قصص التشويق... علاج من نوع آخرالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2017-08-04 21:33:33

فكر - المحرر الثقافي

أصبحت قصص التشويق أكثر من مجرّد شغف، إذ تحوّلت إلى نزعة جنونية بامتياز! لا تتردّد دور النشر اليوم في إصدار أعمال مماثلة وترتفع مبيعات الروايات البوليسية بنسبة لافتة. لكن ما سبب هذا الإدمان المستجدّ لهذا النوع من القصص؟

يعتاد الأولاد منذ صغرهم على قصص التشويق التي يطالعونها في المدرسة لأنها تقدّم لهم مادة جاذبة، وتشوّق القراء وتجعلهم يتعلقون بأبطال القصة ويترقبون الأحداث، من ثم يطرحون الفرضيات في عقلهم عن التطورات المرتقبة. حتى أنهم قد لا يرتاحون قبل إنهاء الكتاب بالكامل!

يبرع بعض الكتّاب في جذب القراء بهذه الطريقة. ومن الملاحظ أن الشابات تحديدًا ينجذبن إلى قصص التشويق ويجدن فيها متعة خاصة.

نجاح لافت

زادت إصدارات قصص التشويق الغربية بنسبة 9% بين عامَي 2014 و2015. توزعت الروايات على مختلف دور النشر وتسعى الشركات الجديدة والشهيرة إلى مواكبة هذه الموجة. تصدر كل دار نشر عشرات الروايات المماثلة سنويًّا ويدخل ثلث الروايات التي تُباع في فرنسا مثلاً في خانة قصص التشويق. ولا ننسى عدد مستخدمي الإنترنت الذين يقومون بخيارات مشابهة.

بدأ علماء النفس يهتمون بهذا الموضوع، لذا جمعوا تجارب عدد من محبي قصص التشويق للكشف عن جانب عميق من خصائصهم النفسية، من بينها الفراغ النفسي والشعور بالاضطهاد... على صعيد آخر، تكثر المعارض والمهرجانات الأدبية في السنة الواحدة، ويقف الناس في صفوف طويلة بانتظار أن يوقّع لهم الكتّاب على نسخهم. كذلك يؤكد نجاح المسلسلات التي تحمل طابعًا غامضًا ومشوّقًا توسّع هذه النزعة.

قلق ومتعة

ما سبب ميلنا إلى حب التشويق؟ مثل الأولاد، نحبّ جميعًا أن نغوص في عالم «مزيّف» لتحسين طريقة تحكّمنا بالمخاوف التي تجتاحنا في وجه هذا العالم، أو تترسّخ فينا بسبب فكرة الموت والوحدة. عند قراءة حوادث مخيفة، سنفرّغ مخاوفنا من خلالها لأننا نعرف أننا لسنا معنيّين بها.

تتعلق ميزة أخرى بقدرة قصص التشويق على جذب انتباه القراء. عندما نغوص في حوادث غامضة، سنخرج من ذاتنا ونتخيّل نفسنا في حافلة أو قطار أو نتجوّل في جزر بعيدة أو أحياء معاصرة...

يمكن اختبار هذه التجارب كلها مقابل كلفة ضئيلة، وتعطي الكتب في هذه الحالة أثرًا شبيهًا بالتنويم المغناطيسي. يتحدّث البعض عن ظاهرة «الإدمان»، لكن لا يوافق جميع الأطباء المتخصصين بمشاكل الإدمان على هذا الرأي. يهدف الإدمان بطبيعته إلى تطوير مشاعر المتعة والراحة، ويظهر بعد فشل متكرر في السيطرة على الذات والإصرار على السلوك السلبي رغم معرفة تداعياته!

لكن مع قصص التشويق، يستطيع القارئ دومًا السيطرة على نفسه ويختبر مشاعر المتعة وينمّي حسّ الفضول لديه. ما من آثار سلبية في هذه الحالة، إذ يذهب القارئ إلى عمله بشكل طبيعي حتى لو لم ينتهِ من قراءة الكتاب المشوّق.

