إشكالية السلطة عند مشيل فوكوالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-09-26 11:47:54

الهادي علوي

باحث مغربي

الملخص:

يعد هذا المقال مدخلاً لقراءة مساهمة أحد المنظرين المعاصرين في الفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية. ويتعلق الأمر بالفيلسوف الفرنسي مشيل فوكو (1929ـ 1984). إذ يهدف هذا المقال إلى التعرف على بعض جوانب فلسفته، خصوصًا المتعلقة منها بالسلطة. ولِمَ لا، وهذه الأخيرة هي عصب فكر فوكو، وقطب رحى مختلف بحوثه الفلسفية والعلمية. كما تتوخى هذه الدراسة إبراز الانتقادات التي وجهها هذا الفيلسوف إلى النظرية التقليدية للسلطة. وأخيرًا، يبتغي هذا المقال كشف منظوره الجديد للسلطة، بوصفه بديلاً عن المنظور القانوني.

الكلمات المفاتيح: سلطة، معرفة، نظرية السيادة، نظرية الهيمنة

مدخل:

ظل فوكو مهووسًا بسؤال السلطة، إذ يؤكد أن تفكيره في هذه القضية "بدأ في سنة 1955 بناءً على الميراث الأسود للقرن العشرين، ألا وهو الفاشية والستالينية، معتبرًا أن النقص في تحليل الظاهرة الفاشية يعتبر من بين الأحداث أو الوقائع السياسية في الثلاثين سنة الأخيرة." (فوكو،1976/2003. ص: 8) فإذا كان الفقر ظاهرة القرن التاسع عشر، فإن السلطة هي ظاهرة القرن العشرين. هذا ما يفسر الاهتمام الكبير الذي حظيت به هذه القضية عند فوكو، لذلك راح يقلب جوانب هذا الموضوع في كثير من مؤلفاته. ويذهب كثير من الدارسين إلى التأكيد على أنه قدم تصورًا جديدًا لمفهوم السلطة. فحسب جيل دولوز مثلاً، يرى "أن فوكو أول من ابتكر ذلك المفهوم الجديد للسلطة والذي كان ضالة الجميع. الكل في بحث عنه دونما اهتداء إليه أو معرفة بالسبيل المؤدي إلى اكتشافه أو حتى التعبير عنه." (دولوز، 1986/1987.ص: 30).

وتجدر الإشارة إلى أن فيلسوفنا لم يقدم نظرية متكاملة ومحددة المعالم بخصوص قضية السلطة، وإنما كان يعيد في كل مرة بناء تصوره لها. ولم يهتم بالبحث في ماهية السلطة، لأن هذا السؤال سيظل نظريًا كما يرى. لذلك فضل تحليل آلياتها، وطرق اشتغالها، وكشف علاقاتها بالمعرفة والاقتصاد. ولتسليط الضوء على هذا التصور، ننطلق من صياغة الإشكال التالي: ما دلالة السلطة عند فوكو؟ وإلى أي حد تمثل نظرية الهيمنة بديلاً عن المنظور التقليدي للسلطة كما يتجلى في نظرية السيادة؟

في معالجتنا لهذه الإشكالية، ننطلق من كشف علاقة السلطة بالمعرفة. بعد ذلك ننتقل إلى إبراز الانتقادات التي وجهها فوكو إلى النظرية التقليدية للسلطة. وفي مرحلة لاحقة، نبرز المنظور الجديد الذي اعتبره بديلاً عن المنظور القانوني للسلطة.

المحور الأول: السلطة والمعرفة: أية علاقة؟

يعتقد عامة الناس أن مجال المعرفة مستقل عن مجال السلطة، وبالتالي، فإن الحدود بينهما واضحة ومتميزة. على عكس هذا التصور، ينفي فوكو فكرة حياد المعرفة، ويعري العلاقة الخفية التي تربط بينها وبين السلطة. ومن هنا نقده للفلسفات الكلاسيكية التي نظرت إلى المعرفة باعتبارها إنتاجًا عقليًا خالصًا، ورأت أن الحقيقة هدف في حد ذاته، وليس وراء البحث عنها أية مصلحة أو منفعة. على خلاف هذه الفلسفات، أكد فوكو أن "السلطة تنتج المعرفة (...)، وأن السلطة والمعرفة تقتضي إحداهما الأخرى، وأنه لا توجد علاقة سلطة بدون تأسيس مباشر لحقل المعرفة، وأنه لا توجد معرفة لا تفترض، ولا تقيم بذات الوقت علاقات سلطة." (فوكو، 1975/1990.ص: 65)

هكذا يظهر الترابط الوثيق بين السلطة والمعرفة، وكيف تقتضي إحداهما الأخرى. ولذلك بدل الحديث عن وجود تعارض، يمكن التأكيد على التداخل الموجود بينهما. ويمثل هذا الموقف نقدًا لمجموعة من النزعات الفلسفية، خاصة التصورات الوضعية والاتجاهات الماركسية التي دافعت عن العلم في مناهضتها لما كانت تسميه بأيديولوجيا النزعة المثالية. فحتى العلم يمثل في حد ذاته سلطة، لأن الخطاب العلمي يلزم صاحبه بضرورة اتباع خطوات وقواعد دقيقة ومحددة، وإلا فقد معناه. ومن جهة أخرى، فإن إنتاج العلم أصبح يتم في إطار مؤسسات (الجامعات، المختبرات...إلخ)، وهذه الأخيرة تمثل السلطة، أو على الأقل، خاضعة لإشرافها، بالرغم مما يبدو من استقلالها الإداري. فالسلطة السياسية هي التي تدعم هذه المؤسسات ماليًا، وهي التي تعين المسؤولين عن إدارتها.

