلى الاكتشافات العلمية الكبيرة في مجال العلم المعرفي (Cognitive Science)، والذي يمثل تضافر جهود كل من علم النفس المعرفي، وعلم الأعصاب، وكذلك علوم الحاسب، وتحديدًا الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence). فمثلاً، من خلال الوقوف على بيولوجيا الدماغ، تم تحديد الكثير من البنى المسؤولة عن العمليات العقلية العليا، كالتذكر، والتفكير وحل المشكلات، وباتت الفرضيات العلمية حول أنواع الذاكرة الإنسانية وغيرها من العمليات العقلية، والانفعالية، الخ، حقائق ملموسة. فكما أنه في علم البيولوجيا، والفسيولوجيا، هناك تحديد دقيق ومعرفة لأعضاء جسم الإنسان، وآليات عملها في الصحة والمرض، مما أسهم كثيرًا في تقدم الطب، فان الجهاز النفسي أصبح الآن معروفًا، وبالإمكان التحكم به.

 

الهوامش:

1 - النملة، عبدالرحمن بن سليمان (2024م). سيكولوجية العقل: (1) نشوء البنية الفكرية. مجلة فكر الثقافية، العدد (41). المملكة العربية السعودية، الموقع الالكتروني:

 https://fikrmag.com/article_details.php?article_id=1892

المراجع:

- النملة، عبدالرحمن بن سليمان (2020م). العمر والنوع والمستوى التعليمي، وعلاقتهم بذاكرة السيرة الذاتية لدى مجموعة من الأفراد السعوديين. مجلة التربية، العدد (187)، الجزء الخامس. جامعة الأزهر، جمهورية مصر العربية.

- النملة، عبدالرحمن بن سليمان (2024م). سيكولوجية العقل: (1) نشوء البنية الفكرية. مجلة فكر الثقافية، العدد (41). المملكة العربية السعودية، الموقع الالكتروني:

 https://fikrmag.com/article_details.php?article_id=1892

 - Al-Namlah AS, Fernyhough C, Meins E (2006). Sociocultural influences on the development of verbal mediation: Private speech and phonological recoding in Saudi Arabian and British samples. Developmental psychology. 42[1]:117.

-  Baddeley, A. D. (1990). Working memory. Oxford: Oxford University Press.

 - Bartlett, F. C. (1937). Psychological methods and anthropological problems. Africa 10, 401- 420.

 - Baumeister, R. F., & Newman, L. S. (1994). Self-regulation of cognitive inference and decision processes. Personality and Social Psychology Bulletin, 20, 3–19.

Best, J. B. (1999). Cognitive psychology. Belmont: Wadsworth Publishing Co.

-  Brown, S. C. & Craik, F. (2000). Encoding and retrieval information. In E. Tulving & F. I. M.

 - Craik (Eds.), The Oxford Handbook of Memory. New York: Oxford University Press, Inc.

-  Campione, J. C., & Brown, A. L. (1977). Memory and Metamemory Development in Educable Retarded Children. In R. V. Kail, & J. W. Hagen (Eds), Perspectives on the Development of Memory and Cognition. New Jersey: Lawrence Erlbaum Associates, Inc., Publishers.

 - Elbert, J. C. (1984). Short-term memory encoding and memory search in the word recognition of learning-disabled children. Journal of Learning Disabilities, 17, 342–345.

 - Galbraith, J. R. (1969). ‘Organizational design: An information-processing view’, working paper no. 425–69 MIT, Sloan School of Management, MIT.

-  Huff, A. S. and R. K. Reger (1987). ‘A review of strategic process research’, Journal of Management, 13, pp. 211–236.

 - Knight, K. E. and R. R. McDaniel (1979). Organizations: An Information Systems Perspective. Wadsworth, Belmont, CA.

-  Marcel V.J. Veenman (2015). International Encyclopedia of the Social & Behavioral Sciences (Second Edition).


عدد القراء: 951

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-