على صعيد آخر، قد نشعر بأننا نتجاوز المحظورات عن طريق القراءة لأن الأهوال التي يرتكبها المجرمون في القصة تبهرنا: تقوم تلك الشخصيات بسلوكيات لا نجرؤ على فعلها وتتماشى مع انفعالاتنا السادية الكامنة. بهذه الطريقة، يمكن أن نستمتع بما نقرأه بكل أمان من دون تكرار الحوادث في حياتنا.

أثر عقدة أوديب

وراء هذه النزعات كلها نجد عقدة أوديب الشهيرة في عالم الطب النفسي! لم يكن أوديب بطل أول قصة تشويق في العالم فحسب (Oedipus the King أوديب الملك)، بل تشكّل هذه الشخصية الأساس البنيوي لمؤلفات الأدب البوليسي كافة أيضًا. في حالات كثيرة، نبحث عن القاتل في القصة كي نكتشف في النهاية أنه الراوي! تتكرّر هذه الحبكة في روايات بوليسية كثيرة.

في السياق الذي تتراجع فيه «مكانة الأب الرمزية»، يرصد التحليل النفسي شعورًا لا واعيًا بالذنب يرتبط بالهوة القائمة بين أغنى الأغنياء وأفقر الفقراء، فضلاً عن شعور السلطة المطلقة الذي يؤجج حالة القلق، لا سيما في الغرب. كلما تطوّر شعور الذنب في اللاوعي، تنجح قراءة قصص التشويق في تقديم راحة متزايدة. أسلوب القراءة في هذه المؤلفات مشوق: تتطور الشرور ثم تتجه إلى الحل قبل أن تتلاشى نهائيًا. تعطي هذه المقاربة أثرًا شبيهًا بالنشوة.

تعد الكاتبة الفرنسية إنغريد ديجور التي اشتهرت برواياتها البوليسية أن زيادة مبيعات هذه الكتب عام 2015 تحمل جانبًا «مُطَهّرًا». بحسب رأيها، تنامت حاجة الكتّاب والقرّاء معًا إلى تطهير عواطفهم عبر الروايات مع زيادة مظاهر القلق ومواجهة الموت مباشرةً في تلك السنة خلال اعتداءات شهرَي يناير ونوفمبر. توضح ديجور: «كانت الكتابة في حالتي أشبه بمُطَهِّر للجروح. كنت أحتاج إلى مخدّر عاطفي».

لجأ أشخاص كثيرون إلى القراءة لتجاوز صدمة الاعتداءات وإيجاد مصدر إلهاء، ولو أنهم لا ينجحون بالكامل في الابتعاد عن الهموم التي تشغل بالهم، لكن تساهم الكتب على الأقل في تصفية الذهن وإعادة النظر في الحوادث الحاصلة.

رأي

الصحافية أودري بولفار: قصص التشويق تكشف سواد الروح البشرية «كنت لا أزال طالبة حين بدأتُ أغوص في عالم قصص التشويق. لم أحصر قراءاتي بهذه الفئة من الروايات، لكن لطالما احتلّت هذه الكتب مكانة مميزة في نظري.

يبقى كتاب Necropolis (المقبرة) للروائي هيربرت ليبرمان المفضّل لديّ. قرأتُه منذ أكثر من 25 عامًا، ولا يمكن أن أتحدث عنه اليوم من دون أن أتأثر. منذ ذلك الحين، بدأتُ أستمتع بأعمال إيلروي ولوكاريه وليفينغستون كافة... في هذه الكتب، لا أتأثر بالحوادث المشوّقة بل بالشخصيات لأن الكتّاب يطرحون حياتها النفسية بسلاسة ودقة.

تسمح هذه التجربة باكتشاف سواد الروح البشرية وإخفاقاتها وتقلباتها وتحديد المسافة التي تركها الكاتب مع أبطاله، تحديدًا ما يتعلق منها بشخصيات المجرمين والفاسدين.

من خلال العلاقة مع الشخصيات، يمكن أن نختبر مشاعر التقارب والنفور... في النهاية لا مفر من أن أتساءل: كيف كنت لأتصرف لو أنني مكانه؟ لكني لا أجد الإجابة مطلقًا!».


عدد القراء: 6202

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-