ولا نهدف من تأكيدنا السابق على التداخل الموجود بين المعرفة والسلطة إلى محو الفوارق بينهما، لأن طبيعة الأولى مختلفة عن طبيعة الثانية. ولكن "هذا الاختلاف الماهوي بين السلطة والمعرفة، لا يقف مع ذلك عائقًا يحول دون أي تداخل وارتباط بينهما. فعلوم الإنسان لا تنفصل عن علاقات السلطة التي تسمح بإمكانها، والتي تولد معارف تكون قادرة، إلى حد ما، على اجتياز عتبة ابستمولوجية أو على إقامة معرفة (...)" (دولوز، 1986/ 1987.ص:82) ومن هنا فإذا كانت السلطة تمثل الخارج (ما هو مرئي)، فإن المعرفة تمثل الجانب الداخلي (غير المرئي).

وتكمن أهمية الثورة الجديدة التي دشنها فوكو، في هذا المضمار، في التأكيد على أن "الخطاب الذي يعلن رغبة أو يخفيها، أنه موضوع الرغبة. والخطاب، كما يعلمنا التاريخ، ليس هو الذي يفصح عن معارك أو أنظمة من السيطرة، بل هو الأداة التي بها ومن أجلها يقع الصراع، إنه السلطة التي نسعى للاستحواذ عليها". (فوكو، 1971/ 2007.ص: 10) ويستند هذا الطرح الذي يتبناه فوكو على فرضية مفادها: أن إنتاج الخطاب في أي مجتمع مراقب ومنتقى ومنظم، ويتم تنظيمه وإعادة توزيعه وفق آليات وأدوات تهدف إلى الحد من سلطاته ومخاطره، وذلك باعتماد مجموعة من الإجراءات تتلخص فيما يلي:

أولاً: المنع، ويعد هذا الإجراء أكثر طرق الإقصاء وضوحًا. ويسود مجالات الجنس والسياسة أكثر من غيرها. ورغم أن فوكو يتحدث عن هذه الإجراءات في المجتمعات الغربية، فيمكن تعميمها على بقية المجتمعات. ففي كل مجتمع هناك مجموعة من الخطوط الحمراء التي لا يحق التحدث فيها. وكثيرة تلك الخطوط في الدول المستبدة أكثر من الدول الديمقراطية.

ثانيًا: القسمة بين العقل والجنون. فمع نهاية العصور الوسطى، لم تعد هناك إمكانية للحوار بين العقل والجنون. فخطاب المجنون لا معنى له. ورغم محاولة ممارسة التحليل النفسي إعطاء معنى لهذا الخطاب، فإنها انتهت إلى تكريس هذه القسمة بين العقل والجنون.

ثالثًا: التعارض بين الحقيقة والخطأ. ويعد هذا الإجراء أكثر طرق الإقصاء خفاء. ويعتبر فوكو أنه منذ اللحظة الأفلاطونية، تأسس هذا التعارض بين الحقيقة والخطأ. ومنذ هذه اللحظة، ارتبطت إرادة الحقيقة بعلاقة السلطة.

وفضلاً عن منظومات الإقصاء السابقة، تحدث فوكو عن إجراءات رقابة داخلية للخطاب تتخذ شكل مبادئ التصنيف والتنظيم والتوزيع. ورغم اختلاف إجراءات المراقبة الداخلية عن إجراءات المراقبة الخارجية، فالغاية واحدة، وهي مراقبة الخطاب. من هنا لم يعد هذا الأخير "كنزًا مليئًا بالدلالات" كما تصور الموقف التفسيري، وإنما أصبح ثروة متناهية ومحدودة ومرغوبة، لها قوانينها، وشروط امتلاكها وتوظيفها. مما يعني ارتباطه بالسلطة، وبعلاقات القوى السائدة في المجتمع. (فوكو، 1969/ 1987. ص: 156)

وإذا انتقلنا إلى الحديث عن عملية إنتاج المعرفة العلمية، نجد أن بناء هذه المعرفة يخضع لمجموعة من العمليات (التسجيل، التوثيق، التراكم...). ويمر استقاء المعلومات، واستخلاص النتائج بمجموعة من المراحل: القياس، التحقيق، الفحص. وتمثل هذه الأدوات أشكالاً أخرى لممارسة الرقابة على المعرفة العلمية ووسائل لممارسة السلطة: "فالقياس وسيلة لإقامة النظام وإعادته، أي النظام السوي المستقيم في مجال صراع العناصر أو البشر (..) وكذلك التحقيق، فهو وسيلة لملاحظة واستعادة الأشياء والوقائع والأحداث والحقوق والممتلكات (..) أما الفحص، فهو وسيلة لإثبات أو إرساء المعايير والقواعد والتمييزات والإقصاء (..)" (السيد ولد باه، 1994. ص: 169) وبهذا المعنى، يبدو أن طرق بناء المعرفة العلمية تعتمد آليات في الفحص والرقابة والتحقيق لا تقل صرامة عن القواعد القانونية التي تعتمدها السلطة السياسية لفرض النظام العام داخل المجتمع. وليس من قبيل المصادفة أن يرتبط تطور المعرفة العلمية بازدهار المجتمعات الحديثة، ويتزامن ميلاد العلوم الإنسانية مع تطور سلطة الدولة الحديثة التي سخرت هذه العلوم من أجل فرض هيمنتها على المجتمع وإخضاع الأفراد.

