أثر الفتن في كسر البيضةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2016-08-19 01:39:55

أ. د. علي بن محمد العطيف

أستاذ الحديث والدراسات العليا المشارك بجامعة جازان

عندما تكون الأجواء في المجتمع الإسلامي هادئة، مستقرّة، ينشط الدّعاة إلى الله عز وجل في نشر الدعوة، وتعليم الناس، ورفع الجهل، واجتماع الكلمة، وفي الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وينشأ داخل المجتمع الإسلامي تضامن عامّ لقهر المنكر، والأخذ على أيدي العابثين، حيث يختفي صاحب المعصية بعيدًا عن أعين النّاس، ويشعر – حتى وهو في هذه الحالة – بالّرقابة الاجتماعية، فيُعْزل المنكر، ويَقِلّ ظهوره، وتأثيره، ويُعْرَفُ المعروف ويستقرّ في أذهان النّاس وعاداتهم وأعرافهم وتقاليدهم.

ويجتمع كافة أطياف المجتمع وعناصره المختلفة تحت سقف وطن واحد، وقيادة واحدة، وحب التنمية والتطور والإنتاج.  

وعندما تقع الفتن وبخاصة فتنة التكفير والتبديع والتفسيق والقتال بين أفراد المجتمع المسلم، يشغل الخيّرون من أبناء هذا المجتمع بإصلاح الأوضاع وجمع الكلمة وإصلاح ذات البين، وفي غفلة منهم ينشط الباطل والفساد، ويسارع أهل الفساد والعابثون إلى إحياء مناكرهم التي عفا عليها الدّهر، وأمام ذهول كثير من النّاس وعجز الكثير أيضًا عن فعل شيء، تتحرّك عناصر الفساد والكيد والانحراف والعبث لتقضي على روح الأمة وحيائها، ومقدراتها، حتى يمرّ الرّجل على صنوف من الفساد والانحراف، فيغضّ طرفه طلباً للسّلامة، بينما كان سابقًا لا يسكت أو يغضّ طرفه عن منكر أقلّ حجمًا وخطرًا من هذه.

إنّ الفتنة تسمّم الأجواء، وتتيح لأهل الفساد والعابثين أن ينشروا فسادهم ويسوّقوا بضاعتهم، ويظهروا ما كانوا يخفونه من معاصٍ وآثام، واضطراب للأمن، دون خوف أو وجل.

وقد رأينا في كثير من بلاد المسلمين التي ضربتها فتنة التكفير والاقتتال كيف يخرج الناس على ولاة الأمر وينفرط العِقد، وكيف ينشط الإعلام الماجن، وتكثر المقالات السّاقطة، والبرامج الهابطة، وينشط المفسدون - استغلالاً للفرصة - لترويض المجتمع على قبول سلوكياتهم المنحرفة، والرّضا بألوان فسادهم.

وقد يحدث أن يعجز أهل الخير عن مواجهة الشرّ، فتحدث الانتكاسة، وتظهر الفتن، وتسفك الدماء، وتستباح الحرمات، ويتراجع المؤمنون عن واجب التعليم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خوفًا، أو زهدًا في الأمر، أو عجزًا عن مواجهة المفسدين وأهل المنكر.

ولنحذر من الخطأ في التعامل مع أحاديث الفتن، فقد وردت أحاديث كثيرة تدعو إلى العزلة أيّام الفتنة، منها ما هو خطاب موجّه للصّحابة رضي الله عنهم، والمقصود به الأمّة كلّها، ومنها ما هو عام في الزّمان والمكان، يتناول الأمّة كّلها ابتداءً.

وقد جاءت العزلة في القرآن والسُّنَّة لمعانٍ عديدة، تتراوح بين المفارقة الكلّية المطلقة والمفارقة الجزئية، وبين الاعتزال الحسّي، والاعتزال المعنوي1.

ولذلك، فموقف المسلم أيام الفتنة – في الغالب - لا يخرج عن الحالات التالية:

1 - أن يسعى في الإصلاح ما أمكنه ذلك، تحقيقًا لأمر الله في الإصلاح بين الطائفتيْن المتقاتلتيْن.

2 -  فإن لم يمكنه ذلك، أو كان ليس من أهل الشأن والمكانة والعلم، بحيث لا يسمع له أصلاً، فالواجب في حقه اعتزال القتال الدّائر بين الأطراف المتصارعة، ويتخذ الاعتزال أشكالاً متعددة، تبدأ بإتلاف السّلاح الذي هو كناية عن عدم المشاركة به مع أحد الأطراف المتصارعة، ومعنى هذا أن يواصل جهده وعمله في نشر العلم وتعليمه وبذل النّصيحة لعموم النّاس، وطاعة ولاة الأمر والدعوة إلى الاجتماع عليهم وعدم مناكفتهم أو التأليب عليهم وإن جاروا وظلموا.

