ملامح تفجّر الأنا وتشظيها في «زر وسط القميص» لصالح حمدونيالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-09-27 01:57:09

د. محمد حسين السماعنة

الأردن

الكتاب: "زر وسط القميص"

المؤلف: صالح حمدوني

الناشر: دار فضاءات للنشر والتوزيع، الأردن

تاريخ النشر: 2021

أما قبل، فلما كان النقد نصًّا على نص في حوار القيمة والجمال والإبداع والإحسان والإساءة، فإنه قد يغازل الناقد بنصه نصًّا أعجبه، وقد يناطح نصًّا أتعبه ليكسره، وهو في سعيه لقراءة النص مقلِّب ومحلِّل ومفتِّش ومفكِّك وبنَّاء يحاول أن يبدع في نسج نص موازٍ قد يخدم النص الأصلي، وقد يؤذيه، وقد يبزه ويتفوق عليه، وقد يتضمن النص النقدي إعطاء قيمة، أو تقويمًا وتصحيحًا وتدقيقًا أثناء تأدية الناقد لوظيفته الأساس وهي التحليل والوصف، فالنقد فن ومهارة وصناعة وعلم.

أما بعد، فقد غدا النص في هذا العصر عند كثير من الأدباء مختلفًا جدًا، فهو عندهم بوتقة تنصهر فيها الذات بالسرد، وبالحكي، وبالغناء، وبالشعر، وبالفلسفة، والصوفية، ومناجاة الروح، وبالذات المتفجرة والذات المتشظية، والذات المنطوية، والذات المنكسرة، وهو قد ينسج على خيط شفيف من الموسيقى، أو على وتر صاخب منها، أو هادئ، أو منتظم، فيتشابه جنسه على كثير من المتلقين، حتى يكاد بعضهم في ظل انتشار دعوات التنوير والتشعير والتكسير والشعرية المنفلتة من عباءة الوزن والإيقاع أن يخلط بين النثر والشعر.

وقد أحسن صالح حمدوني عاشق دمشق في وصف مجموعته "زر وسط القميص" بأنها سرديات، لأن السرد حمّال أجناس، وهذه المجموعة هي سرد يلبس عباءة الشعرية لتقيّده بالجمال والتكثيف والاختيار الأعمق الأذكى من الألفاظ، وهو سرد يحمل الشعر فيه زوادة السرد فيجعله طيبًا على اللسان، لطيفًا على القلب، رقيقًا على الأذن، بني بلغة خاصة استطاعت حمل خبر أو فكرة عن السارد دفقًا موحيًا من بوح قلبه، أو دفقًا موسيقيًا غنائيًا مساندًا وداعمًا يحمل إيحاءه الخاص، أو ظاهرة أسلوبية تدفع النص إلى مزيد من التعري والكشف، أو تصويرًا لغويًا بريشة تحركها عين رسام ، وهي مخضبة بالعاطفة والإحساس ومعبأة بالحكي.

والسرد في "زر وسط القميص" يلبس عباءة الشعرية لتقيده بالجمال والتكثيف والاختيار الأعمق الأذكى من الألفاظ، والشعر حينما يحمل زوادة السرد عليه أن يبني لغة خاصة بجمل تحمل خبرًا عن السارد ودفقًا من بوح قلبه. وقد يفيض الشعر حينا في النص على السرد فيغدو النص شعرًا متدفقًا بالحب أو الحزن أو الغضب.

وقد يفيض اليوم بحديثه العابر أو بلحظة حوار مع نفس فقدت قلبًا في لحظة وداع ليصبح القلم ريشة أو وترا يشهق بأغنية نسجت لمدارة قلب أو نداء حبيب أو بكاء لحظة مرت، أو...