يكشف فوكو هذا التداخل الموجود بين السلطة والمعرفة في كثير من مؤلفاته. ففي مؤلفه "تاريخ الجنون" مثلاً، يؤكد أن مصحات الطب النفسي ليست بريئة كما نتصور، وليست "طبية" تمامًا، بل إنها متواطئة، بشكل أو بآخر، مع مؤسسات القمع الأخرى في المجتمع. وأنها مظهر من مظاهر هيمنة الطبقة البورجوازية على مفاصل المجتمع. هذه الطبقة التي فرضت معاييرها وقيمها الأخلاقية. وبالتالي، ميزت بين السلوك العادي والسلوك الشاذ. أو بعبارة أدق، ميزت بين سلوك الإنسان السوي وسلوك المجنون. وبهذا الشكل، وضعت القسمة بين العقل والجنون. مما يعني أن هيمنة البورجوازية لم تكن اقتصادية وسياسية فحسب، إنما كانت هيمنة ثقافية وأخلاقية أيضًا.

وقد سخرت تلك الطبقة المعرفة الطبية، خاصة الطب النفسي لمحاصرة الجنون وفهمه. ولكن هذا التحليل لظاهرة الجنون قام على أساس العقل. "فنظرة الثقافة الغربية للجنون ظلت في جوهرها معرفة عقلانية، حتى عندما يحمل التاريخ العقل على الاتساع وتصحيح ذاته أو تكذيبها. إنها دومًا خطاب العقل حول العالم، رؤية العقل للجنون (...) كما يقول بارت تكون دائمًا انطلاقًا من أحد حدّيها، فهذه المسافة ليست سوى حيلة العقل القصوى." (السيد ولد باه، 1994.ص: 160) وهكذا فمهما اتسع صدر المعرفة وتطورت أدواتها، فإن النظرة إلى الجنون تتخذ صيغة "الإقصاء". وبالتالي، فإن الموضوعية التي يتحدث عنها علماء النفس في مقاربتهم لهذه الظاهرة ليست سوى ادعاء زائف. إن نظرة العصر الوسيط إلى الجنون أكثر تسامحًا وانفتاحًا من نظرة العصر الحديث الذي أصبحت فيه "الموضعة" موضة منتشرة.

من هنا نجد فوكو ينتقد المعجم الوضعي للطب العقلي. ولا يهدف هذا النقد إلى كشف حدود نظرة هذا التخصص المعرفية وأدواته المنهجية. إن نقده أعمق من ذلك، فهو يرفض صرامة لغة العقل التي هي لغة النظام (السلطة). لذلك لا يهتم فوكو بما يقوله الأطباء النفسانيون عن المجانين، وإنما همّه الإنصات إلى ما يقوله المجانين عن أنفسهم. يقول في هذا السياق: "لم أرد أن أدرس تاريخ هذه اللغة (أي لغة الطب النفسي)، وإنما بالأحرى أركيولوجيا ذلك الصمت (الصمت المفروض على الجنون)." (فوكو،1961/2006.ص: 9) وهكذا فرغم النجاح الذي حققه فرويد في إزالة الهالة السحرية والأسطورية عن ظاهرة الجنون، فإنه لم يستطع النفاذ إلى عمق هذه الظاهرة والإنصات لخطاب المجنون. يقول فوكو: "لقد تناول فرويد الجنون من زاوية لغوية، وأعاد بناء أحد العناصر الأساسية لتجربة قمعها التيار الوضعي. فلم يضف إلى لائحة العلاجات السيكولوجية شيئًا مهمًا، بل استعاد داخل الفكر الطبي، إمكانية حوار مع اللاعقل." (فوكو،1961/2006.ص: 355) يعني ذلك أن فرويد لم يفهم صوت المجنون، لأن لغة الجنون مختلفة عن لغة العقل. ولذلك سعى فوكو إلى تحرير خطابه، وإخراج المجنون من سجن المؤسسات الطبية والمصحات النفسية التي كانت أداة لهيمنة السلطة على مجموعة من الأفراد الخارجين عن القوانين والعادات الاجتماعية. إن ممارسة الطب النفسي مثال واضح للعلاقة الوثيقة بين السلطة والمعرفة.

نستخلص من تحليلنا السابق وهم مقولة حياد المعرفة واستقلاليتها. فهل معنى ذلك أن كل النظريات هي مجرد أدوات لخدمة سلطة معينة؟ الجواب: لا. فهناك نظريات اجتماعية ونفسية مستقلة – نسبيًا – عن السلطة، وتتخذ الفهم والإدراك هدفها، والحقيقة غايتها. ولكن تأكيد فوكو على الترابط الموجود بين المعرفة والسلطة لا ينفي الفكرة السابقة، فهو لا ينكر إمكانية قيام معرفة خالصة تسعى إلى الفهم، وتنشد بلوغ الحقيقة. إن ما يسعى إليه فوكو هو تأكيد نسبية المعارف والحقائق، ونقد التيارات الدوغمائية التي آمنت بحقيقة مطلقة واحدة. ولا يقتصر نقده على الفلسفات المثالية الكلاسيكية، وإنما يطال النزعات الوضعية المعاصرة التي رفعت شعار العلم، فحتى هذا الأخير لا يسلم من الخضوع لعلاقات القوى، واستغلال السلطة.

