سياسة الإذلال حكايات عن الخزي والإهانةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-09-26 22:35:45

ميادة سفر

دمشق

الكتاب: "سياسة الإذلال (مجالات القوة والعجز)"

المؤلف: أوتا فريفرت

المترجم: د. هبة شريف

الناشر: دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع

تاريخ النشر: 2021

عدد الصفحات: 408 صفحة

تبدأ المؤرخة الألمانية أوتا فريفرت كتابها "سياسة الإذلال - مجالات القوة والعجز" الصادر عن دار ممدوح عدوان عام 2021، ترجمة هبة شريف، باستعراض عدة حوادث تاريخية عن ممارسات الإذلال والعار الذي يلحق بالأفراد والدول، عبر تاريخ طويل مليء بالخزي والتجريس والتحقير والإهانة والتشهير، بوسائل وأساليب عدة، بدءًا من عمود التشهير في الساحات العامة وصولاً إلى التنمر والتشهير عبر الإنترنت، كتاب يحكي عن الكرامة الإنسانية عبر التاريخ وكرامة الأوطان بما طرأ عليها من تغيرات وما عانته من انتهاك.

كان فلاسفة العصور القديمة يعرفون أنّ العار شعور ذو وطأة كبيرة، وفعالية قوية، ويمكن أن يؤدي إلى الانتحار، بعد الإشارة إلى عدة حوادث تضمنت مظاهر من الخزي وامتهان الكرامة في العصر الراهن، تتساءل فريفرت عن جدوى الخزي؟ ولماذا ينتشر في مجتمعات تدعي الاهتمام بالكرامة والاحترام؟ محاولة في كتابها هذا تسليط الضوء على الرموز والممارسات، متتبعة تطورها من القرن الثامن عشر في أوروبا تحديدًا، مع لمحات من مناطق أخرى في العالم، وفي سياق حديثها عن الاذلال كسياسة، تشير الباحثة إلى استغلال المجتمعات المعاصرة الخزي والإذلال كتقنيات اجتماعية وسياسية لممارسة السلطة، فالإذلال لا يتم بسبب خلافات صغيرة تافهة، بل لا بدّ أن يحدث خرق للمعايير السائدة التي يعد الحفاظ عليها حماية لمصالح مجموعة أكبر، فإذا قام شخص بخرق تلك المعايير علانية، تقوم الجماعة باستبعاده ومعاقبته والتشهير به.

إلى القرن الثامن عشر في أوروبا تأخذنا المؤرخة الألمانية أوتا فريفرت عبر صفحات مليئة بالوجع والخذلان والخجل، لتحكي لنا قصة الإذلال والتشهير الذي كان يمارس بحق الكثيرين لمجرد خروجهم عن العادات والممارسات المألوفة في المجتمع، في ذلك الوقت كانت أعمدة التشهير والعار منتشرة في كل مكان، في الأسواق وساحات الكنائس والساحات العامة، إضافة إلى مقاعد التشهير، ومقاعد العار، في ذلك الوقت كان فريدريش فيلهم الثالث وليًا للعهد في ألمانيا، وكان يتلقى دروسًا في القانون، إلا أنّ المفارقة كانت عدم ذكر أية كلمة عن التشهير الذي كان منتشرًا حينها.

لم تكن عقوبات الفضح والتشهير تتم في الخفاء، فقد كان الجمهور عنصرًا أساسيًا فيها سواء كان متفرجًا أم مشاركًا في تنفيذ العقوبة، لأن وجوده يؤكد حكم القاضي ويسوغه، فضلاً عن أهمية الردع الهدف المراد من عقوبة التشهير، فقد كان يقال: إنّ الخوف من عقوبة الخزي يمكن أن تمنع الناس من القيام بمثل تلك الأفعال، على الرغم من أنّ "الكرامة الإنسانية كانت تدهس بالأقدام أمام عمود التشهير" الأمر الذي يضع كرامة إنسان يشاهد امتهان كرامة آخر موضع تساءل أمام عقوبات تنحدر بالإنسان إلى مستوى الحيوان، من هنا بدأت الانتقادات تجاه عمود التشهير منذ القرن الثامن عشر، وتعالت الأصوات الداعية إلى رفض تلك العقوبات ومنع تطبيقها، لأنها لم ولا تصلح من شأن الإنسان، إنما تهدر كرامته وتصمه بالعار طوال حياته، وتمنع من إعادة اندماجه بالمجتمع الذي لا ينسى عادة مثل تلك المواقف، مما حدا بالكثير من التشريعات الحديثة في أوروبا إلى إعادة النظر بها، وانسحب تنفيذها إلى السجون التي بدأت تأخذ دورها كمؤسسات عقابية غير علنية، قبل أن يتم إلغاءها تدريجيًا بالشكل الذي كانت تمارس به، مع ظهور مفهوم الكرامة الإنسانية في التشريعات الحديثة، وإن كان ستبقي وتراعي الفوارق الطبقية بين أفراد المجتمع، كما سيستمر التمييز بين النساء والرجال، على الرغم من ذلك لا يمكن القول بانتهاء عصر التشهير والإهانة، لأنها ستظهر بأشكال أخرى في العصور الحديثة لا تقل مهانة عن سابقتها وهو ما ستشير إليه الباحثة في سياق كتابها.