 وكثيرًا ما يفيض الشعر في نصوص المجموعة على السرد ويغطيه، فيغدو النص شعرًا متدفّقًا بالحب أو الحزن أو الغضب، وقد يفيض اليوم بما فيه من حركة وسكون على الروح بحديثه العابر، أو بلحظة حوار مع نفس فقدت قلبًا أو وطنًا، أو انكسرت في لحظة وداع أو ضياع ليصبح القلم بيد الكاتب ريشة، أو وترا يشهق بأغنية نسجت لمدارة قلب، أو لنداء حبيب، أو لبكاء تلك اللحظة العابرة من دمه طيفًا أو دمعة أو رعشة، أو يصبح بيد الكاتب نصًا يحمل قلبا ونبضاته ...

ويكشف أسلوب السرد في "زر في وسط القميص" عن نمط معاصر جديد في الكشف والنسج السردي دل عليه ثلاثة أركان أسلوبية هي ذوبان الفكرة موضوع السرد في النص حتى تطبعه بسمات النبض الحزين أو الغاضب ليستعين على إطفاء نيرانها بأنواع مختلفة من السرد، وبأساليب متنوعة من النسج، واتحاد الشعر بالنثر بالغناء باللغة الفصيحة وباللهجة العامية، بالصورة المكثفة والعبارة القصيرة المعبأة بالشعرية في نسج واحد، وظهور ملامح تشظي الأنا وتفجرها في النص بوضوح وبتركيز لافتين، وبظواهر أسلوبية موحية منها: التكرار، والتناص مع الأغاني وبخاصة أغاني فيروز التي كانت حاضرة في عتبته الثانية للدخول إلى مجموعته.

وتضم مجموعة "زر وسط القميص" الصادرة عام ألفين وواحد وعشرين، عن دار فضاءات للنشر والتوزيع، ست عشرة عتبة، هي نماذج مكثف مما قالته النصوص، وللطريقة التي نسجت بها، فهي تعتمد التكثيف والإيحاء والشعرية والإخبار، وفيها اللهجة العامية واللغة الفصيحة القوية.

وتبدأ مجموعة صالح حمدوني السرد من صفحة الغلاف فهي لوحة الصراع بين الظل والنور، أو بمعنى أدق صفحة الصراع بين الخير والشر، لأنها تحمل مجموعة من الألوان المتداخلة المتمازجة المتنافرة شكلتها مجموعة ألوان متضادة منها الناري كالأزرق والأصفر والأحمر، ومنها الهادئ كالأخضر والأبيض، ومنها الأسود الشره الذي يمد يده إلى مساحات من الأخضر فيطفئها، ويمد يده على الأزرق فيطفئ توهجه وصفاءه في دلالة واضحة على سيطرة الطغيان وتجبره، ويطغى اللون الماروني على اللوحة - وهو مزيج من اللون الأحمر المختلط بالبني الداكن-، ليشير إلى تخضب الأرض بالدم في إشارة إلى ما يسفك من دم في صراع الظل والنور، وترك الكاتب الرسام مساحة قليلة من الخضرة الخجولة ليبقي على الأمل بحياة أجمل وأكمل وأفضل. فهي ألوان احتلت الغلاف بما فيها من تنافر وجدال وتضاد، وواجهت المتلقي بقسوتها وغضبها ونفورها فهي رسمت لتشير وتدل.