المحور الثاني: نقد النظرية الكلاسيكية للسلطة

منذ تأليف ماركس كتاب "نقد القانون السياسي الهيجلي"، أصبح بالإمكان التمييز بين نظريتين متضادتين تسيطران على المسرح السياسي، وهما: النظرية اللبرالية (المثالية) والنظرية الماركسية (المادية). الأولى: تقارب السلطة استنادًا على مفاهيم: السيادة، والقانون، والدستور. أما الثانية (النظرية الماركسية): فتحلل قضية السلطة من خلال مفاهيم: الصراع الطبقي، والهيمنة، والاستغلال. وتعتبر الدولة أداة لخدمة مصالح الطبقة البورجوازية. وقد تعمق الانقسام بين النظريتين في القرن العشرين. وانتقل ذلك التمييز من المستوى النظري إلى المستوى العملي، بحيث تجلى ذلك في انقسام العالم بعد الحرب العالمية الثانية إلى معسكرين: المعسكر اللبرالي والمعسكر الاشتراكي. وهكذا أصبح الخلاف النظري واقعًا معاشًا.

ورغم البون الشاسع بين التصورين السابقين، يشير فوكو إلى أن هناك نقطة التقاء بين التصورين الليبرالي والماركسي للسلطة، يسميها بـ"الاقتصادية" في نظرية السلطة. ويتأسس تصور النظرية الكلاسيكية على اعتبار أن: "السلطة حق يمتلك أو ثروة. وبالنتيجة يمكن لنا تحويله أو التخلي عنه، بشكل كلي أو جزئي، وذلك بواسطة عقد قانوني (...)" (فوكو،1976/2003. ص: 41) ففي إطار التصور الكلاسيكي للسلطة، ينظر إلى هذه الأخيرة "كشيء" قابل للامتلاك. والشيء الذي يمكن امتلاكه، يمكن التنازل عنه، بهدف إقامة سلطة عامة ذات سيادة. من هنا يظهر الربط الموجود بين السلطة والثروة. ويتجلى ذلك بشكل واضح في التصور الماركسي، بحيث تكمن الوظيفة الاقتصادية للسلطة في كونها وسيلة للمحافظة على علاقات الإنتاج، وضمان استمرار هيمنة الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج. هذا ما يؤكد ارتباط السلطة بالاقتصاد، إذ تجد السلطة مبرر وجودها التاريخي في الاقتصاد. وهذا ما يتبناه أصحاب النظرية الماركسية.

صحيح أن الماركسيين قد وجهوا انتقادات عنيفة للتصور اللبرالي للسلطة كما سبقت الإشارة. ورغم أهميته، فإن فوكو يعمل على تتميم هذا النقد الماركسي، بل إنه يتجاوزه. ففيلسوفنا ينتقد كلا التصورين الليبرالي والماركسي، ويعمل على خلخلة المسلمات التقليدية للسلطة. وفي هذا السياق، يرى دولوز أن طرح فوكو للسلطة "هو طرح موجه ضد الماركسية، وكذا ضد المفاهيم البورجوازية للسلطة (...)" (دولوز، 1986/ 1987.ص: 30) فرغم أهمية الانتقادات التي وجهتها الحركة اليسارية إلى الماركسية، فقد ظلت مشدودة إلى بعض الأفكار الماركسية. ويرجع الفضل إلى فوكو الذي قاد مع جماعة من اليساريين حركة "الإخبار عن السجون" (G.i.P) ما بين سنتي 1971 و1973، في تنبيه هذه الحركة من الوقوع في مجموعة من المزالق، من خلال الربط بين صراع السجون وباقي أشكال الصراع الأخرى. (دولوز، 1986/1987.ص: 31) وتكشف هذه الحقيقة -انخراط فوكو ضمن حركة الإخبار عن السجون– عن فكرة بسيطة وجوهرية، وهي أن مواجهته للسلطة كانت واقعية، قبل أن تتخذ شكلها الحقيقي على المستوى النظري. لقد عاين أوضاع السجناء وكتب تقارير في هذا الصدد، هدف من خلالها إلى كشف فشل أداء السجن لوظيفته المتمثلة في الإصلاح. وبالتالي، الدعوة إلى مراجعة قانون العقوبات.

في مؤلفه "المراقبة والعقاب"، يدعو فوكو إلى التخلي عن مجموعة من المسلمات التي طبعت الموقف اليساري، وأهمها:

◉ مسلمة الملكية: ومضمونها أن السلطة شيء قابل للامتلاك، وهي في يد طبقة ما. و"ملكيتها لها أساسها الغلبة." (دولوز، 1986/ 1987.ص:34) وعلى خلاف هذا التصور، يصرح فوكو "أن السلطة لا تعطى ولا تتم مبادلتها ولا تؤخذ، بل تمارس، وإنها لا توجد إلا في الفعل (...)" (فوكو، 1976/ 2003. ص: 42) فالسلطة ليست سلعة مادية قابلة للتصرف والتفويض. وبالتالي، فهي ليست نتاج العلاقات الاقتصادية، بل "إنها استراتيجية أكثر منها ملكية، ولا ترجع آثارها ومفاعيلها إلى تملّك ما، بل تعود إلى تدابير وحيل ووسائل وتقنيات وأعمال (...)."(دولوز، 1986/ 1987. ص: 31) ولا يعني ذلك التحديد إنكار حقيقة الصراع الطبقي. لكن هذه النظرة الجديدة للسلطة، باعتبارها استراتيجية، ترسم كما يقول دولوز لوحة مغايرة، بمناظر مختلفة وأشخاص ليسوا هم نفس الأشخاص، وطرق مختلفة عن الطرق المألوفة التي عودنا عليها التاريخ التقليدي.