قسمت أوتا فريفرت كتابها إلى ثلاثة فصول، متتبعة في كل فصل مرحلة من مراحل تطور عقوبات التشهير والخزي التي مورست من قبل الدول تجاه أفرادها، ولاحقًا تجاه دول أخرى انتقاماً لتصرفات تعرض لها مواطنوها في أوقات سابقة، كما حصل في الصين حين أجبرت بعد خسارتها في حروبها مع بريطانيا وفرنسا في حرب الأفيون وغيرها، إلى إرسال مندوبين من قبلها لتقديم اعتذارات لعدد من الدول الأوربية بسبب حوادث قتل أو اعتداء قام بها صينيون ضد مواطنين تابعين لإحدى الدول الأوروبية.

في الفصل الأول تعرض المؤرخة ممارسات الإذلال من أعمدة ومقاعد التشهير، والضرب والتوبيخ العلني، حلق شعر النساء والوصم بالنار، فضلاً عن ارتداء الأطواق أو أحجار العار والتجريس، بهدف واحد هو إهانة المعاقب، وجعله عبرة لمن اعتبر على حد زعمهم، على الرغم من أنّ تلك العقوبات لم تكن لتمنع البعض من الاتيان بأفعال مماثلة تستوجب نفس العقوبة التي نفذت أمامهم.

بدأت الانتقادات لعمود التشهير وعقوبات الفضح منذ القرن الثامن عشر، لأنها عقوبات تتناقض مع الكرامة الإنسانية، وباعتبار أنّ الكرامة هي ما يميز الإنسان عن الحيوان، تقول الباحثة: "المثير للانتباه أنّ الناس في ذلك العصر كانوا يلجؤون على نحو ضمني أو صريح إلى مقارنة الإنسان بالحيوان، إذا ما أرادوا التأكيد على خصوصية الإنسان"، فالعقوبات التي تستهدف الجسد، ليست مشينة ومذلة فقط لأنها تسبب الألم للإنسان، ولكن لأنها تعامله الحيوان، لذلك شنت العديد من الحملات والمطالبات لإلغاء تلك العقوبات التي تمتهن كرامة الإنسان وتذله امام الآخرين.

من ضفة أخرى وفي سياق حديثها عن سياسة الإذلال، تشير المؤرخة الألمانية إلى قيام النازيين في ألمانيا باستعادة ممارسات التشهير والفضح، بهدف منع اندماج اليهود في المجتمع الألماني، أو قيام علاقات معهم وذلك من أجل الوصول إلى العرق النقي، وحماية كرامة الجماعة، لأن الجماعة هي المرجعية العليا عند النازيين، ومصالح الجماعة في أعلى قائمة اهتماماتهم، لذلك غالبًا ما كانوا يعتبرون حماية الكرامة كحق شخصي فردي هي تصور فردي أناني، أسست النازية محاكم الشرف بغرض "تنظيم العمل الوطني"، كان الوصم العلني أسلوبًا متبعًا في هذه المحاكم، وكانت النساء اللواتي يقمن علاقات مع اليهود يعاقبن بحلق شعورهن، وأحيانًا يفرض العقاب نفسه على الرجال، وبذلك تقول الباحثة: عادت إلى الحياة الطريقة نفسها التي كانت تفضح بها النساء الآثمات في نهاية العصور الوسطى.