وقد حملت صفحة الغلاف عتبة المجموعة مكتوبة ببنط عريض احتل أكثر الصفحة كصرخة عالية ملئت غضبًا ورفضًا لتشظي الأنا في مكان مضطرب متقلقل متفجر متمدد. فهي جملة مبتورة عائمة ترك الكاتب للمتلقي بناء معانيها والتصرف في إعرابها وتوقع خبرها وفق قراءته، في تقنية سردية مؤثرة مفاجئة للقارئ نفسه، وليس من قبيل المصادفة أن يُبدأ العنوان بنكرة فهو زر أي زر وظيفته أن يكون وسط القميص، وجد ليكون هناك ، وحدد الكاتب مكانه وكبر صورته وهو في مكانه وسط القميص ولكنه زر فهو المقدم المضخم، الذي يحتل وسط القميص ويحتل صدر العتبة الأولى للنص، ويفتح نافذة من الحيرة على المتلقي تدفعه ليسأل ويتساءل عن القميص والزر ودورهما ووظيفتهما، ليحقق الكاتب بذلك مهمته الأولى في زرع الدهشة والحيرة في قلب المتلقي وفكره، ولا يستبعد الباحث تناص الكاتب مع قصة يوسف التي ارتبطت في المخيال الجمعي العربي بقصة الصبر والعفة والأمانة والظلم والافتراء والمرض والشفاء والسجن والحرية قصة الشدة والفرج التي بنيت على فكرة مواجهة الإنسان للظلم المتكرر المستمر الطويل. فكيف وفق الكاتب بين الزر والقميص، أقول وأنا لا أرى فرقًا بين زر وزر، فالوظيفة واحدة مهما كان حجم الزر أو لونه أو مكانه، وهي مرتبطة بالقميص، المرتبط هو الآخر بمن يلبسه، فوظيفة الفرد في المجتمع مرتبطة بطبيعة المجتمع وما يطلبه منه.

ثم تنقلنا العتبة الثانية إلى مؤثرات تركت بصمتها في النصوص، وكان لها وزن عاطفي في بنائها، وهي: الأم، والغرفة، والمخيم، وهي ملاذات الأنا من كل شر يدهمها، وأما جزء العتبة الثاني فهو فيروز الصوت والحلم وهو جزء رئيس من العتبة لما فيه من تكثيف جميل موحٍ لكل ما يسعى إليه قلم في غرفة في مخيم، ففيروز غنت ليافا وغنت للقدس، وغنت للعودة، وغنت لزوال القدم الهمجية. وهذه العتبة كشفت عن تشظي الأنا بين القبول بالبقاء في أحضان هذه الملاذات الثلاث التي توفر بعضًا من الدفء، وما يطمح إليه من العيش الأفضل والأكمل والأجمل، فهي عتبة كشفت توجهات للكاتب وتطلعات سيكون لها أثر في نصوصه.

وأما العتبة الرابعة فهي ثنائيات ضدية توحي أكثر مما تخبر: فقد تشظت الأنا بين اكتب ولا تكتب حوار العالم والجاهل، واليائس والمتفائل، والعبد والسيد، في الأمر والطاعة وغياب القدرة على اتخاذ القرار.

واختار الباحث أن يقرأ مجموعة صالح الحمدوني من بين عبارات الأنا المتفجرة المتشظية في نصوصه وعتباتها لأن الأنا هي بؤرة هذه النصوص ومرتكزها، وعلى سطحها يكتب السارد النتائج والعنونات العريضة الواسعة الصدر، وبين ثناياها يبني نسجه من عواطف متداخلة، وصراع عميق بين ما يفرضه الواقع وما تدفعه إليه الإرادة والرغبة، ففي النص الأول "تعال ولا تأتِ" الذي يحمل ملامح عريضة على تفجر الذات منها الثنائية الضدية اللفظية بين تعال ولا تأتِ التي تعبر عن حال من التيه تعيشها (هي)، ومنها أعلو اهبط، نحوي نحوك، أنا أنت، في  فيك، (ص 104، 105) ومن الملامح أيضًا إدخال الكاتب النص الذي يحمل روح القصة القصيرة في ميدان الرواية وبخاصة حين يسهب في الوصف، ويجعله وسيلته الرئيسة في الحديث عما يمور في الأنا من عواطف مشتعلة بالحسرة والحزن والغضب والقلق والحيرة، وحين يستخدم تقنية سردية تحتملها الرواية ولا تحتملها القصة القصيرة كاستخدام التعريف في السرد، أو استخدام الجمل الإنشائية الدعائية أو المدحية في النص، أو التناص مع الأغاني كتناصه مع أغنية فيروز وكتابتها كاملة: "وجهك بيذكر بالخريف، بترجع لي كل ما الدني بدها تعتم، مثل الهوا اللي مبلش ع الخفيف، القصة مش طقس يا حبيبي(ص17)" وتناصه مع الماغوط "الفرح ليس مهنتي" (ص43) أو الوصف الطويل بالإيحاء كقوله: "ترتجف أصابعنا ونحن نحاول مسح دمعها، نذهب إليها حين تحتاج أن تمد يديها لتمسح رأسينا"(ص15)

