انسيابيةُ التعبيرِ وجلالُ المَشْهَدِ الشِّعْرِيِّ قراءةٌ في ديوان: «حِيْنٌ مِنَ البَحْرِ» للشاعر إبراهيم عمر صعابيالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-09-27 01:51:33

د. محمد عبدالله الخولي

كلية الآداب جامعة المنيا – مصر

الكتاب: حين من البحر (ديوان شعر)

المؤلف: إبراهيم عمر صعابي

الناشر: دار النابغة (مصر)

سنة النشر: 2024

عدد الصفحات: 137 صفحة

يظلُّ الشعرُ في انجذابيّة دائمةٍ بين الجمال والجلالِ، فهو مُتَوَزِّعٌ بينهما، ولعلَّ السبب الأقوى الذي يضمنُ للنصّ الأدبيِّ بهاءه، أنْ يصبحَ الشعرُ قَسِيمًا بينَ أيقُونَتَيِّ الجمال والجلال. إذْ لو توغّل النصّ الأدبيُّ في الجماليّة المتعاليةِ توجَّه بالكلّيّةِ نحو وظيفته الجِنْسَانِيَّةِ مُؤَدِّيًا مَهَمَّتَه الجماليَّة، وهذه الوظيفة تضمن للغة شِعْرِيّتَها. لكنَّ الشعر الجاد لا يتوقّف عندَ حدود اللغةِ وجماليَّاتِها، ولكنّه يتخطَّاها إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فتنتصف الكينونةُ الشعريةُ بين الجمالِ المُتَمَثِّلِ في اللغة وبين جلال المشهد التَّصْوِيرِيِّ.

تتشكّلُ الصورة الشعريّة في النَّصِّ الأدبيِّ مُحَمَّلَةً بشحوناتٍ دلاليّةٍ وشعوريّة، ويتمثَّلُ الغرضُ الشعريُّ منْ نسيجِ الصورةِ ذاتها، إذ تحمل الصورة موضوع النصّ بوصفه الركيزةَ الموضوعيّةَ التي يَنْبَنِي على قاعدتِها النصُّ الشعريّ. وتنتظمُ الصورة الشعريّة في القالبِ اللغويّ الجماليِّ الذي يصطفيه الشاعر لِبِنْيَةِ النصِّ؛ وبناءً على ما سبق نستطيعُ القول: أنّ النصّ الشعريَّ يتجلَّى جوهرُه المتعالي من ياقُوتة اللغة، وعقيقِ الصورة، وبهاء الموضوع.

وفي ديوان "حِيْنٌ منَ البحرِ" للشاعر إبراهيم عمر صعابى يتمظهرُ الجلالُ الشعريّ من خلال هذه الأيقونات الثلاث: اللغة في انسيابيَّتِها، والصورة في تمشْهُدها، والموضوع بتجليَّاته التي تنشطر بين جمال اللغة وظيفيًّا وجلال الصورة أدائِيًّا، ولعلّ هذا ما فَطِنَ إليه الشاعرُ إبراهيم عمر صعابي، وصدَّره لنا في أولِ قصيدةٍ يستهلُّ بها ديوانَ "حينٌ من البحرِ" فيقول:

الشعرُ نورٌ ونارٌ حينَ يستعرُ

               حروفُه الرعدُ والغيماتُ والمطرُ

الشِّعْرُ بوحٌ بما في النَّفْسِ من فرحٍ

             ومن أسىً في مرايا العمرِ يحتضرُ

الشعرُ حبٌّ وأحلامٌ وخارطةٌ

                 حدودُها كلّ ما غنّى به الوترُ

في صوتِ راحلةٍ في شجوها نغمٌ

               من الخلودِ الذي يسمو به البشرُ

إذن، ترنكزُ هذه القراءةُ على ثلاثةِ محاور تتحقّق من خلالها الجمالية الشعريّة، في ديوان: "حينٌ من البحر" وهي: انسيابيّةُ اللغة، وشعريّةُ الصورة، وحضور الموضوع، ويتوزّعُ الأخيرُ في تَمَثُّلاتِه بين اللغة الشعرية بأنماطها التعبيريَّةِ المختلفة، وبين الصورةِ وتَمَشْهُدها الأيقونيِّ في النصِّ الشعريِّ، وبينَ هذه وتلك يتجلّى الغرض الشعريُّ (الموضوع) في نسقٍ بنائيٍّ يحملُ خصوصيّةَ الجنسِ الأدبيِّ.