لم تكن ألمانيا النازية وحدها من جعلت لسياسة نقاء العرق أهمية كبيرة، ولم تكن البلد الوحيد التي ربطت حماية الكرامة الوطنية بالدم والجسد الأنثوي، ففي البلاد المحتلة أيضًا عدت النساء اللاتي أقمن علاقات مع العدو مجرمات في حق كرامة الوطن، وتسرد المؤرخة الكثير من الأمثلة عن تلك الحوادث في أوروبا إبان الحربين العالميتين، ففي الاتحاد السوفييتي ظهرت بعد الحرب العديد من ممارسات الخزي، وبدأت حملة ملاحقة وإذلال كل من تعاون من الألمان، وفي بولندا بعد الهجوم الألماني عام 1939 ستظهر لافتات في الشوارع تطالب النساء بالحفاظ على شرفهن وكرامتهن، وكان أعضاء حركات المقاومة هم من يهاجمون النساء ويحلقون شعورهن ويضربوهن.

في الفصل الثاني وتحت عنوان "أماكن الخزي العلني في المجتمع من المدرسة إلى التشهير على الإنترنت" تستعرض الباحثة أماكن أخرى للإذلال بما فيها المدارس والجيوش، ومجموعات الأقران ولاحقًا عبر الإنترنت، يمكن للقارئ أن يتذكر الكثير من تلك الحوادث التي ربما جرت معه شخصيًا أو مع أحد زملائه، ألم يطلب أحد المعلمين في المدراس من طالب ما الوقوف أمام الصف ووجه إلى الحائط عقوبة على تصرف أو تقصير، هو مثال مما تستعرضه المؤرخة وهي تسرد لنا تاريخًا حافلاً بالخزي والإذلال لم يسلم منه لا الصغير ولا الكبير، لم يكن المدرسون كما تشير فريفرت في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين يحتاجون إلى حساب قدر التعاطف لدى التلاميذ، فسلطتهم وسيطرتهم كانت بلا منازع، بتواطؤ وتضامن مع الأهل، إلا أنّ تلك الأحوال ستبدأ بالتغير في منتصف القرن العشرين، حيث ستلغى عقوبات الضرب في المدارس، وستتخلى عن الخزي كوسيلة للتربية.

كثيرًا ما تميز بعض المجموعات نفسها عن طريق صرامة دخول أعضاء جدد إليها، بما أطلقت عليه الباحثة "الإدماج من خلال الإذلال" حيث أخذت الجيش والمؤسسة العسكرية مثالاً على أكثر المؤسسات احتواءً في المجتمع الحديث بعد المدرسة، والتي تستخدم صنوفًا عديدة من سياسة الإذلال على أعضاءها، بهدف الحفاظ على النظام والروح القتالية لدى الجنود، وقد كان الرأي العام يحتفل بالجيش بوصفه "مدرسة الرجال"، مشيرة إلى أنّ نسبة كبير من الرجال والنساء وجدوا أنّ شباب اليوم يحتاجون دخول الجيش لأنه يعلمهم الأدب والنظام.

تستعرض الباحثة أوضاع النساء تحت عنوان فرعي: كرامة النساء: الاغتصاب والجنسانية، ففي ستينيات القرن العشرين حدث تغير جذري فيما يخص الحياة الجنسية لاسيما في الجامعات، ولم يكن أحد يتحدث عن الاغتصاب، لذلك أفلت المجرمون من العقاب، ولن يتغير المزاج العام تجاه الاغتصاب إلا عندما بدأت النسويات في السبعينات بطرح الموضوع وفضحه، وتشير الكاتبة إلى الاغتصاب الجماعي الذي يحدث عادة أثناء الصراعات السياسية والحربية، والذي يعتبر من أكثر أشكال الإذلال والخزي العلني الذي تتعرض له النساء، مستعرضة عددًا من الأمثلة كتلك التي حدثت في حرب البوسنة بين عامي 1992 و1995.