وتظهر ملامح تفجر الأنا وتشظيها في النص في انتقال الراوي من حال إلى حال بسرعة لافتة، فبعد أن وصفت شعره ورتبت ملامحه، انتقلت بسرعة لتتحدث عن لقائهما ووداعهما. ومن ملامح تفجر الأنا وتشظيها في النص الأول التكرار الذي هو ظاهرة أسلوبية دالة واضحة في نصوص الكاتب، فهو يكرر الجملة واللفظة والحرف، ومنه تكرار السؤال المليء بالقهر والحزن والفقد والغضب والكثير من الحب (وينك؟) (ص ص16، 17، 18) و(كيفك؟) (ص ص 12، 18، اللذين وضعهما طازجين كما هما على السان بكل ما يؤديانه في اللهجة من معنى وإيحاء حين يسأل بهما شخص عن شخص. ومنه تكرار استخدام الكاتب للجمل القصيرة المتتابعة المشحونة بالعاطفة الجياشة التي قد يدعم دلالاتها بزيادة حرف على اللفظة وتكراره أكثر كلما كرر اللفظة:

اركض، تعال، تعااال، تعااااال (ص 15)

وتكرار الفعل نركض: "نركض وسراب، ونركض في سراب، ونركض كالسراب (ص19)، وتكرار الذم واللعن كتكرار: "يلعن" (18،19)، أو للتعبير عن موقف أو شيء له مكانة عالية في النفس كتكرار لفظة المجد: المجد لأرواحنا المتعبة، المجد لحزننا، المجد لكل ما يأخذهم نحونا. (ص27).

ومن ملامح تشظي الأنا وتفجرها هذا التداعي الحر في التعبير عن النفس الذي كان على لسان (هي)، فقد أعطى الكاتب لها حرية الكلام ففتحت أبوابًا كثيرة من الذكريات، وفتحت نوافذ واسعة على الواقع والمكان ومن فيه، فوصفت وحاورت وغنت ورسمت، وصورت، مستخدمة الجمل القصيرة في تقنية الوصف الإيحائي القريب من الرسم والتصوير المشهدي، والوصف التصويري الفتوغرافي، فالوصف تمدد وامتدّ على طرف من الحكي ليتتبع آثار اللقاء بين جسدين وروحين، وتشظى إلى حالات من اللهفة والحب والفقد والغضب كما في السؤال كيفك؟ وفي ظل هذا التمدد والامتداد في وصف الحال صبغت الشعرية جمل الوصف، فمن ملامح تشظي الأنا وتفجرها هذا السيل المتدفق الحزين الغاضب من الجمل الوصفية الشعرية والأسئلة والتكرارات والشتائم التي تدفقت على لسان (هي) في جمل قصيرة مال بعضها ناحية الشعر، وبعضها مال ناحية الرسم، وبعضها مال إلى الحكي:

"لامست الشعر الأسود الفوضوي، الخصلة التي تتدلى على الجبين، شعرك بانحناءاته التي لكل منها حكاية". (ص14)

وقوله:" هو المكان، ذلك العذري القادم من حنو سحابة لأرض عطشى" (ص14).

ومن ملامح تشظي الأنا وتفجرها الاستعانة باللهجة العامية وجعلها في مرافقة للعربية الفصيحة، تتناوب معها على السرد، فهي أخذت مساحة واسعة من نص "تعال ولا تأتِ".