◉ مسلمة انحصار موقع السلطة وتميزه: ومفادها أن السلطة تتركز في سلطة الدولة، باعتبارها مجموعة من الأجهزة المجسدة للسلطة. مما يعني أن تلك الأجهزة خاضعة لسيطرة الدولة، وليس لها أي استقلال ذاتي. على العكس من ذلك، يرى فوكو: "أن الدولة ذاتها، مفعول وأثر للمجموع، ونتيجة لكثير من الدواليب والبؤر التي تجد موضعها في مستوى مختلف أتم الاختلاف عن ذلك الذي توجد فيه السلطة، وتمثل من جهتها أساسًا لا مرئيا لها، أي ميكروفيزياء السلطة." (دولوز، 1986/ 1987. ص: 32) وهكذا فرغم ما يبدو من تبعية مجموعة من الأجهزة والمؤسسات للدولة (جهاز الشرطة، مؤسسة السجن مثلاً)، فإن لها استقلالاً ذاتيًا ووجودًا متميزًا عن وجود الدولة. ويتضح كذلك أن السلطة غير متمركزة في مؤسسات الدولة، بل إنها تخترق الجسد الاجتماعي برمته، إنها منتشرة وغير متموقعة في مكان بعينه إلى حد أن رصد آثارها يقتضي ارتداء المنظار الميكروفيزيائي.

◉ مسلمة التبعية: تدل هذه المسلمة على أن السلطة التي تجسدها الدولة تابعة لنمط إنتاج معين. ومن هنا تبدو العلاقة وثيقة بين نمط الإنتاج السائد وآليات السلطة التي تمارس. هذا الربط، أو بالأحرى، هذه التبعية هي ما يؤكدها أصحاب التصور الماركسي الذي يرى أن الاقتصاد هو المحدد الأساس لكل شيء. غير أن الأمر بالنسبة لفوكو مختلف: "فليست علاقات السلطة في موقع براني بالنسبة لباقي العلاقات (...) ولا تحتل موقع بنية عليا. بل توجد حيثما تلعب مباشرة دورًا منتجًا." (دولوز، 1986/ 1987. ص: 32) ولذلك يتجاوز فوكو التصور الماركسي لعلاقة السلطة بالاقتصاد. في مقابل هذه الهرمية، يقترح تحليلاً وظيفيًا، لأن السلطة تتسم بنوع من المحايثة، حيث "تشكل السلطة والتقنيات التأديبية عددًا من القطاعات المترابطة فيما بينها التي يمر منها أفراد ما أو يقيمون بها بأجسادهم ونفوسهم (الأسرة، المدرسة، المصنع) (...) فمن سمات "السلطة" أنها ماثلة في حقلها ومحايثة له، دون أن توحده توحيدًا متعاليًا." (دولوز، 1986/ 1987. ص: 33) كما تتسم بنوع من الاستمرارية والاتصال دون مركز، إضافة إلى ترابط قطاعاتها دون أن تكون مجتمعة.

◉ مسلمة الجوهر والأعراض: ومضمونها أن "للسلطة جوهر، كما أنها عرض يظهر على أولئك الذين يملكون زمامها (الغالبون) من خلال تميزهم عن أولئك الذين تمارس عليهم تلك السلطة (أي المغلوبون)." (دولوز، 1986/ 1987. ص: 33) على العكس من ذلك، يذهب فوكو إلى التأكيد بأنه ليس للسلطة جوهر، بل هي إجرائية. وليس لها عرض، بل إنها علاقة. وعلاقات السلطة هي علاقات القوى. ثم إنها لا تمارس على المغلوبين فقط، بل تخترق المجتمع برمته وتحاصر الجميع. فالسلطة لا تمارس من الأعلى نحو الأسفل، لأن التأثير متبادل. ويوضح فوكو كيف أن إصدار الملك لأوامر الحبس والاعتقال، يعني الاستجابة لطلبات الناس، وأحيانًا أبسط الناس. مما يعني أنه ليس متعاليًا على السلطة، بل إنه خاضع لتأثيرها.

◉ مسلمة أنماط التأثير: مضمونها أن "السلطة تتصرف بعنف أو تمارس نفسها كإيديولوجية، تارة تقمع، وأخرى تموه وتخدع وتوهم، تارة تتقمص زي الشرطة، وتارة تتخذ شكل دعاية." (دولوز، 1986/ 1987. ص: 34) بدل النظر إلى السلطة كآلية لممارسة القمع أو باعتبارها إيديولوجيا، يجب اعتبار هذين العنصرين (القمع والإيديولوجيا) مظهرين من مظاهر السلطة ونتاج لها. فالسلطة لا تتخذ دائمًا شكل القمع، ولا تمارس من خلال العنف. بل يتم تصريفها في عمليات وطرق مختلفة: التنظيم، التوزيع، التصنيف. وفضلاً عن ذلك، فإنها تعمل على إبداع الواقع بقدر ما تمارس القمع، كما تنتج الحقيقة. ويشير دولوز إلى الجنس كمثال يقدمه فوكو في كتابه إرادة المعرفة، للتأكيد على وجود قمع جنسي يفعل فعله في اللغة. إن تحليل آليات القمع تجاه الفرد، والغريزة، والطبيعة...إلخ، أهم وأفضل طريقة لمعرفة كيف تمارس السلطة، وكيف تنتج الواقع.

إن هدف فوكو من زحزحة هذه المسلمة (والتي تعتبر القمع والايديولوجيا مظهران للسلطة)، هو التأكيد على أنهما نتاج لها وأثر من آثارها. وبالتالي، فلا يمكن تفسير السلطة من خلالهما.