إنّ اللغةَ الّتي يتشكّلُ منها ديوان: "حينٌ من البحر" تتبدّى جماليَّتُها في اندلاعِ التعبيرِ، وعذوبة المفردةِ، وشعريّة تركيبِها، ولابدَّ أن تكون اللغة الشعرية كذلك؛ إذ المتعة التي يَتَغَيَّاها المتلقّي من أيّ عملٍ شعريٍّ هي جماليّة اللغة، فهي المعيار الأول والقاسم المشترك الذي لم يختلف عليه التُّراثِيّون ولا الحَدَاثِيّون في تعريفهم للشعرِ، فيقول ابن رشيق في كتاب(العمدة): "إنَّمَا الشِّعرُ ما أطربَ وهزَّ النفوسَ وحرَّكَ الأطباعَ" ولن يصل الشعر إلى تَحَقُّق غايته هذه، إلَّا من خلال لغة تتمايز بشعريّتِها وعُلُوِّ كعبها على سائر الأجناس الأدبيّة الأخرى.

ينتقي الشاعرُ إبراهيم عمر صعابي تراكيبَه اللغويَّةَ وينتجُها في نسقٍ شعريٍّ متعالٍ في بنائيتِه، وهذا الانتقاء - على مستوى المفردةِ والتركيب - ينمّ عن وعيِّ الشاعرِ بجوهرِ الشعرِ وماهيّتِه؛ فالقصديّة الجماليّة يضعُها إبراهيم عمر صعابي نُصْبَ عينيه وهو يغزلُ قُمَاشَة قصيدتِه فتتراءى لغتُهُ على جسدِ القصيدةِ متواشجةً مع خيوط الجمال.. فحينما يقول في قصيدته (العمر قالت):

العمرَ  قالت.  فقلتُ:  الآنَ أختـصرُ

            كلّ  السنين  فلا خـوفٌ ولا ضـجرُ

وأعزفُ الشـعـرَ  في  عينيكِ  أمـنيةً

            يردد اللحنَ من غابوا ومن حضروا

لا تحسبي العمر مرهونًا بأزمنةٍ

            العـمــرُ  قلبٌ  به الأحــلامُ تزدهرُ

قالت:  وشَـعْـرُكَ  مُبْيَضٌّ  بهِ  وهـجٌ

            وبعضُهُ  في  شــذا الحـنّاءِ يسـتـترُ

فقلتُ:  حسبكِ  هذا الصُّـبحُ  مؤتلقٌ

            فكيفَ أحجـبُ ضـوءًا منكِ ينتـشـرُ

تتراقصُ اللغةُ في هذه القصيدةِ على أناملِ الإيقاع، ويتبدّى جرسُها الموسيقى في قالبِ البحر (البسيط) الذي تتعالى غنائيتُه من فيضِ عذوبة التركيبِ الشعريِّ، فلم يكنْ القالبُ الموسيقيُّ وحده هو المُوَلِّدُ لهذه الغنائيةِ المتساميةِ، بل انسيابيةُ اللغةِ وعذوبةُ تركيبها تشابكا مع الوزن العروضي، ليتشكّلَ هذا الإيقاعُ الفريدُ في صورتهِ الكلّيّة، فما الوزنُ العروضي سوى محورِ ارتكازٍ ينشأ على قاعدته الإيقاع، وإنْ شئتَ فقل: هو الأرضية التي تنغرسُ فيها أجزاء النصِّ جميعُها، ليحدثَ هذا التناغمُ في نسقيّةِ البناء الشعري.