ومن ملامح تشظي الأنا وتفجرِّها التنقل السردي بين الهم الذاتي والهم الجمعي، فما تداعى على لسانها في اللقاء كان هما ذاتيًا صاخبًا، ولكن حين انتقلا إلى الشارع امتزج كثير من الحديث بالهم الجمعي: "كلّهم مروا من هنا، كلُّ الجياع، أعطيتهم رغيف خبز نحته رجلٌ في زواريب المخيم، كان يبكي طفلته الأولى، ويحمي الثانية من موت غبي"(ص15)

وقوله: "شوارع غريبة، سيارات تلهث. وجوه متهدلة، عيون. دموع. قلوب على الطرقات تركض، تلهث" (ص 14)

 وحين دخلت (هي) المخيم تحول الحديث بقسوة إلى الهم الجمعي، كقوله: "تكلم حجارة الشوارع، تستكين، تتمرد، تصرخ، ونهر يحاذي الجرح، الأب يتماثل للموت، الأم خاصرة الوجع، الأصدقاء صوت، الحقول عطشى والماء يزيد العطش".

وقوله:" كيفك: صوت ومعنى، وسنابل تنبت. زورق يحمل مدنًا وبلادًا وهواتف نقالة. (ص18)

ومن ملامح تشظي الأنا وتفجرها التشكيل البصري المتعمد لبعض حروف الكلمات، ولبعض الكلمات، كما في قوله: "تعال، تعااال، تعااااال(ص15).

ويييينك؟ (ص17).

وقوله: نركض وسراب، ونركض فسراب، ونركض كالسراب. (ص19)

والتضاد ظاهرة أسلوبية مغرقة في التشظي فهي من الملامح التي تعبر عن الحيرة، وسيطرة الوجه المقابل المختفي خلف الثنائية الضدية: فخلف "عتبة النص" تعال ولا تأتِ صورة الإنسان غير القادر على اتخاذ قراراته في التنقل، أو الشخص الذي لا حول له ولا قوة أمام غياب حبيبه.

ولم تتغير تقنيات السرد كثيرًا في مثلك أنتِ هذا المساء، فقد كانت عتبة النص مدخلاً مربكًا للمتلقي، تولى زمام الحكي فيه ضمير المتكلم أنا، منتقلاً بين الذاتي والجمعي، فحام بالمتلقي بلغة شعرية على كثير مما يوجع القلب ويحزن الروح، إنه صباح أتوضأ فيه من عينيك"(ص30)، أو وصفية تناص فيها مع الأغنية الشعبية، واللهجة العامية، لينقل مرافعة الأنا في مواجهة الصعاب، في حديث مليء بتفجر الذات وتشظيها الذي ظهر واضحًا في الطابع العام لأفكار النص. ولكن توزع الأنا على مثلث من بلاد العرب؛ كان ملمحًا مؤثرًا من تفجر الأنا وتشظيها، انتقل فيه الكاتب بروحه وأحلامه بين تلك البقاع. ومن الملامح الجديدة في النص الاستخدام اللافت للجمل الإنشائية، فقد تشظّت الأنا وتفجرت أمام المتلقي في جمل الاستفهام، والنداء، والأمر، والنهي.

ويبدو واضحًا أن المكان هو السبب الرئيس في تشظي الأنا في نصوص صالح حمدوني، وبخاصة يافا ودمشق فالحنين إلى دمشق كان محورًا رئيسًا من التداعي الانسيابي لحديث الأنا المتكلمة عن (هو) في فضفضة امتزج فيها الذاتي بالجمعي. فالحب الذي يظهره الكاتب لدمشق فيى"ورد في زقاق دمشقي خلف النوفرة" حمال حزن وحنين وقلق في حديث الأنا عن هو وزيارته لذلك الزقاق الذي "كان يدا إلهية تنثر الرائحة فيه من أعلى" (ص 36). ويظهر تفجر الأنا وتشظيها في هذا النص في كثرة ذكر الكاتب لأسماء الأماكن الدمشقية وامتلاء معجم النص بألفاظ توحي بالحزن والفقد والقلق والحب. (ص36، ص37) المخيم، اللجوء، القهر، العهر، الحنين.