ثم ترتب المؤرخة بعضًا من وسائل التشهير الحديثة، بدءًا من الجرائد التي كانت منذ القرن التاسع عشر حاضرة وبقوة في حياة الشعب اليومية، حيث التقطت سوء الأوضاع الاجتماعية والسياسة، وبدأت بعرضها على الناس بما تضمنته من فضائح وتشهير، وصولاً إلى التلفزيون من خلال عرض ما بات يعرف ببرامج الواقع التي يشاهدها ملايين المشاهدين، انتهاء بالخزي على شبكة الأنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي التي اعتبرها فريفرت "شبكات للتواصل غير الاجتماعي، أو مضادة التواصل الاجتماعي"، حيث انهارت قدرة الأفراد على مواجهة التنمر الذي يتعرضون له.

إن وسائل الخزي والتشهير الحديثة تمتاز بالديمومة ولا تسقط بالتقادم، فشبكة الأنترنت لها ذاكرة ذات قدرة تخزين طويلة المدى، فهي لا تنسى شيئًا ولا تنسى أحدًا، وبهذا ترى الباحثة أنّ الخزي الاجتماعي اكتسب نوعية جديدة، فالتأكيد على وصمة العار أصبح أقوى من إعادة إدماج الأشخاص في الجماعة، وأخذ يقترب كثيرًا من الإقصاء.

"قواعد الكرامة، ولغة الإذلال في السياسة العالمية"، هكذا عنونت الباحثة الفصل الأخير من كتابها، وفيه تعيد بحثها عن القوانين، تلك القوانين التي تنظم العلاقات بين الدول، إذ يمارس الإذلال بين الدول أثناء لقاءاتها، عندما تحاول كل دولة أن تقيس مدى قوتها وسيطرتها، فكثيرًا ما أدت إهانة كرامة رموز الدولة إلى صراعات عسكرية، وعلى مستوى البعثات الدبلوماسية تعتبر إهانة سفير دولة ما إهانة للدولة التي يمثلها، حيث أنّ كرامة الدول تقاس بالقوة، فمن يفتقر إلى القوة التي تمكنه من رفض الإهانة يعُّد ضعيفًا،  وتضرب عددًا من الأمثلة في هذا السياق، وتشير إلى حالات الاعتذار التي قامت بها بعض الدول الاستعمارية عن ماضيها تجاه الدول المستَعمرة، فقد ارتفع منذ تسعينيات القرن العشرين صوت المطالبة بمواجهة البلاد لتاريخها، فبعد زيارة مستشار ألمانية الغربية فيلي برانت إلى بولندا عام 1970 وركوعه أمام نصب تذكاري لضحايا النازية، حتى باب مثلاً يحتذى به في ثقافة الاعتذار، فقد عبرّ الرئيس السوفييتي جورباتشوف عن ندمه على المجزرة التي قامت بها حكومة بلاده بحق أسرى الحرب البولنديين عام 1940، واعتذر الرئيس الفرنس عن مشاركة الفرنسيين وفي تهجير اليهود عام 1942، وهنا لا يغيب عنا الابتزاز الذي مارسه وما زال الكيان الصهيوني باسم "الهولوكوست، في ظل تجاهل عالمي لما جرى للشعب الفلسطيني من مجازر وتهجير ما زال مستمرًا إلى اليوم.

ينطوي الكتاب على أمثلة كثيرة من ممارسات الإذلال سواء بين الأفراد أو بين الدول، استعرضتها الكاتبة عبر صفحات كتابها الجدير بالاهتمام، وفي الختام تشير إلى أنّ الإذلال المتعمد الذي يقوم به الفاعلون الاجتماعيون لم يعد له أثر كبير، مع تزايد النقد لتلك الممارسات، لكن الأمر يختلف في السياسة الدولية، فالدول المهانة لا تنجح في قلب المعادلة لصالحها إلا في حالات استثنائية.

إنّ نجاح سياسة الإذلال كما تؤكد الباحثة في ختام كتابها، يعتمد على سلوك الجمهور، فهل سيشارك؟ هل سيصفق استحسانًا أم سيعترض ويرفض؟ فالقصة لم تنته، طالما بقي فرد واحد متفرجًا على إهانات الآخرين، وطالما بقيت الجماهير حول العالم غير قادرة أو غير راغبة في القيام بتصرف يعيد إليها انسانيتها المهدورة على امتداد مساحة العالم وفي كل الدول ومنها تلك التي تدعي الديمقراطية وحقوق الإنسان وتنادي بها وتعمد إلى نشرها ظاهريًا فقط.


عدد القراء: 590

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-