3 - فإن تعذر عليه ذلك، ولم يمكنه النجاة من شرّ الفتنة إلاّ باعتزال تجمّعات الناس، وهي نواديهم، وأماكن تواجدهم، فليكن حبيس بيته، ويغلق بابه دونهم، وذلك هو الواجب في حقه.

4 - فإن استحال عليه أن يكون بمنأى عن الفتنة حتى داخل بيته، فليغادر بلد الفتنة، وليأوي إلى قرية نائية، يعبد الله عزّ وجلّ، أو يمضي إلى بلاد أخرى حيث يمكنه أن ينفع فيها أبناء المسلمين، فإنّ المسلم كالغيث أينما همع نفع.

وكلّ هذه الحالات تضبطها المصلحة الشرعية وحصول غلبة الظنّ عند المسلم بضرورة اتخاذ هذا الإجراء أو غيره.

لكن المقصود هنا أن يحذر المسلم من إسقاط أحاديث الفتن على واقعه إسقاطًا يمنعه من العمل، ويدفعه إلى العزلة المذمومة، فقد يفهم بعض الناس من تلك الأحاديث وجوب العزلة الكلية، وهذا غير صحيح، بل الذي عليه جماهير العلماء أنّ واجب المسلم في وقت الفتنة أن يعتزل جوَّ الفتنة، فلا يكون طرفًا في الصّراع، ولكن هذا لا يمنعه من أن يشارك المسلمين في شئون حياتهم الأخرى.

وهناك فكرة شائعة عند عوام الناس، وهي أنهم يتخذون من إخباره صلى الله عليه وسلم بهذه الأحداث، متكئاً لهم في ترك العمل للإسلام والدعوة إلى هذا الدين والالتزام به، وهذا خطأ كبير، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو يخبر عن هذه الفتن- يدعو الناس إلى اعتزال الناس وترك العمل الصالح والتخلص من أحكام الإسلام، بل كان يريد منا أن نستقبل هذه الأحداث بوصفها جزءًا من قضاء الله وقدره، فنغالبها بقضاء الله وقدره، تمامًا كما نفعل في مواجهة الأمراض والمحن والابتلاءات التي يقدّرها الله على عباده.

والذين عايشوا تلك الفتن، فاعتزلوا أحداثها ولم يشاركوا فيها لم يفهموا أحاديث العزلة على أنها دعوة إلى اللُّجوء إلى رءوس الجبال، وقطع أيّ صلة بالناس - باستثناء بعض الأفراد منهم -، بل كانوا يغشون الجمعة والجماعة ويجلسون لتدريس العلم، ويستفتون، ويفتون، ويخالطون الناس، وغير ذلك.

وقد ورد عن حذيفة رضي الله عنه، أنه قال: "إنّ الرجل ليكون من الفتنة، وما هو منها"2.

فقد بيّن أن شرّ الفتنة إنّما يلحق من غمس يده فيها، ولم يتبيّن حكم الله في ذلك، أمّا من أبصر الطريق، فلن يضرّه أن ينصرف إلى تحقيق كثير من الأعمال الصالحة، التي منها السعي لإطفاء نار هذه الفتنة، وإنقاذ الناس منها، وجمع الناس على الولاة ومبايعتهم وطاعتهم، ووحدة الصف، وتعليم العلم ونشره بين الناس، لأنّ كثيرًا من هؤلاء – وخاصة الشباب - يندفعون في أتون الفتن لجهلهم بحقيقتها، وحقيقة دعاتها ومضرميها، وهذا شأن قتال الفتنة لا تنضبط مقاصده.

فالاختلاط محمود لما يحصل فيه من المنافع والمصالح، بشرط أن يأمن فيه الإنسان من ملابسة الفتن وأصحابها، ولم يزل الصّحابة والتابعون والعلماء، مختلطين بالنّاس، فيحصلون منافع الاختلاط، من حضور الجمعة والجماعة، والجنائز، وعيادة المرضى، وتعليم النّاس واحتوائهم، وغير ذلك من المصالح التي بعضها من فروض الكفاية، وكثير منها من فروض الأعيان، وبعضها ممّا يتعيّن على بعض آحاد الناس كالعلماء والدّعاة وأهل الخير في هذه الأمّة.

وقد رأينا كثرة الفتن التي كانت في العهد الأموي، ولكنّ ذلك لم يمنع العلماء من تعليم العلم، وتخريج آلاف من طلبة العلم، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وتعليم الجاهل، وتأليف المصنّفات في جميع أبواب العلم، وطاعة ولاة الأمر، والخروج للجهاد في سبيل الله معهم، وإنّ ثلة كبيرة من رجال الفقه والحديث الذين نفتخر بهم عاشوا تلك الحقبة، ولكنّ موقفهم من أحداث الفتن كان واضحًا: إنّه العزلة عنها، والتحذير منها، وذمّ دعاتها، وغير ذلك. 