ومن ملامح تشظي الأنا وتفجرها في نص "وانقطع زر وسط القميص" الذي حمل جزء منه عنوان المجموعة، هذا السؤال المليء بالقهر الذي ختم به النص" كيف انقطع زر في وسط القميص حين شهقت بآخر الكلمات، وكيف ترك العروة مفتوحة؟ (ص47).

وتظهر في "تراب معتق" ملامح جديدة تشير إلى تفجر الذات بما فيها من حزن وحلم وأمل بجمل تسويفية متتابعة، أردفت بتكرار الفعل تعال، وفي "لا عرفانة فل ولا عرفانة أبقى" ظهرت ملامح التفجر والتشظي في تعداده لمتعلقات الكرملي ولأعضائه ولأجزاء منه، ولما يرتبط به من مكان او زمان، وفي حديث الراوي عن الانتظار وعن حالها في الانتظار، وعن أثر (هو) فيها، تقول: "سكنتني"(ص87). وفي "باب الهوى" كان الحديث عن السجن نتاج تجربة مؤلمة مؤثرة، تبدت فيها الجراح النفسية العميقة التي نقشتها حياة السجن في الراوي. وأما في القصيب فجاء الوصف متدحرجا من أنفاس روح متعبة محبة فجاء الوصف كما أرادته النفس.

وفي "ظل العشية" ازدحمت روح الراوي بالتحيات والحب والفقد والحزن فانفجرت رسائل إلى هشام وجمال (ص146)، وإيلان طفل الشاطئ (ص153)، ولأمه (ص 159) وإلى حمدوني (ص143)، وإلى جمل تنز حزنًا "غيابك مهرجان فقد، فلكل لون أثر ومصلحة فيك"

وجاء نص " كتاب تعريفات" ليؤكد تعلق الأنا بالمكان، وتفجرها بمعاناته ومعاناة من فيه، وليكشف الغطاء عن ملامح تشظ وتفجر نفسية فكرية عميقة، عن تيه روحي، دلت عليه مجموعة التعريفات المنتقاة التي من بينها ما هو مرتبط بالذات، وما هو مرتبط بالروح أو الفكر، وما هو مرتبط بالمعتقد، وذكرها بهذه الصورة والكثافة والوضوح يشير إلى أنها كانت حديثًا نفسيًا لوضع علامات طريق نفسية ذاتية لاتخاذ موقف، وتبني رأي (المرأة، النهايات، الرمل، اليرموك، الوعي، الانتماء، الفعل، الله...

وبعد، فإن هذه القراءة هي غيض عن فيض، تحدثت فيها عن مجموعة صالح حمدوني "زر وسط القميص" من مناقشة نماذج ممثلة من نصوصها. وقد كشفت لي قراءة نصوص المجموعة عن حالات من تفجر الأنا وتشظيها في نصوص سردية مختلظة، اهتمت بوصف ما يمور في الذات ثوران هم جمعي وذاتي، وتداخل الهمين معا في النثر والشعر والخطاب. والتصوير والغناء وظهرت ملامح التشظي والتفجر وآثارهما واضحة في حديث الراوي الممتلئ بالظواهر الأسلوبية اللغوية والفنية والتعبيرية. كتداخل الشعر مع النثر، والتكرار، واستخدام الجمل الإنشائية، والثنائية الضدية، والتناص مع الشعر والنثر والغناء، واستخدام اللهجة العامية.، وفي المعجم الذي سيطر على نصوص المجموعة فقد تكررت الألفاظ الدالة على حال الحزن والغضب والقهر والألم ... منها: يلعن، القهر، الحزن...


عدد القراء: 332

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-