◉ مسلمة الشرعية: مضمونها أن الدولة تمارس سلطتها عبر القانون، وأن هذا الأخير يطبق على القوى المتوحشة، وهو حامل حرب وانتصار طرف على آخر. وبهذا المعنى، يقابل القانون فكرة اللاشرعية. بدل ذلك، يتجاوز فوكو هذا التقابل، لأن "القانون دوما جمع وتركيب لنزوعات لا شرعية عن طريق التفريق بينها بتقنينها وتقعيدها." (دولوز، 1986/ 1987. ص: 36) إن قانون الشركات على سبيل المثال، يوضح أن القوانين لا تتعارض كليًا مع اللاشرعية. فبعض القوانين تجسد نزوعات لا شرعية وتنظمها حتى تتخذ "طابعًا شرعيًا". وهكذا تصير تلك الخروقات مقننة ومنظمة، كما يتجلى تهافت مقولة الشرعية في الفترات التي تعقب الثورات، ففيها تصدر قوانين قد تحرم ممارسات كانت تعتبر في السابق مشروعة. ويبقى هدف مختلف الأنظمة من توسيع نطاق القانون هو إضفاء طابع الشرعية على السلطة التي يمارسها النظام.

هكذا عمل فوكو على خلخلة المسلمات التقليدية التي ظلت تحكم نظرتنا إلى السلطة. ورغم أهمية النقد الذي وجهه الطرح الماركسي للسلطة، فقد ظل سجين ذلك التصور التقليدي. لذلك ثار هذا الفيلسوف على الجميع. فهو يتفق مع النقد الماركسي للسلطة. لكنه يتجاوزه، ويعمل على نقده. إن نقد فوكو للسلطة هو نقد للنقد: نقد النقد الماركسي للسلطة إن صحت العبارة. وبعد أن يقلب فوكو هذه النظرية التقليدية للسلطة، يبني نظرية جديدة.

المحور الثالث: نظرية الهيمنة بديلاً عن نظرية السيادة

إذا كانت السلطة حصيلة علاقات قوة وليست نتيجة تنازل أو عقد، ولا حصيلة علاقات اقتصادية. فكيف يمكن تحليلها: هل من خلال مفاهيم: السيادة والشرعية والقانون؟ أم من خلال مفاهيم المعركة والمواجهة والحرب؟

في جوابه عن هذا السؤال، يقدم فوكو أطروحة جديدة تتلخص في أن "السلطة هي الحرب، هي الحرب المستمرة بوسائل أخرى." وواضح أنه يقلب أطروحة كلوزفيتش القائلة بأن: "الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى". فما معنى القول بأن السياسة هي امتداد للحرب؟

يعني ذلك أن العلاقة بين السلطة والقوة وثيقة. فالسياسة لا تضع حدًا للحرب، وإنما تبقيها في حالة كمون، وتحافظ على تغليب موازين القوة، وتأكيد التفاوت بين الناس. وبالتالي، فداخل ما يسمى "بالسلم المدني"، تستمر دائرة الصراع حول السلطة وخارجها. ويعني ذلك أيضًا، أن القرار النهائي يأتي دائمًا من الحرب، "حيث السلاح هو الحكم (أو حيث يحتكم إليه)." (فوكو، 1976/ 2003.ص:44)

من جهة ثانية، يميز فوكو بين فرضيتين اثنتين: الأولى: يسميها، مجازًا، بفرضية رايش التي تقوم على فكرة أن السلطة أداة للقمع. والثانية: هي فرضية نيتشه، وترى أن جوهر علاقات السلطة هي: "المواجهة الشرسة للقوى". ورغم الاختلاف الموجود بين الفرضيتين، فإن فوكو يربط بينهما، حيث أن الحرب تؤدي إلى الاضطهاد والقمع.

يقود التحليل السابق إلى التمييز بين منظورين للسلطة: المنظور التقليدي الذي نجده لدى فلاسفة القرن الثامن عشر الذين اعتبروا السلطة "حقًا أصليًا" يمكن التنازل عنه في إطار ما يسمى بالعقد من أجل تأسيس سلطة ذات سيادة. وفي إطار هذا التصور، يعتبر العقد حدًا على السلطة، ويمثل الطغيان والقمع تجاوزًا لذلك الحد. ويسمى هذا التصور بالمنظور القانوني. أما التصور الثاني، فينبني على مقولتي الحرب والقمع. وفي إطاره، لا يمكن إقامة تقابل بين الشرعي وغير الشرعي، وإنما التقابل يكون بين الصراع والنضال، كما يعتبر القمع أثرًا لممارسة السلطة، واستمرارًا لعلاقات الهيمنة المميزة لها. وهذا الطرح هو الذي يتبناه فوكو.