وفي وصّية النبي صلى الله عليه وسلم لمخوّل البهزي رضي الله عنه تتضح فلسفة الإسلام في قضية العزلة أيّام الفتن، فهي عزلة شعورية فقط، أمّا واجب المسلم نحو ربّه، ونفسه وأهله والنّاس فلا ينبغي أن يتأثر بذلك الجوّ، فقد قال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "سيأتي على الناس زمان، خير المال فيه غَنَم بين المسجدين، تأكل الشجر وترد الماء، يأكل صاحبها من رسلها، ويشرب من ألبانها، ويلبس من أصوافها، أو قال: أشعارها، والفتن ترتكس بين جراثيم العرب.

قلت: يا رسول الله! أوصني.

قال:" أقم الصّلاة، وآت الزكاة، وصم رمضان، وحجّ واعتمر، وبرّ والديك، وصل رحمك، وأقر الضيّف، وأمر بالمعروف، وَانْه عن المنكر، وزل مع الحقّ حيث زال"3.

إنّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة إلى تجاوز واقع الفتنة، بالدّعوة إلى الإسلام والجهاد في سبيله، والاشتغال بالعبادة والطاعة، وتعليم الناس أمور دينهم، وتحبيبهم إليه.

إنّ غياب العلماء يحدث من خلال أمرين اثنين:

الأوّل: أن لا يوجد العلم والعلماء، وعندها يتخذ النّاس رُؤوسًا جهّالاً، يُستَفتون، فيفتُون بغير علم، فيهلكون ويَهلكون، وفي وصف هذه الحالة ورد الحديث النبوي المشهور: « إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا »4.

الثاني: أن يوجد العلماء، ولكنّ الأمّة تحت تأثير عاطفة حماسها وهواها، لا تستمع إلى توجيهاتهم، وتتبع كلّ ناعق يمنّيها بسراب من الأمل الخادع، فتظلّ تلهث وراءه، ضاربة بتوجيهات وتحذيرات العلماء عرض الحائط.

بل قد يصل الأمر بالأمّة أن يتجرّأ بعض السّفهاء منها على سبّ العلماء وتكفيرهم وتفسيقهم، ممّا يحول بينهم وبين توجيه الناس وإرشادهم، وهذا من أعظم الجرائم، لأنّ أثر ذلك يطال العلماء في أعراضهم - وربّما في أنفسهم وأموالهم - ويطال أيضًا مجموع الأمّة، لأنه يزهّدها في مصادر إرشادها وتربيتها.

قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ: "فإنّ تسليط الجهّال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات، وإنّما أصل هذا من الخوارج والرّوافض الذين يكفرون أئمّة المسلمين، لما يعتقدون أنهم أخطأوا فيه من الدّين، وقد اتفق أهل السّنّة والجماعة على أنّ علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرّد الخطأ المحض، بل كلّ واحد يؤخذ من قوله ويترك، إلاّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس كلّ من يترك بعض كلامه لخطأ أخطأه يكفر، ولا يفسّق، بل ولا يؤثم، فإنّ الله تعالى قال في دعاء المؤمنين: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)  5، وفي الصحيح عن النّبي صلى الله عليه وسلم، "أنّ الله تعالى قال: قد فعلت"6.

 

المراجع:

1- ينظر: العزلة والخلطة، للدكتور سلمان العودة (ص21).

2 - أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (8/641).

3 - أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (8/30)، والطبري في تاريخه (3/25)، والطبراني في الكبير (20/322)، والأوسط (7/296) (7542)، وأخرجه أبو يعلى في مسنده (3/137) (1568)، ومن طريقه: ابن حبان في صحيحه (13/196) (5882)، وابن الأثير في أسد الغابة (5/129). وهو حديث ضعيف، في إسناده: محمد بن سليمان بن مسمول.

قال البخاري: سمعت الحميدي يتكلم فيه. وضعفه أبو حاتم، النسائي، وابن حجر. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه متنًا أو إسنادًا. وانظر: الجرح: (7/ 267)، والضعفاء للعقيل ي(4/69)، ميزان الاعتدال(3/569).

4 - أخرجه البخاري. كتاب العلم، باب: كيف يقبض العلم (برقم 100)، وكتاب الاعتصام، باب: ما يذكر من ذمّ الرّأي وتكلّف القياس (برقم 7307). ومسلم. كتاب العلم، باب: رفع العلم وقبضه، وظهور الجهل والفتن، في آخر الزمان (16/442،441)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، مرفوعاً.

5  - سورة البقرة، الآية (286).

6  - مجموع الفتاوى (35/100).


عدد القراء: 10463

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-