إنَّ الصورةَ في ديوانِ: "حينٌ من البحر" لا تنفكُّ عن شعريةِ اللغة، إذ تتسربُّ الصورُ الشعريّةُ في الديوانِ وهي مُنْدَغِمَةٌ في عالمِ النصِّ بكيانهِ الشعريِّ الرصين، حيث تتواشجُ الفكرةُ المجرّدةُ مع اللغةِ الشعريّةِ، وعبرَ إبداعيّةِ الذاتِ يتبلورُ المعنى في صورة حسيّةٍ يتجلّى من خلالها المكنونُ النفسيُّ للشاعر، ولا يتأتّى هذا، إلّا بخروجِ الصورةِ عبرَ تَرَاكُبَيَّةٍ تخضعُ في كليّتها لهيمنةِ الشاعر على النصِّ، فهو المنوطُ به نتاجُ العمليةِ الإبداعية. وهكذا كانتْ الصورةُ الشعريَّةُ- في ديوان: "حينٌ من البحرِ"- مثالًا حيًّا على الفرادة الإبداعيّة والإنتاجية للشاعر إبراهيم عمر صعابي، والذي يقول في قصيدته "طعم الحرف":

قالت: "لحرفكَ طعمُ الشهدِ في شفتي"

                  فقلت:  حبّكِ يا نبضي  وملهمتي

لا تحسبي الشـهـدَ من حـرفي أجـسّده

                  هذا رضابك سال اليومَ في لغتي

ورد  الـعـبـارة من خــديـك أســرقــه

                  فيرقص الحرفُ مزهـوًّا بذاكرتي

بدايةً من العنوانِ "طعم الحرف" يستنزلُ الشاعرُ جمالَ الحروف في حاسَّةِ الذوقِ الإنساني، لتكونَ أول مفردةٍ في العنوان (طعم) والتي من خلالها تخضع المفردةُ الثانيةُ (الحرف) لعمليّةِ التذوقِ؛ ليتحوَّلَ الشعرُ – وفق العملية الإبداعية – إلى شيءٍ محسوسٍ يخضع في عمليّة التلقي للذائقة الإنسانيّةِ عن طريق حواسِّها الظاهرة، ومن المتعارفِ عليه أنّ الشعر يُتَلَقَّى بما هو أخفى وأدق من الحواس الظاهرةِ للإنسان، ولكنّ المعنى الشعريّ عندما التبسَ بالعالمِ الحسيّ عن طريقِ اللغةِ النصيّةِ أصبحَ واقعًا تحتَ ذائقتي الظاهر والباطن على حدٍّ سواء. ثم ينسربُ العنوان (طعم الحرف) ويشتبكُ مع المتنِ النصيِّ فتتجلّى الصورةُ الحسيّة للحرفِ عبر الحوارية التي نشأ من خلالها النصُّ [قالت، فقلت] لتتوسّعَ دائرةُ الصورةِ وتمتدُّ من العنوانِ إلى المتن. ويستغرقُ الشاعرُ في جماليّة الصورة، وعن طريقِ ملهمته تتمُّ عمليةُ التوسيع التخييلي مرةً أخرى عن طريق تجريب الملهمة لطعمِ الحروف، ثم تأتي مفردة (الشهد) ليحدث نوع من التناغم التعاطفي بين الشفاة والطعم والشهد والرضاب، ثم تنغزل الشعريةُ ويصل بها إبراهبم عمر صعابي إلى أقصى درجةٍ ممكنةٍ من التخييلِ ويجعل رضابَ ملهمتِه مصدرًا للشهد المذاب حروفًا في قصيدته. ومن خلال ما سبق يتبيّن لنا انحسار وظيفة الخيالِ الشعريِّ في إضفاء البعدِ الحسيِّ على المعاني المجردةِ في العقلِ الشعريِّ، والتي لا يستطيعُ المتلقِي استبطانَها إلا عن طريقِ التصويرِ الذي يتواءَم مع الحالةِ النفسيّةِ والشعوريّة للذات.

لم يتوقف الشاعر إبراهيم عمر صعابي عند موضوعٍ شعريٍّ بعينِه، حيث نجدُ كثيرًا من الشعراءِ في حالةٍ من التماهي مع موضوعاتٍ شعريةٍ معينةٍ لا يستطيعونَ تجاوزَها طوال حياتهم، وربما يبدعون في هذه الموضوعات، ولكنّ انحسار الشاعر في بوتقةٍ موضوعاتيةٍ محددةٍ يقللُ من درجةِ تجاوبِه مع الواقع. وعلى النقيض من هذا تماهى الشاعر إبراهيم عمر صعابي مع الواقع في شتّى مستوياته، وهذا يدلُّ على المقدرة الإبداعية التي تمكّنَ الشاعر من الغوص في دهاليز الواقع والتعبير عن أنماطه المختلفة، بأساليب شعرية متنوعة تتموسق فيها الذات مع واقعها.


عدد القراء: 724

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-