إن المنظور الفوكوي للسلطة هو نقد للنظرية القانونية والسياسية للسيادة، والتي ظهرت في العصر الوسيط مع حركة بعث القوانين الرومانية، وتمحورت حول مشكلة الملكية، وتطورت خلال العصر الحديث مع فلاسفة العقد الاجتماعي. فالسؤال الذي أرّق هوبز -أحد أعلام هذه النظرية-هو: كيف تشكّل جسد وحيد تحركه روح واحدة، هي السيادة؟

ومن هنا اتجه إلى البحث في أصل السلطة داخل الدولة التي يجسدها الأمير الممثل للسيادة. يقول فوكو في نقده لهوبز: «(…) بدلاً من طرح مشكلة الروح المركزية هذه، أعتقد أنه يجب أن نحاول (…) دراسة الأجساد الطرفية المتعددة، هذه الأجساد المكونة بواسطة السلطة، بوصفها ذواتا». (فوكو، 1976/ 2003. ص: 54) ولذلك يدعو إلى تجاوز المنظور القانوني للسيادة، والعمل على تحليل السلطة من خلال آليات ممارستها والعوامل المادية وأشكال السيطرة وجاهزيات المعرفة. «وإجمالاً، يجب التخلص من نموذج اللفيتان ومن نموذج الإنسان الاصطناعي الذي هو في الوقت نفسه آلي مصنوع وأحادي ويجمع كل الأفراد الواقعين، حيث يشكل المواطنون (الجسد)، وتكون السيادة هي الروح». (فوكو، 1976/ 2003. ص:58) يجب دراسة السلطة بعيدًا عن هذا التصور، وهذا ما حاول فوكو القيام به في تشريحه لسلطة الطب النفسي، وجنسانية الأطفال، والنظام العقابي.

إن المنظور القانوني القائم على فكرة السيادة عاجز عن تقديم تحليل دقيق للسلطة، لأن هذا المنظور يتتبع ظاهرة السلطة من المستويات العليا إلى المستويات السفلى، بشكل تنازلي، ومن المركز إلى الأطراف. في حين أن تحليل السلطة يقتضي تتبع الآليات الدقيقة والضئيلة. وبهذا الشكل، يمكن الوصول إلى المستويات العليا. ويعتبر نقد فوكو لظاهرة الجنون مثالاً لنقد التحليل الاستنباطي للسلطة، فهو يرى أنه من السهل استنتاج أن استبعاد المجنون نتيجة لهيمنة البورجوازية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، بحيث تم التركيز على الفرد الفاعل والمنتج. وبالمقابل، تم إقصاء المجنون، لأنه لا يتلاءم مع هذه المنظومة الاقتصادية الجديدة. بدل هذا التحليل الاستنباطي، يذهب فوكو إلى التأكيد على أنه يجب الوقوف عند آليات الرقابة التي لعبت دورًا في استبعاد المجنون في المستويات الدنيا داخل الأسرة والمحيط القريب والوسط الاجتماعي، أي أنه من الأفضل الانطلاق من الأطراف. ومن خلال ذلك التحليل، يتبين أن مصلحة البورجوازية لا تكمن في استبعاد المجانين أو قمع جنسانية الأطفال، إنما مصلحتها تتجلى في آليات الإبعاد والمراقبة التي شكلتها لخدمة مصلحتها. «فهذه الآليات من الممكن أن تؤدي إلى نوع من الربح الاقتصادي وإلى نوع من الفائدة السياسية. ومن الطبيعي أن تكون مساندة بآليات عامة وبنظام الدولة في كليته». (فوكو، 1976/ 2003. ص:57) من هنا يتضح أن مصلحة البورجوازية ليست هي الإبعاد كما سبقت الإشارة، فما يهم هي آليات الإبعاد.

ومما يؤكد عجز المنظور القانوني عن تحليل ظاهرة السلطة هو التطور الذي عرفته ممارستها في القرنين السابع عشر والثامن عشر. ويتمثل ذلك التطور في ظهور نمط جديد من السلطة يعتمد تقنيات جديدة، وأدوات جديدة مغايرة للآليات التي تعتمدها سلطة السيادة. وحسب توصيف فوكو لهذه الآلية الجديدة للسلطة، فما يميزها هو كونها: "تطبق أولاً على الأجساد أكثر من كونها تطبق على الأرض وما تنتجه. وتقوم على أشكال أكثر قهرًا ومراقبة مغايرة للوجود المادي للسيادة، كما تعتمد على اقتصاد جديدة للسلطة مبني على آليات فعالة للمراقبة والهيمنة. وإذا كان موضوع سلطة السيادة هو الأرض، فموضوع هذه السلطة الجديدة هو الجسد". (فوكو، 1976/ 2003.ص:60) ويسمي فوكو هذا النمط من التدبير بالسلطة الانضباطية: disciplinaire Pouvoir. لكن إذا كانت نظرية السيادة عاجزة عن فهم التحولات الجديدة، فبماذا نفسر استمرارها؟

 يجيب فوكو بأن استمرار سلطة السيادة يرجع إلى كونها أداة نقدية ضد الملكية، وأساس تطور المجتمع الانضباطي. ومن جهة ثانية، لأنها "كانت هي المنظمة للقانون التشريعي الذي يسمح بتركيب آليات الانضباط من خلال نظام من القوانين يقنع ويغطي الإجراءات التي تخفي ما يمكن أن يكون هيمنة وتقنيات الهيمنة. وتضمن لكل الذين يمارسونها حقوقهم من خلال سيادة الدولة." (فوكو، 1976/ 2003.ص: 61) وبهذا المعنى، فقد كانت سلطة السيادة هي الغطاء الذي يضفي الشرعية القانونية على آليات الانضباط وأدوات الإكراه التي كانت تمارس بطرق خفية.

وإلى جانب القوانين، ساهمت العلوم الإنسانية في إنتاج خطاب جديد للإكراه والانضباط، بحيث شكلت المعرفة التي أنتجتها القاعدة التي استندت عليها السلطة الانضباطية. وبفضل تكامل آليات الانضباط مع مبادئ القانون، تم إنتاج ما سماه فوكو بـ"مجتمع التطبيع". وفي هذا المجتمع صار الانضباط والسيادة "قطعتان مشكلتان للآليات العامة للسلطة." (فوكو، 1976/ 2003.ص: 63)

لا يكتفي فوكو بالقول بعجز النموذج القانوني للسيادة، وإنما يعمل على تفكيك مقومات هذه النظرية ليكشف حدودها. وتتلخص هذه المقومات في ثلاثة عناصر، وهي: الذات الخاضعة، والسلطة المؤسسة الممثلة للشرعية، ثم القانون. وبدل الاعتماد على هذا النموذج، يقترح فوكو نموذجًا جديدًا"(ينطلق) من استخراج تاريخي وتجريبي لعلاقات السلطة ولعلاقات الهيمنة. إنها نظرية الهيمنة، أو أشكال الهيمنة." (فوكو، 1976/ 2003.ص: 66) يعني ذلك أنه بدل الانطلاق من الذات كموضوع للإخضاع، يجب الانطلاق من علاقات الإخضاع التي تصنع تلك الذات الخاضعة. كما يقتضي تجاوز النظر إلى السلطة كآلية لممارسة السيادة، من أجل الانكباب على عوامل وتقنيات الهيمنة المترابطة والمتحدة، أي تجاوز التحليل الماكرو-فيزيائي للسلطة، واستبداله بتحليل ميكرو-فيزيائي. فما دلالة هذا التحليل الجديد للسلطة؟

يتأسس هذا التحليل على تجاوز النظر إلى السلطة بوصفها قوة متمركزة. وفي المقابل، ينبغي اعتماد التحليل المجهري الدقيق لها، اعتمادًا على مفاهيم الاستراتيجية والتكتيك والحرب. وفي هذا السياق يقول: "ولكن دراسة هذه الميكروفزياء تفترض أن السلطة التي تمارس فيها يجب أن لا تؤخذ كملكية، بل كاستراتيجيات، وأن مفاعيلها التسلطية لا تعزى إلى تملك، بل إلى استعدادات وإلى مناورات، وإلى تكتيكات، وإلى سير عمل (...) وأن ينظر إليها على أن نموذجها هو الصراع المستمر(...)."(فوكو، 1975/1990.ص: 64) ذلك أن السلطة ليست وحدة مجسدة لسيادة الدولة، وإنما هي شبكة منتشرة ومخترقة للجسم الاجتماعي برمته. لذلك فإن معاينة آثار هذه السلطة الذرية تفترض تحليلاً ميكرو-فيزيائيًا. وبهذا المعنى، يقصد بميكروفزياء السلطة: نظرية السلطات الدقيقة والمنتشرة والمصغرة، أو كما يقول جيل دولوز بلغة شعرية: "التحليل هنا تحليل ميكروفزيائي أكثر فأكثر، واللوحات فيزيائية أكثر فأكثر، توضح آثار التحليل لا بالمعنى العلمي والسببي، بل بالمعنى البصري الضوئي للون." (دولوز، 1986/ 1987. ص: 30) وبفضل هذا النموذج تمكن فوكو من تتبع آثار السلطة في السجون والمصحات العقلية والمدارس.

هكذا أرسى فيلسوفنا نموذجًا جديدًا يتخذ من تحليل علاقات الهيمنة مفتاحًا لفهم ظاهرة السلطة. وفي ظل هذا النموذج، لا يهدف القانون إلى تكريس الشرعية، إنما يعمل هو الآخر على فرض الطاعة والخضوع. وهذا ما أخفقت نظرية السيادة في فهمه حينما اعتبرت القانون حدًّا على السلطة، ورأت في الهيمنة والإخضاع انقلابًا على الشرعية. لقد أصبحت طرق الإخضاع تمارس استنادًا على "أدوات مشروعة".

وتتضح أهمية هذا الطرح الذي قدمه فوكو في قدرته على استيعاب النظريات السابقة لتحليل السلطة وتجاوزها في آن واحد: ففيلسوفنا ينتقد التصور الليبرالي للسلطة، تمامًا مثلما ينتقد التصور الماركسي. ويؤكد أن قضية الهيمنة والاستبداد لا تخص الأنظمة الشمولية كما اعتقد بعض الفلاسفة (أرندت مثلاً)، وإنما تسود المجتمعات الديمقراطية أيضًا.

المراجع:

• فوكو، مشيل. (1987/1969). حفريات المعرفة. (ترجمة سالم يفوت). الدار البيضاء- بيروت: المركز الثقافي العربي.

• فوكو، مشيل.  .(1966/1990) الكلمات والأشياء. مجموعة مترجمين: مطاع صفدي، سالم يفوت، بدر الدين عروكي، جورج أبي صالح، كمال اسطفان.(  بيروت: مركز الإنماء القومي.

• فوكو، مشيل. (1976/2003) يجب الدفاع عن المجتمع. (ترجمة: الزواوي بغورة). بيروت: دار الطليعة.

• فوكو، مشيل. (2006/1961). تاريخ الجنون. (ترجمة: سعيد بنكراد). الدار البيضاء –بيروت: المركز الثقافي العربي.

• دولوز، جيل. (1987/1986). المعرفة والسلطة: مدخل لقراءة فوكو. (ترجمة: سالم يفوت). الدار البيضاء - بيروت: المركز الثقافي العربي.

• ولد أباه، السيد. (1994). جنيالوجيا التاريخ والحقيقة. بيروت: دار المنتخب العربي.

• موسى، حسين. (2009). الفرد والمجتمع عند مشيل فوكو. بيروت: دار التنوير.


عدد القراء: 448

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-